خطيب بدلة
يمكننا، في زاوية “تعا تفرج”، أن نأخذ استراحة قصيرة من أخبار الحروب والويلات والمجازر، ونكتب عن الحب. يدفعنا إلى ذلك أننا نرى كيف يتحول العالم أمامنا إلى “مَبْغَضة”. قد تتساءلون عن معنى هذه الكلمة، فأقول: مكان اللعب اسمه، ملعب، واسم الساحة التي يتبادل فيها بعض الناس الرفسَ بالأرجل، مرفسة، والغرفة المخصصة لتربية الدجاج، مدجنة، وساحة تبادل البغضاء، مبغضة.
ما أكثر الشعراء الذين كتبوا عن الحب، وترنموا فيه، عبر العصور، حتى إن الشاعر المنخل اليشكري تحدى عواذله، وأعلن أن حبه حبيبته لا يقتصر عليه، بل إن بعيره يحب ناقتها! وهذه حالة نادرة بالفعل، ولكن، يمكن تطويرها نحو صورة مدهشة، مثلما فعل الفنان علي فرزات حينما رسم، قبل ربع قرن، رجلين يتحاربان بالسيوف، أحدهما يركب حصانًا، والثاني يركب فرسًا، وفي أثناء تبادلهما الطعنات نرى الحصان والفرس متعانقين.
أحب عنترةُ بن شداد العبسي ابنة عمه عبلة، ولكن حبه إياها تحول إلى دراما ملحمية خالدة، بسبب اختلاف المقام الاجتماعي بينهما، عبد وحرة، وكلنا نعرف كيف تفوق على هذه العقدة بشجاعته، وإنسانيته العالية، وكيف فاضت نفسه العاشقة بأجمل الأشعار، حتى إنه، وهو في ساحة المعركة، والسيوف تتلامع وتقطر من دمه، تراءت له صورة عبلة وهي تبتسم، وتلتمع أسنانها البيضاء.
هناك شعراء عرب، طوروا فلسفة الحب، حتى بلغت الذروة في حب الإنسان للحيوانات التي تحيط به. بدليل أن الشاعر الصعلوك الشنفرى خاطب أهله وقومَه قائلًا إنه ما عاد مهتمًا بهم، وبصحبتهم، وبأهليتهم، وقد استعاض عنهم بصحبة وحوش الغابة:
ولي دونَكم أهلون، سيدُ عَملَّسٌ
وأرقط زهلول، وعرفاء جيأل
لكي يمدح الشاعر امرؤ القيس حصانه توصل إلى صورة شعرية نادرة، تعجز عن ملاحقتها قوانين الفيزياء الحديثة، حينما قال:
مكر مفر مقبل مدبر معًا
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
إن عبارة مكر مفر مفهومة، بل ومنطقية، فمرة يكر الحصان، ومرة يفر، ولكن كيف نستطيع أن نتخيل أنه مقبل ومدبر في الوقت ذاته؟
وبالعودة إلى عنترة بن شداد، نجد أنه يقيم علاقة ودية مع حصانه “الأدهم”، عندما وصف وهو في المعمعة، خائفًا، مضطربًا، متلعثمًا، فقال:
لو كان يعلم ما المحاورةُ اشتكى
ولكان لو علمَ الكلامَ مكلمي
ولكن، هل يصف عنترة الحصان لمجرد الوصف؟ أم أنه يريد أن ينتقل منه باتجاه محبوبته عبلة؟
إن الدراما الملحمية التي يبتكرها عنترة، في هذه المعلقة، لا تقل بهاء عن رواية جنكيز أيتماتوف (وداعًا يا غولساري) التي كُتبت بعد 1500 سنة، من بطولة الحصان، فهل كان يخطر ببال إنسان في العالم أن رجلًا يمتطي ظهر حصانه، ويقارع عشرات الأعداء بسيفه، وفي الوقت ذاته يتذكر الحبيبة، فيقول:
يدعون عنترَ والرماح كأنها
أشطانُ بئر في لبان الأدهمِ
لستُ أقصد، في هذه الكتابة عن الحب، أن تاريخنا العربي الطويل كان مبدعة، أي ساحة لتبادل الإبداع، فنحن نعرف كم من الحروب، والويلات، وكم من القتل، ولكن الحب، خلال ذلك كله، كان يبدو وكأنه أضواء صغيرة تنير تلك الظلمات.