عنب بلدي- ضياء عاصي
“نقطة عبور”، هذا ما تعنيه اسطنبول التي ضاقت أرضها بالشاب خالد محمد (23 عامًا)، القادم إلى هذه المدينة من دمشق منذ سبعة أشهر، في كانون الثاني 2021، على أمل أن يركب رياح الهجرة إلى أوروبا.
خالد، الذي ينحدر من مدينة درعا جنوبي سوريا، ينتظر داخل سكنه، وهو غرفة صغيرة “مؤقتة” في حي الفاتح باسطنبول، اتصالًا من “المهرب”، حتى يصل إلى أعتاب الخطوة الأولى.
لم تمنح اسطنبول، أو أي ولاية أخرى، خالدًا ما مُنح إبليس، أن يُنظر في الأرض، إذ يتنقل الشاب على خفية من الأعين لحمله وثيقة تفيد بإمكانية حصوله على بطاقة “الحماية المؤقتة” (كملك)، لكنه لم يحصل عليها، ولن يحصل، حسب قوله.
مقيّد بين السماء والأرض، بلا عنوان أو قيد، أو وطن يركن إليه وقت الشدة، لأجل ذلك يحاول خالد أن يجد له موطئ قدم، يمنحه قطعة من ورق تثبت أن له حقًا في العيش، وربما شيئًا من الاستقرار الذي يغلي على نيران المصير المتقلب.
شرارة الحماسة الأولى
لم يكمل خالد ثلاثة أيام عند وصوله إلى اسطنبول، حتى قام بأول محاولة عبور نحو اليونان، عبر الطريق البري من مدينة أدرنة في الجهة الشمالية الغربية من الجزء الأوروبي لتركيا، التي يفصلها عن اليونان نهر “إيفروس” الحدودي بطول 530 كيلومترًا، يشكّل منها 230 كيلومترًا الحدود البرية الوحيدة المشتركة مع اليونان.
عبر خالد النهر فعلًا، ليأخذ الطريق “القصير” المؤدي إلى أوروبا سيرًا على الأقدام، والذي ربما يستغرق بضعة أيام للوصول إلى وجهته، لكن رحلته كانت أقصر من طريقه، لتقبض عليه مجموعات “الكوماندوز” اليونانية في اليوم نفسه، وتعيده قسرًا إلى ضفة النهر على الحدود التركية.
لم تنتهِ الحكاية، إذ عاود خالد المحاولة مرات عدة.
يروي خالد لعنب بلدي قصته وقصة المئات غيره، في العودة من اليونان إلى تركيا، قصة تخللتها الآمال والآلام، كان الهاجس الوحيد فيها، ألا يواجهوا خطر الترحيل إلى سوريا، عند كل محاولة وإعادة قسرية.
نصف ساعة عاشها خالد داخل اليونان، انتهت عند لحظة الاعتقال، لتبدأ معاملة العودة، إذ استولى “الكوماندوز” على أشيائه من الحقيبة التي يضع فيها الطعام إلى “المنامية” التي يفترشها للنوم في الغابات، وأغراض أخرى يحملها من هاتف وأموال، ثم توجهوا به ومجموعته إلى السجن، حفاة الأقدام بعد أن اضطروا إلى خلع أحذيتهم.
بقي خالد بالسجن سبع ساعات، حتى امتلأ بالمهاجرين الذين ينتظرون الخلاص واقفين على أقدامهم، لضيق المكان، إلا أن تكدّس المكان ينبئ بقرب لحظة الانفراج، بحسب ما قاله خالد، إذ يشرع “الكوماندوز” حينها بإفراغ السجن لإعادة المهاجرين إلى الحدود التركية.
محاولات عدة ومصير واحد
لم يتوانَ خالد، الذي كان مندفعًا بالحماسة للوصول إلى أوروبا، عن محاولة أخرى بعد محاولته الأولى بأسبوع تقريبًا، لتبوء هي الأخرى بالفشل، لكن خيبات الأمل هذه لم تقلل من عزمه، فأقدم على محاولة ثالثة بعد ذلك بنحو أسبوعين.
فشلت المحاولة كسابقاتها، كأن حرس الحدود رصدٌ على رؤوس الطرق، وقبل حلول الشتاء الذي يجعل من رحلة اللجوء شبه مستحيلة، قرر خالد أن يقوم بمحاولة رابعة بعد ذلك بنحو ثلاثة أسابيع، لكنها واجهت المصير ذاته.
حلّ الشتاء، وجلس خالد في انتظار ملاءمة الأجواء، ليتوّج محاولاته بأخرى خامسة، أواخر أيار الماضي، لكن السيناريو تكرر نفسه، اعتقال وتوقيف في مركز الاحتجاز في اليونان، ثم العودة القسرية بسيارات كبيرة إلى الحدود التركية، وإرسالهم بالقوارب المطاطية إلى الجانب التركي.
عند عودته الأخيرة مع مجموعته، إذ بلغ عددهم قرابة 300 شخص، لاحظ خالد معاملة جيدة من حرس الحدود الأتراك، حيث قام الحرس بإشعال النار لهم للتدفئة وقدموا لهم أحذية، كانوا قد خلعوها مرغمين في اليونان.
مبدأ عدم الإعادة القسرية هو حجر الزاوية في الحماية الدولية للاجئين، حيث يحظر الترحيل القسري للاجئين إلى الأراضي التي يتعرضون فيها لخطر الاضطهاد. وهو منصوص عليه في المادة “33” من اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، وهو مبدأ أساسي لا يسمح بأي انحراف عنه.
مبدأ عدم الإعادة القسرية هو القانون الدولي العرفي، وعلى هذا النحو، فهو ملزم لجميع الدول، بما في ذلك الدول غير الأطراف في اتفاقية عام 1951 أو بروتوكول عام 1967 بشأن وضع اللاجئين. |
القدر يكمن في التفاصيل
في المحاولة الثانية، استطاع خالد عبور الغابة، واجتاز الطريق العام (أوتوبان)، الذي يعتبر بداية الانطلاق إلى الداخل اليوناني، قطع خالد أربع قرى على طول الطريق، ثم وصل إلى ما يسمى “نقطة التحميل” بعد سير ثماني ساعات، وانتظر قدوم السيارة التي تُقله إلى سالونيك شمالي اليونان.
دقائق على قدوم السيارة، ربما كانت الفيصل بتحول خارطة الطريق، لكن سرعان ما اكتشف “الكوماندوز” نقطة وجود خالد ومجموعته وقام باعتقالهم، ليعيدهم سيرتهم الأولى.
في محاولته الثالثة، وصل خالد إلى “نقطة التحميل”، لكن السيارة لم تأتِ في الموعد هذه المرة، لينتظر خالد ومن معه أربعة أيام على أمل الوصول، حتى نفد طعامهم وشرابهم، واضطروا حينها لتسليم أنفسهم إلى الشرطة طواعية.
ثماني ساعات من كل يوم، على مدار 16 يومًا، قضاها أحمد الديري (28 عامًا) ماشيًا في غابات اليونان عبر الطريق “الطويل”، المنخفض التكلفة.
أحمد، من مدينة دير الزور شرقي سوريا، تحدث هو الآخر عن رحلته الطويلة، المليئة بالمتاعب، التي استغرقت 16 يومًا مشيًا على الأقدام، حتى “نقطة التحميل” الأولى، التي تأتي فيها السيارة لتقلهم إلى وجهتهم الأخرى.
انتظر أحمد ثلاثة أيام حتى قدوم السيارة، لكن الحظ لم يحالفه بالركوب من أول مرة، إذ لم تتسع السيارة، فاضطر للبقاء يومًا آخر.
يوم واحد لم يكن ليفرق عند أحمد، الذي انتظر كل هذه المدة، آملًا أن يتجاوز آخر نقطة باليونان، وعندما استقل سيارة المهرب في اليوم التالي، لم تدم رحلته طويلًا حتى وقع في شباك “المخابرات”، التي اشتبهت بهم وأوقفتهم ثم أعادتهم إلى تركيا.
الراعي والذئب.. لا تأمن الأغنام
شهد خالد مغامرة في محاولته الأولى، وبعد عبوره الشارع الرئيس، وقطعه الغابة في اليونان، وصعود أحد الجبال عند الساعة الثالثة فجرًا، واجهته ثلاثة ذئاب، وكان برفقته بعض العوائل التي أُصيبت بالهلع، لكن الأشخاص الذين يقودون الرحلة والمعروفين بـ”الريبرية”، وأغلبهم من حملة الجنسية الباكستانية، كانوا معتادين على التعامل مع مثل هذه الأمور.
أمر “الريبرية” وهم ثلاثة أشخاص، خالدًا ومجموعته بعمل دائرة صغيرة، ثم أحاطوا بهم، وقاموا بإضرام النار باستخدام قطع قماش علّقوها على أعواد خشبية، وبدأ اثنان منهم بإبعاد الذئاب حتى استطاع الثالث المضي مع المجموعة نحو نقطة انطلاق ثانية.
وصف خالد الموقف بـ”الصعب”، بين ويلات وعورة الطريق الجبلي مع إنهاك المسير، وبين خوفهم من أن يذهبوا قرابين للذئاب أو أن يقبض عليهم الحرس اليوناني.
على النقيض من هذه المغامرة، لم يكن الذئب مصدر الخوف في حكاية أحمد الديري، بل كان راعي الأغنام نفسه، الخطر المحدق، إذ تلقى أحمد قبل ذهابه إلى اليونان توجيهات بتغيير الطريق في حال سمع صوت الراعي، الذي يجول الجبال لإطعام ماشيته، ويقوم بإرشاد السلطات إلى أماكن وجود المهاجرين عند ملاحظتهم، وهي مهمة يتولاها بصورة غير رسمية.
ضاق أحمد ورفاقه ذرعًا من تغيير مكانهم مرات عدة مع اقتراب صوت الراعي منهم، واصفًا الموقف بـ”المطاردة”، إلا أنه استسلم في النهاية لحتمية مواجهة الراعي، مجسدًا المشهد قائلًا، “اختبأنا، لكن وجدنا الراعي وقد أصبح أمامنا، نظر إلينا نظرة الخائف، وقال لنا: أفغان، قلنا له بل سوريون، قال حسنًا، نحن لا نخاف من السوريين”.
بعد أن بانت بوادر الود من الراعي، طلب أحمد ورفاقه أن ينقلهم بسيارة إن أمكن، لكن الراعي رفض تحمل المسؤولية القانونية، وعرض عليهم بدلًا من ذلك الحليب والأكل، شكر أحمد الله قائلًا، “طلع الراعي ابن حلال”، مرجحًا أنه من أصول تركية، لتحدثه اللغة بطلاقة.
مواجهة الصعاب لواقع أفضل
منذ بداية العام الحالي وحتى نيسان الماضي، منعت السلطات اليونانية حوالي 40 ألف مهاجر من دخول البلاد عبر نهر “إيفروس”، وفقًا لوزير الحماية المدنية اليوناني، تاكيس ثيودوريكاكوس، وتستمر حالات العبور بالازدياد بالتزامن مع تشديد الحراسة لمنع المهاجرين من دخول البلاد “بشكل غير قانوني”.
ومن أجل حماية الحدود اليونانية و”منع تدفقات الهجرة غير الشرعية”، وقع ثيودوريكاكوس، في 1 من أيار الماضي، قرارًا بتعيين 250 آخرين من حرس الحدود على النقاط التي يعبر منها المهاجرون.
وأشار ثيودوريكاكوس إلى أن محاولة تركيا فتح الحدود في آذار 2020 لم تكن عفوية، ولكنها عملية منظمة من السلطات التركية، التي باستخدام المهاجرين غير الشرعيين الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف حينها، كانت لديها نية واضحة لانتهاك الحدود اليونانية على نطاق واسع، حسب قوله.
وأكد ثيودوريكاكوس أنه منذ نيسان إلى نهاية تشرين الثاني 2021، مُنع 143 ألفًا و472 شخصًا من دخول اليونان، مقارنة بـ98 ألفًا و798 شخصًا في نفس الفترة من 2020، في حين نجح ألف شخص تقريبًا بالدخول إلى اليونان منذ بداية العام الحالي حتى أواخر أيار الماضي.
ويتعرض المهاجرون في أثناء عبورهم النهر لممارسات عنيفة من قبل حرس الحدود اليوناني، لصدهم وإعادتهم إلى الضفة التركية، وينتهي بهم الأمر أحيانًا متروكين على جزر صغيرة تتوسط النهر، دون مساعدة أو دعم.
وتمنع السلطات اليونانية اقتراب المنظمات الإنسانية ووسائل الإعلام من منطقة “إيفروس” التي تصفها بـ”العسكرية”، في حين يضطر حرس الحدود التركي للتدخل وإنقاذ المهاجرين، وفقًا لموقع “مهاجر نيوز“.
حكايات مؤلمة لأشخاص فقدوا حياتهم في أثناء محاولات العبور إلى اليونان، سببها معاملة الشرطة اليونانية القاسية والوقت الطويل والظروف الصعبة، ففي عام 2021 وحده، فقد 51 شخصًا حياتهم في منطقة إيفروس، بحسب الطبيب اليوناني الشرعي بافليس بافليديس.
ووفقا للطب الشرعي المحلي، لا يتم التعرف على معظم الضحايا ويُدفنون في مقابر المسلمين المحلية، وأحد الأسباب الشائعة لمثل هذه الحوادث، هو فقدان السيطرة على السيارة عندما يحاول المهربون تجنب الاعتقال في أثناء مطاردة الشرطة، بحسب ما ذكرته منظمة “هيومن رايتس ووتش“.