فادي القاضي
من الممكن أن يذهب الجموح، الفكري منه على الأقل، باتجاه أن الإشارات التي تتوفر هنا وهناك، لدى نظام بشار الأسد وداعميه ومن يقاتلون معه وبالنيابة عنه، أو معارضيه وداعميهم ومموليهم، هي إشارات تقود إلى قرب الجلوس حول طاولة مفاوضات تُفضي إلى نهاية الحرب في سوريا.
وبالرغم من أننا لا نعرف على وجه الدقة، ولا حتى نتكهن، ماهية المفاوضات التي قد تجري، والشروط التي قد تتم بموجبها، إلا أن من الواضح جيدًا أن هناك العديد من الآمال التي تعقد على قرب نهاية الحرب. ومع هذه الآمال تستيقظ أفكار ما بعد الحرب، وليس أقل هذه الأفكار مواضيع إعادة الإعمار والبنية التحتية وما شابهها، وليس أكثرها طرح مفاهيم مثل ضرورة انعقاد مسار للعدالة الانتقالية في بلاد أنهكتها الحرب.
ويفترض الاصطلاح توفر شرطين أساسيين:
أن يكون هناك وضعٌ انتقالي، بمعنى أن يبدأ تحرك إطار الدولة ومنظومة الحكم فيها، وفلسفتها ومحتواها، من الحالة التي كانت سائدةً (واستوجبت الانتقال) إلى حالة أخرى جديدة تقوم على شروط، في حدها الأدنى، توفر ضمانات للحرية واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة (كي نتجنب استخدام مصطلح “الديمقراطية”).
والثاني، أن يترافق الوضع الانتقالي مع مسار للعدالة، بحيث تتحق شروطٌ ثلاث: جبر الضرر عما جرى من ممارسات وانتهاكات وجرائم على يد السلطة القائمة في الوضع القديم؛ والمُساءلة بمعنى المحاسبة والانتصاف؛ وأخيرًا إصلاح المؤسسات الفاسدة بما يتضمنه ذلك من إصلاح لبنية وعقيدة وطرائق عمل المؤسسة الأمنية.
إلى حدود اللحظة الراهنة، لا تتوفر أي من مقومات الشرطين السابقين في سياق الوضع في سوريا. وهذه ليست مفاجأة بحد ذاتها، كون الحرب ما زالت دائرة ولربما بأشكال أكثر عنفًا مما مضى. وأعتقد أنه من الضروري التمسك، وفي أي مرحلة من المراحل المقبلة، بمبدأ أن العدالة من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ليست رهنًا ببدء أو انطلاق مسار العدالة الانتقالية. فالعدالة المطلوبة للنظر في حجم هائل وغير مسبوق من الجرائم المذكورة، هي عدالةٌ “دولية” بحاجة إلى أن يتم تكريسها كمدخل (ولربما كشرط) لبدء أي مسار من مسارات العدالة الانتقالية، لاحقًا.
ليس هناك في الوقت الحالي من باستطاعته توفير ضمانات على قيام أي من نوعي العدالة المذكورَين في سوريا. لكن أمورًا كهذه يجب ألا تسقط في النسيان، بسبب ضعف المُطالبين بها، أو بسبب سوء الإدراك. العدالة مطلب لا يمكن فصله عن مسار الصيرورة السوري، ليس الآن ولا غدًا، ولا في القريب أو البعيد من الزمن.