صراع المصالح يستبق “التعافي المبكر” في سوريا

  • 2022/06/19
  • 9:16 ص

متطوع في الهلال الأحمر السوري يشرف على مشروع شبكة كهرباء في قرية الدمينة الغربية بريف حمص - 18 من حزيران 2022 (صفحة الهلال على فيسبوك)

أمل رنتيسي | ديانا رحيمة | محمد فنصة

تنتظر السوريين معركة في أروقة مجلس الأمن الدولي لتمديد القرار “2585” الخاص بالمساعدات عبر معبر “باب الهوى” الحدودي بين سوريا وتركيا، وسط تخوّف من دور روسي يعرقل التوصل إلى توافق أممي، مع وجود أوراق تصر موسكو على الحصول عليها من بينها “المساعدات عبر الخطوط” بدل “المساعدات عبر الحدود”، وقضية “التعافي المبكر”.

في 9 من تموز عام 2021، جدد مجلس الأمن الدولي القرار لمدة 12 شهرًا على مرحلتين كل منهما ستة أشهر. تضمّن القرار بندًا يرحب بجميع الجهود والمبادرات الرامية إلى توسيع نطاق الأنشطة الإنسانية في سوريا، بما في ذلك مشاريع “التعافي المبكر” أو “الإنعاش المبكر”، كما جاء في ورقة القرار، إذ تهدف هذه المبادرة إلى توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم والمأوى، والتي تضطلع بها “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” ومنظمات أخرى.

جاءت هذه التسهيلات للمنظمات غير الحكومية لـ”توسيع” نطاق أنشطة “التعافي المبكر” في مناطق النظام السوري بالاتفاق بين روسيا وأمريكا بعد مخاوف من استخدام روسيا حق “النقض” (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع تمديد قرار دخول المساعدات عبر “باب الهوى”.

ومع اقتراب موعد تجديد قرار المساعدات عبر الحدود في 10 من تموز المقبل، أعادت روسيا إلى الواجهة مسألة “التعافي المبكر” كذريعة تتخذها الآن لرفضها القرار، وذلك لأن “الغرب لم يفِ بالتزاماته المكتوبة في القرار (2585)، بشأن إنشاء آلية تزويد سوريا بالأموال لبرامج (التعافي المبكر)، التي تم تخصيص 3% فقط منها”، حسب قول المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، في 2 من حزيران الحالي.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين في المجال الإنساني والسياسي مسألة “التعافي المبكر”، كمصطلح في مجال المساعدات والإغاثة الإنسانية والفروق عن إعادة الإعمار، إضافة إلى أهميته بالنسبة لروسيا والنظام السوري واستخدامه شرطًا لمرور المساعدات عبر الحدود على وقع التطورات الدولية الحالية بالنظر إلى الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى مدى أهميته بالنسبة للمدنيين وآلية تطبيقه في سوريا.

مصطلح فضفاض.. ما “التعافي المبكر”؟

يحمل مصطلح “التعافي المبكر” ضبابية في تفسيره، إذ لا يوجد توافق واضح على تعريفه في الدوائر الإنسانية، بحسب ما يذكره تقرير لمركز “السياسات وبحوث العمليات”، إذ من الممكن أن يُنظر إلى  مساعدات التعافي المبكر على أنها تندرج بين إعادة الإعمار من جهة والمساعدات الأممية العادية التي تقدم الغذاء وخدمات المياه والمأوى والصرف الصحي والنظافة من جهة أُخرى.

مكتب الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) بدوره يعرّف “التعافي المبكر” بأنه “نهج يتناول احتياجات الإنعاش التي تبرز خلال مرحلة الاستجابة الإنسانية من خلال استخدام الآليات الإنسانية التي تتوافق مع مبادئ التنمية، هذا النهج يمكّن الناس من الاستفادة من العمل الإنساني لاغتنام الفرص الإنمائية، وبناء القدرة على التكيّف، وإنشاء عملية مستدامة للتعافي من الأزمة”.

عامل يفرغ أكياس وصناديق من المساعدات الإنسانية من ظهر شاحنة في محافظة إدلب- 9 حزيران 2021 (رويترز)

وتضيف الأمم المتحدة بأنه نهج للاستجابة الإنسانية الذي يركّز من خلال التنسيق المعزز وتعزيز القدرة على التكيف وإعادة بناء القدرات أو تعزيزها، والإسهام في حل المشكلات الطويلة الأمد التي أسهمت في حدوث أزمة بدلًا من تفاقمها، وكذلك مجموعة من الإجراءات المدروسة والمحددة لمساعدة الناس على الانتقال من الاعتماد على الإغاثة الإنسانية إلى التنمية.

وفي حديث لعنب بلدي مع الباحث السوري سنان حتاحت، بسّط بدوره المفهوم بأنه “عملية ترميم وتحسين للشؤون المعيشية للسكان في سوريا على مستوى ضيق ومحلي”.

لكن الباحث يرى أن النظام السوري ومن ورائه روسيا يسعى من خلال مشاريع “التعافي المبكر” إلى الالتفاف على العقوبات المفروضة على سوريا، وتخصيص بعض أموال مشاريع “التعافي المبكر” ضمن عمليات “إعادة الإعمار” المحظورة، وكأنها “حجر أساس” لتلك العمليات.

وتستغل روسيا عدم وجود تعريف محدد مُتبع من قبل الأمم المتحدة لـ”التعافي المبكر” بإعادة تعريفه أو توسيع نطاقه ليضم مشاريع “إعادة الإعمار” التي تُحسّن قدرة النظام الحوكمية والخدمية بما يؤهله لتعزيز سيطرته على الشعب السوري، بحسب حتاحت.

أما الباحث السياسي في مركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC) والزميل الزائر في الجامعة الوطنية الأسترالية سامي عقيل، فيرى أن المشكلة الأساسية حول المصطلح هو عدم وجود تعريف موحد من قبل المنظمات الدولية والدول بشكل عام، وأن كل دولة ومنظمة تنظر إلى مسألة “التعافي المبكر” بمنظور مختلف، وهذا سبّب مشكلات كبيرة في القرارات.

ووفق عقيل، فإن “التعافي المبكر” هو “استعادة الخدمات الأساسية والإنسانية حتى تسمح للمتضررين بدعم أنفسهم بشكل مستقر أكثر، والهدف منه تخفيف الاعتماد على المنظمات الإغاثية”.

وبالنظر إلى مسألة التعريف، يأتي الاصطدام الأول حول الخدمات الأساسية والمتضررين الذين تنظر إليهم الولايات المتحدة أو الدول الغربية بمنظور مختلف عن روسيا، في ظل وجود تقسيمات في سوريا بين شمال شرقي وشمال غربي ومناطق سيطرة النظام، إذ تشكّل هذه الحيرة المسألة الأساسية، حسب عقيل.

ثلاثة فروق بين “التعافي المبكر” و”إعادة الإعمار”؟

1- يقع وضع خطط إعادة الإعمار وتنفيذها على عاتق الدولة، بينما يتم تخطيط وتنفيذ “التعافي المبكر” من قبل منظمات الإغاثة، سواء كانت مركزية تأتمر بأمر هيئة إدارية واحدة كالأمم المتحدة مثلًا أو من قبل منظمات فردية.

2- “التعافي المبكر” شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، أما إعادة الإعمار فليست كذلك، إذ يمكن أن تأتي إعادة الإعمار على شكل قروض ميسرة من منظمات منفردة أو متعددة الأطراف كصندوق النقد أو البنك الدولي، أما “التعافي المبكر” فما هو إلا نوع من أنواع المساعدة الإنسانية التي لا تستلزم السداد لاحقًا.

3- تترتب أولويات “التعافي المبكر” تبعًا للاحتياجات الإنسانية، حاله في ذلك حال أشكال المساعدات الإنسانية الأخرى، أما إعادة الإعمار فليست كذلك بالضرورة.

المصدر: مركز “البحوث والسياسات” (OPC)

دخول قوافل المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى في إدلب – 2 حزيران 2021 (عنب بلدي / إياد عبد الجواد)

شرط روسي لمرور المساعدات

“التعافي المبكر”.. حجة هذا العام

يتشابه “سيناريو” تجديد قرار إدخال المساعدات عبر الحدود هذا العام مع سابقه في ظل تلويح روسي جديد باستخدام “الفيتو”.

كانت حجة روسيا عام 2021 عبر تصريحات مسؤوليها، أن المساعدات التي تصل إلى إدلب في الشمال السوري “مسيّسة”، وأن “المسلحين” يمنعون وصولها إلى المدنيين، وفقًا لما نقلته قناة “RT” الروسية حينها على لسان المبعوث الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، إضافة إلى تشديده على أن المساعدات عبر الحدود من تركيا انتهاك لسيادة سوريا، قائلًا، “السلام في سوريا مرتبط بتحقيق السيادة الكاملة للحكومة السورية”.

أما هذا العام ومع اقتراب موعد تجديد القرار، فصارت حجة “التعافي المبكر” و”إعادة الإعمار” ما يتردد على لسان المسؤولين الروس، إذ عاود لافرنتييف القول، “لم ينفذ الغرب جميع الالتزامات التي وعد بها قبل عام بشأن تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، ولذلك فإننا سنبحث، غالب الظن، مسألة إلغاء آلية المساعدات عبر الحدود”.

وحول أهمية مسألة “التعافي المبكر” بالنسبة لروسيا والنظام السوري، حدد الباحث السياسي في مركز “السياسات وبحوث العمليات” سامي عقيل، في حديثه لعنب بلدي، سببين لتصدير روسيا هذه القضية أمام المجتمع الدولي.

الأول هو ارتباط “التعافي المبكر” بمسألة شرعية النظام السوري، إذ تريد روسيا أن تمر المساعدات الإنسانية عبر دمشق وفي مناطق سيطرة النظام لتعزيز صورة “الحكومة الشرعية” وإعادة تأهيله أمام المجتمع الدولي، وخاصة أن النظام السوري لا ينفك يردد أن المساعدات عبر الحدود “لا تحترم معايير الحفاظ على سيادة واستقلال الأراضي السورية”، على حد قول مندوب النظام السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، بسام صباغ.

والسبب الثاني، وفق عقيل، يرتبط بقضايا مالية، فروسيا والنظام السوري، وحتى إيران، ليست لديها القدرة على تمويل المشاريع التي تُعتبر بشكل عام في سياق “التعافي المبكر”، والتي يُمكن أن يُنظر إليها على أنها مشاريع “إعادة إعمار”.

عدم وجود القدرات المالية وخاصة بعد الحرب على أوكرانيا صار سببًا أساسيًا لتركيز روسيا على مسألة “التعافي المبكر”، لا سيما في مناطق سيطرة النظام، التي تشهد وضعًا اقتصاديًا متدهورًا، والتي تريد حصة من “الكعكة”، بإشارة إلى مساعدات الدول للمشاريع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، حسب عقيل.

وفي آخر تقدير للأمم المتحدة حول الاحتياجات الإنسانية في سوريا، قال المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن حوالي 14.6 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية هذا العام، بزيادة قدرها 1.2 مليون شخص أو 9% على عام 2021.

على وقع الخلاف الأمريكي- الروسي

“الغزو” الروسي لأوكرانيا خلّف تصعيدًا دوليًا بين روسيا من جهة والتحالفات الغربية من جهة أخرى التي فرضت حزمًا من العقوبات الاقتصادية.

ونظرًا إلى ارتباط روسيا مع دول أُخرى بتوزع القوى في سوريا، حذر دبلوماسيون من عدة دول من استخدام روسيا ورقة المساعدات الإنسانية في سوريا، خلال مساومتها مع القوى العالمية في “غزوها” لأوكرانيا، وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في 28 من أيار الماضي.

وقال الدبلوماسيون للصحيفة، إن “روسيا بعثت بإشارة غامضة بأنها قد تحاول استخدام التصويت بسبب الوصول إلى طريق مسدود بشأن أوكرانيا”.

ونوّهت الصحيفة إلى تصريح نائب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، الذي قال إن “موسكو لم تقرر بعد كيفية التصويت”، مشيرًا إلى أن “المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة قد توقفت في الوضع الجيوسياسي الحالي”.

وتوقع الباحث سامي عقيل أن التطورات الدولية بعد الحرب في أوكرانيا سيكون لها دور أساسي في موضوع تجديد أو عدم تجديد القرار الأممي “2585”، مرجحًا أن تشكّل هذه القضية العامل الأكبر في قرار روسيا، بعكس ما تدعيه علنًا أن ضعف تمويل “التعافي المبكر” هي الإشكالية الآن، فالدول لم تسهم بتخصيص أموال لـ”التعافي المبكر” لعدم ثقتها بروسيا والنظام السوري، لا سيما بعد الحرب على أوكرانيا، فهذه نقطة أساسية يجب النظر فيها من منظور جيوسياسي أكثر من منظور محلي متعلق بالملف السوري.

الطرف الروسي قد يقول علنًا إن السبب الرئيس عدم وجود أو دعم برنامج “التعافي المبكر” مثل ما تم الاتفاق عليه في المفاوضات التي حصلت منذ ستة أشهر، لكن أرجّح أنه إذا تم الاعتراض على القرار فسيكون السبب الرئيس هو التلاعب الجيوسياسي الذي يحدث بين أمريكا وروسيا.

الباحث السياسي في مركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC) والزميل الزائر في الجامعة الوطنية الأسترالية سامي عقيل

أشار سامي عقيل إلى أن تركيا قد تضغط للحؤول دون أن تخطو روسيا هذه الخطوة، إذ تتخوف تركيا من أن قرار الإغلاق سيخلق كارثة إنسانية في الشمال السوري وموجة لجوء جديدة، الأمر الذي سيؤثر سلبًا على العلاقات بين تركيا وروسيا.

وفي سياق التنازلات المطروحة خلال مساومة روسيا القوى العالمية، سبق أن قدمت أمريكا تنازلات عبر إعادة صياغة قانون العقوبات من قبل “الخزانة الأمريكية” تجاه سوريا، والتي سمحت إلى حد ما بقيام المنظمات الإنسانية وتمكين الدعم الدولي بـ”التعافي المبكر”.

وفي 24 من تشرين الثاني 2021، نشرت وزارة الخزانة الأمريكية توضيحات خصصت على وجه التحديد توسيع التصاريح للمنظمات غير الحكومية للانخراط في أنشطة ومعاملات “التعافي المبكر” في سوريا لأول مرة.

وتشمل الأمثلة على هذه الإعفاءات الجديدة، استعادة الخدمات الصحية، وإعادة تأهيل المدارس، وتجديد المطاحن، وحماية مواقع التراث الثقافي، وشراء النفط المكرر من أصل سوري لاستخدامه داخل البلد، وكذلك الدخول في “معاملات معيّنة” مع عناصر من حكومة النظام السوري.

ويُنظر إلى تسهيل الولايات المتحدة أنشطة “التعافي المبكر” على أنها “سلعة إنسانية” ضرورية للحصول على موافقة روسيا لتجديد قرار دخول المساعدات عبر الحدود، كما أوضحت دراسة صادرة عن مركز “COAR” للتحليل والأبحاث.

أنا قلق للغاية بشأن تمويل الإدارة الأمريكية لما يسمى بمشاريع “التعافي المبكر” في المناطق التي يسيطر عليها النظام، هذه الأنشطة تطمس الخط ضد إعادة الإعمار التي يحظرها قانون “قيصر”، وتفتح باب التطبيع مع الأسد.

السيناتور الأمريكي من الحزب “الجمهوري” جيم ريتش، خلال جلسة لجنة العلاقات الخارجية حول السياسة الأمريكية في سوريا

من جهته، أكّد الاتحاد الأوروبي في بيان مشترك مع ممثلين عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجامعة الدول العربية، أن الوصول إلى المساعدة الإنسانية المنقذة للحياة يجب أن يتوفر من خلال جميع الطرق بما في ذلك “عبر الحدود” و”عبر الخطوط”، وكذلك مشاريع “التعافي المبكر” المتوافقة مع قرار مجلس الأمن رقم “2585”.

وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد يلتقي المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي ديفد بيزلي والوفد المرافق له في دمشق – 10 تشرين الثاني 2021 (وزارة الاعلام)

إلى أي درجة يخدم “التعافي المبكر” المدنيين؟

الفكرة الرئيسة من “التعافي المبكر” هي إقامة مشاريع صغيرة فيها ترميم البنية التحتية على مستوى محلي جدًا، فمن الطبيعي أن يخدم السوريين على المدى القصير، بحسب ما قاله الباحث السوري سنان حتاحت، لعنب بلدي.

ولكن مدى نجاعتها على المدى المتوسط والبعيد مرتبط بشكل أساسي بديمومتها وبنوعية الحلول المعمول بها، فيما إذ كان يمكن أن تتطور أو أن يُبنى عليها، ويتم تقييمها بكل حالة على حدة.

على سبيل المثال، تقوم مشاريع “التعافي المبكر” بترميم البنية التحتية لشبكة توزيع الكهرباء، سواء في مناطق النظام أو في مناطق المعارضة، وفائدتها بأنها ترمم الشبكة الموجودة، ويستطيع الناس من خلالها الاستفادة من الكهرباء في مناطقهم بعد أن كانت مقطوعة عنهم.

بينما من المشاريع الأُخرى غير القابلة للاستدامة ضمن “التعافي المبكر” مشاريع المياه مثلًا، التي من الممكن أن تسبب ضررًا بيئيًا لأن بعضها يتعلق بحفر الآبار والاستخدام الجائر للمياه الجوفية، والتي ممكن أن تقضي على البنية المائية للمنطقة، في حين أن الحلول البديلة المستدامة تتطلب استجرار مياه من بحيرات قريبة أو من مسطحات مائية موجودة، وفق ما قاله حتاحت لعنب بلدي.

إمكانية الوصول إلى المستفيدين

من جهتها، ترى الزميلة في برنامج الشرق الأوسط بمركز “الدراسات الاستراتيجية والدولية” ناتاشا هول، أن “التعافي المبكر” يعني الكثير من الأشياء المختلفة التي لا تندرج بالضرورة في مجموعة “التعافي المبكر”، ولكن يتم تعميمها في جميع الأنشطة.

وأوضحت الباحثة، في حديث إلى عنب بلدي، أن السوريين يمكن أن يستفيدوا من برامج “التعافي” إذا كانوا قادرين على الاستفادة، أي لديهم الوصول إلى هذه المنظمات التي تنفذ المشاريع، وإذا كانت هذه الأنشطة تتماشى مع المبادئ الإنسانية.

مشاريع “التعافي المبكر” مثلها مثل أعمال الإغاثة الأخرى، قد لا تفيد أولئك الذين لا يستطيعون العودة إلى ممتلكاتهم أو المطالبة باسترجاعها أو الذين لا تستطيع وكالات الإغاثة الوصول إليهم.

يمكن أيضًا أن تتفاقم قضايا السكن والأراضي والممتلكات، التي سببتها سنوات الحرب دون قدر كبير من الاهتمام بالسياق وحساسية النزاع، وليس من الواضح ما إذا كانت المنظمات لديها القدرة على ذلك داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، بحسب هول.

وأشارت إلى أن المنظمات تحتاج إلى فهم البيئة التي تعمل فيها والبيئة التي يعيش فيها المستفيدون المحتملون، الأمر الذي يتطلّب وجود قنوات تغذية آمنة ومناسبة للمستفيدين ودراسات معمقة حول السياق في كل منطقة.

وتعتبر المناطق المتأثرة بالنزاع أماكن صعبة لمثل هذا العمل، باعتبارها أكبر أزمة نزوح وأزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تمثّل سوريا واحدة من أكثر الحالات تعقيدًا، حسب وصف الباحثة.

المشكلة ليست في الآلية.. بل بالتطبيق

الطبيب السوري محمد كتوب، والناشط في المجال الإنساني والعامل السابق في مجال المساعدات والمناصرة، أوضح لعنب بلدي أن المشكلة ليست بمفهوم “التعافي المبكر”، ولكن في تطبيقه.

ويعتبر كتوب أن “التعافي المبكر” هو استجابة تبدأ منذ الأيام الأولى للاستجابة الإنسانية، وتهدف إلى تجنب الآثار الطويلة الأمد للكارثة وبناء القدرات المحلية وتعزيز مقاربة وطنية لمرحلة إعادة الإعمار، وهذا لا يجب أن يُحرم السوريون منه، ولكن لا يجب أن يكون في قبضة النظام السوري ليستخدمه لتعزيز نفوذه، ولا يجب أن يسهم في المزيد من تسييس المساعدات، بحسب كتوب.

كما يرى كتوب أن المشكلة تكمن بأن المنظمات الإنسانية في سوريا كانت مسيّسة جدًا، واستخدمها النظام مرارًا وتكرارًا في كل الطرق، سواء للاستفادة ماليًا من خلال إفسادها، أو استخدام المساعدات كثواب وعقاب للمجتمعات حسب انخراطها في الحراك ضده أو حسب توجهها السياسي.

“التعافي المبكر” مفيد بالطبع للسوريين، ولكن يجب قبل ضخ المساعدات تحت هذا الإطار تحييد الآليات عن نفوذ النظام وبقية قوى الأمر الواقع التي تسيطر على أجزاء أخرى من سوريا، ودون ذلك ستكون أي مساعدات تصب في مصلحة النظام وليس في السوريين، حسب كتوب.

ويتفق الناشط في المجال المدني والإنساني الدكتور زيدون الزعبي مع كتوب على أهمية “التعافي المبكر”، حتى لا يبقى الناس معتمدين على السلال الغذائية في بلد اقتصادها معدوم.

ولا يستبعد الزعبي، في حديث إلى عنب بلدي، استغلال سلطات الأمر الواقع والنظام للآلية، معتبرًا أن المخاوف هي ذاتها في أي آلية أخرى، فتقديم المساعدات في إدلب يثير مخاوف من تقديم الفائدة لـ”هيئة تحرير الشام”، وتقديمها في دمشق يجدد المخاوف من استغلال النظام.

لكنه أشار إلى أن السلطات تستفيد أكثر من اقتصاد الحرب الناجم عن وجود مساعدات إنسانية دون اقتصاد حقيقي، كتجارة المخدرات، وتجارة السلاح، والتهريب، وتبييض العملة، التي تزدهر وقت الحرب وتجيدها سلطات الأمر الواقع.

صورة من الوقفة التضامنية بالقرب من “معبر باب الهوى” الحدودي مع تركيا – 2 تموز 2021 (عنب بلدي)

مَن ينفذ مشاريع “التعافي المبكر”

الباحث سنان حتاحت قال لعنب بلدي، إن معظم المشاريع التنموية التي تدخل في إطار “التعافي المبكر” لن يتم تنفيذها من خلال شركاء محليين، وتختلف طبيعة الشركاء من منطقة نفوذ الى أخرى، كمنظمة “الهلال الأحمر السوري”، و”الأمانة السورية للتنمية” التابعة لأسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، والتي لديها اليد الطولى في التحكم بشكلها.

وبالتالي فإن النظام بالتأكيد يستفيد منها، ويتدخل في اختيار المناطق التي تطالها المساعدات وفي وضع الفئات الشعبية التي تستفيد منها، بينما تعتبر المناطق الواقعة تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” أقل تدخلًا من مناطق النظام، ويعود ذلك إلى الجهة المسيطرة، وفق حتاحت.

وأشار إلى أنه بالإضافة للمنفذين المحليين، توجد منظمات كمنظمة “Syria Recovery Trust Fund” التي تتمتع باستقلالية كبيرة، وتتعاون مع “الحكومة المؤقتة” في مناطق شمالي حلب، ومع “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، والتي تعتبر من الجهات الأكثر قدرة على تنفيذ المشاريع بتدخل أدنى من قبل الجهات الحكومية المحلية.

بدوره، أشار الباحث السياسي سامي عقيل، في حديثه لعنب بلدي، إلى المنظمات المستقلة مثل “The Norwegian Refugee Council” و”Danish Refugees Council” وهي منظمات دولية وإغاثية تعمل بصيغة مستقلة في كل أنحاء سوريا.

فهذه المنظمات تحدد أولويات المساعدات من طرفها، ولها الحصة الكبرى في تطبيق برامج “التعافي المبكر”.

وبنفس الوقت، تسهم الأمم المتحدة أو الدول منفردة، كأمريكا، بملف “التعافي المبكر”، لكنّ هناك ترددًا من قبل الدول لدعم هذه الأنشطة لأسباب سياسية، وبنفس الوقت لأسباب استراتيجية، وهذا ينعكس على تمويل “التعافي المبكر” من قبل المنظمات الدولية والدول الذي يقارب رقم 3%.

أما حول إسهام الدول في “التعافي المبكر”، فهو لا يغطي إلا جزءًا رمزيًا فقط من أموال المساعدات للأمم المتحدة المخصصة لسوريا، وتمنح هذه الدول الجزء الأكبر للمنظمات التابعة لها، والتي لديها اطلاع أكبر إلى أين تذهب الأموال بالتحديد، كالنرويج مثلًا التي تعطي دعمًا ماليًا للأمم المتحدة، لكن الجزء الأكبر يذهب للأموال المخصصة للمنظمات التابعة لها مثل “The Norwegian Refugee Council”، وفق عقيل.

وكمثال آخر، أعطت ألمانيا ضمن خطة الاستجابة الإنسانية في سوريا لعام 2021 مبلغ أربعة ملايين و928 ألف دولار تقريبًا، خُصص من المبلغ الكامل ما نسبته 0.1% لـ”التعافي المبكر وسبل العيش”، حسب البيانات التي يتيحها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

الاصطدام بغياب الشفافية

للنظام السوري سجل حافل في سرقة المساعدات، سواء من خلال توزيعها حصريًا في المناطق الموالية له، أو التلاعب بسعر صرف المساعدات، أو الفساد، أو توظيف عمال المساعدات والمشتريات من دوائره.

وأدى ذلك إلى ردع الحكومات المانحة عن تمويل المواد غير الأساسية مثل مساعدات “التعافي المبكر”، إذ وصلت نسبة المساعدات الموجهة لمشاريع “التعافي المبكر” في وكالات الأمم المتحدة لعام 2021 إلى 8.8%، وإلى 4% في العام الحالي، بينما تدعو خطة الاستجابة الإنسانية الأممية لعامي 2022- 2023 إلى 247.6 مليون دولار أمريكي لمشاريع “التعافي المبكر وسبل العيش”.

ويؤكد النظام السوري باستمرار أهمية المساعدات الأممية ومشاريع “التعافي المبكر” ودورها في دعم “صمود سوريا”، إذ صرح مندوب النظام السوري بالأمم المتحدة، في آذار الماضي، أن دولًا أجنبية (لم يحددها) تعرقل الجهود المبذولة لبدء مشاريع “التعافي المبكر”، التي يمكن أن تساعد في بناء سوريا “أكثر أمانًا وقدرة على الصمود”.

ويطرح التمويل المنخفض للمساعدات الموجهة لمشاريع “التعافي المبكر”، والذي نسبته 4% من مجمل الدعم الأممي، تساؤلًا حول تردد الدول في دعم هذه المشاريع، رغم التسهيلات التي قدمتها أمريكا في سياق العقوبات، إذ يرى الباحث السياسي سامي عقيل، أن هذه التسهيلات لم تكن كافية بسبب تردد الدول بدعم البرامج داخل منطقة سيطرة النظام لا سيما في ظل التلاعب بالعملة والفساد وغياب الشفافية.

وتحقيق الشفافية برأي عقيل صعب في هذه المسألة، وخاصة في مناطق سيطرة النظام، معتبرًا أن “المثير للسخرية” هو أن أكبر عائق في وجه دعم مشاريع “التعافي المبكر” التي يطالب بها النظام السوري هو النظام نفسه، فعدم شفافيته والتلاعب بالعملة والفساد أدت إلى عدم الثقة بهذه المنظومة السياسية، وليس فقط من المنظمات الدولية، بل من المنظمات الإغاثية التي أصبحت تفكر بكيفية تطبيق البرامج بشكل كافٍ ودعم المستحقين في ظل تعنّت النظام السوري لمنع فرض الدول أو المنظمات أي آلية لتحقيق الشفافية.

تقوم الأمم المتحدة بتوصيل المساعدات عبر الحدود السورية – 15 كانون الثاني 2020 (OCHA)

ما أدوات تحييد “التعافي المبكر” عن أطراف النزاع

يرى الطبيب والناشط في المجال الإنساني محمد كتوب، أن مفهوم “إعادة الإعمار” ربطته عدد من حكومات الدول المانحة بالتغيّر السياسي في سوريا، الأمر الذي يعتبر مشكلة أيضًا، فلربما تأتي حكومات أكثر فسادًا وتسييسًا للمساعدات، وبالتالي يجب أن يتحول شرط المساعدات من شرط سياسي إلى شرط مبني على الحقوق والمحاسبة أمام المجتمعات المستفيدة، بحسب ما قاله كتوب لعنب بلدي.

استطاع النظام خلال عشر سنوات من الاستجابة الإنسانية استخدام المساعدات بشكل كبير لمصلحته، ابتداء من التوظيف، إلى تخطيط المساعدات، وعمليات الشراء وتحويل الأموال، ونهاية بالتحكم بتحديد الفئة المستفيدة، وبالتالي فإن أي مساعدات تقدم دون تجاوز كل ذلك تعني المزيد من الاستفادة للنظام.

ويمكن منعه عبر تجاوز هذه العقبات ووضع آليات تعزز الرقابة على المساعدات ومساءلة الوكالات أمام المانحين وأمام المجتمعات المستفيدة.

بدوره، يرى الدكتور زيدون الزعبي، أن الأدوات التي يمكن من خلالها تحييد أطراف النزاع محدودة، لكن “التعافي المبكر” بحد ذاته أداة، لأنه أداة قائمة على كسر الحدود التي تقسّم البلد، فالمشاريع العابرة للجغرافيا بحد ذاتها تكسر سيطرة سلطات الأمر الواقع على المساعدات.

مقالات متعلقة

ملفات

المزيد من ملفات