“دونيتسك” في ضيافة الثقافة السورية
نبيل محمد
لا بد أن زيارة مسؤولين في القطاع الثقافي والفني في “دونيتسك” إلى سوريا، هي الزيارة الرسمية الأولى لهم لدولة خارجية، حيث لا دول في العالم تعترف بـ”دونيتسك” كدولة مستقلّة سوى روسيا الغازية لأوكرانيا، والتي أعلنت من طرف واحد استقلال الإقليم، وسوريا البلد التابع. ولا بد أن أي نشاط يقبِل “الدونيتسكيون” على القيام به خارج حدود الإقليم، سيكون إما باتجاه روسيا الدولة الراعية لإعلان استقلال الإقليم، وإما باتجاه سوريا، الدولة التي سمع مسؤولوها باسم “دونيتسك” للمرة الأولى، قبل أشهر عندما غزت روسيا أوكرانيا، وأيّدت سوريا هذا الغزو كما كان متوقعًا.
مشهد أقرب للكوميديا، هو مشهد تجوّل وزير ثقافة “دونيتسك” والفعاليات المرافقة له، في كل من دار “الأسد للثقافة والفنون”، و”المعهد العالي للفنون المسرحية” بأقسامه، و”اتحاد الكتّاب العرب”، وهي مؤسسات عكست حسب تصريحاته خلال تلك الزيارات “الوجه الحضاري” للثقافة السورية. أما مسؤولو “المعهد العالي” ودار “الأسد” و”اتحاد الكتّاب”، فصبّت كل تصريحاتهم المرحّبة بالزيارة، والمتطابقة كما هي العادة، في العمل على تطوير العلاقات الثقافية بين البلدين.
أن تسعى دولة اليوم لتطوير علاقتها ثقافيًا مع سوريا المدمّرة، التي تتسوّل العروض الثقافية والفنية من دول قليلة ما زالت تتبادل معها العلاقات الدبلوماسية، هو مبرر لدولة أعلنت مفردة استقلالها في شباط الماضي، حيث لا دول أخرى يمكنها أن تبني معها علاقات ثقافية، هي محكومة بسوريا فقط. أما سوريا فلا بد أن تطوير علاقاتها مع “دونيتسك”، هو مهمّة يزاود فيها النظام في إطار علاقته بروسيا التي حفظته من الانهيار في السنوات السابقة، وجعلته مصيفًا لدول ناشئة بفعل الآلة العسكرية الروسية. مصيفٌ ميزته الوحيدة هي عدم وجود مصيف غيره يستقبل الأقاليم المنشقة عن الدول التي تعيث فيها روسيا خرابًا.
يكتمل المشهد الكوميدي مع وزيرة الثقافة السورية، لبانة مشوّح، وعميد “المعهد العالي للفنون المسرحية”، تامر العربيد، ورئيس “اتحاد الكتاب العرب”، محمد الحوراني، وبقية الدمى التي التفت حول الوفد الذي لا دراية لأحد من أعضائه بماهية العلاقات الثقافية التي يمكنهم بناؤها مع بلد لم تُرسم حدوده بشكل واضح، ولم يرجع أغلبية النازحين منه، بحيث لا يمكن التعامل معه إلا من منطق وظيفة تم التكليف بها من قبل القيادة، مع إشارة إلى التعامل مع الوفد وكأنه وفد روسي، ليبادر المسؤولون السوريون كل من موقعه، بمبادرة ما لا تتجاوز نطاق التصريح إلى أي خطوة عملية، فيعلن “اتحاد الكتّاب” عزمه ترجمة الكتب والدوريات (كم هو أساسي اليوم أن تترجم كتب “دونيتسك” إلى اللغة العربية بالنسبة لمطبوعات “اتحاد الكتّاب” التي تنتهي أغلبيتها بمصير الإتلاف!)، إضافة إلى ورشات العمل التي يبادر لاقتراحها “المعهد العالي” كلما طرق بابه عزيز.
قبل “دونيتسك” كانت “أبخازيا” و”أوسيتيا” و”القرم”، تلك التي تبادلت الزيارات مع سوريا خلال السنوات الماضية حدّ الملل، وكأن روسيا تجد في سوريا بيئة لإقناع الدول التي تنشؤها بأنها ذات استقلالية وحضور دولي، فتحجز لها الطائرات الدبلوماسية وترسل مسؤوليها في رحلات إلى دمشق، وبالمقابل، تتيح للمسؤولين السوريين القليل من الحركة والشعور بالثقة بالنفس، وتبني العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية تحت مظلتها، ودون عناء التقاء مسؤولي تلك البلدان.
ومن جانب آخر تلوّح أيضًا روسيا بشكل غير مباشر للسوريين الذين يضيقون ذرعًا بحياتهم في السجن السوري الكبير، بإمكانية السفر إلى تلك الدول التي تصنعها، فتحتل مثلًا “القرم” مرتبة متقدمّة في محركات البحث لدى المستخدمين السوريين، بعد سريان شائعات بإمكانية سفرهم إليها وبدء حياة كريمة فيها. ولعل لـ”دونيتسك” مستقبلًا في محركات البحث أيضًا، تلك التي لا يطلب فيها السوريون سوى الهروب من بلادهم، المقبرة الكبرى.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :