عبد الباسط الساروت.. رمزية الثورة في غياب حنجرتها
“لو ترجع”، كلمتان فقط حملتا اسم أغنية تأبينية ذات وقع جنائزي بصوت عبد الحكيم قطيفان، بعد 40 يومًا على رحيله جسدًا وبقائه أيقونة تمثّل ماضي الثورة وآمال حاضرها، كلمتان عبّرتا عن رغبة وإصرار على أن الساروت حيّ في الضمائر.
وبالنظر إلى الكلمة الأولى “لو”، التي تعكس منذ تعريفها (حرف امتناع لامتناع) امتناع الرجوع والعودة، وامتناع كل ما تبع هذه الـ”لو” المبنية على السكون، كسكون جسد من جاءت تُغنّى في حضرة غيابه، يقول النص أبعد ما جادت به مقاطعه الستة.
المدفع، وحمزة الخطيب، ودرعا، والشام، كلها في نص واحد، كُتب ضمن حيّز زمني ضيق مقارنة بعمر ثورة تسير في ضبابية عقدها الثاني، اجتمعت لعقد لقاء صوتي عاجل لثلاث دقائق ونصف مع عبد الباسط الساروت، منشد الثورة السورية وفارسها الأسمر، الذي مضى قبل ثلاث سنوات تاركًا خلفه شريحة من السوريين بايعت الثورة وناهضت النظام السوري.
قليلة هذه الدقائق عند مقارنتها بعمر قُطف من شجرة الحياة باكرًا، هذا العمر الذي توقف عند الـ27 لم يحافظ على فردية الرقم، مقدار حفاظه على فردانية الحالة التي شكّلها الساروت من تاريخ أرض وشعب يصرخ لينتزع حريته، دون أن يسمعه العالم، وربما سمع لكنه لم يصغِ.
بمعايير جديدة جاءت انقلابًا على صورة الرمز، كما جاءت الثورة انقلابًا على استبداد قديم عاشه السوريون على يد النظام، ظهر الشاب الأسمر منذ بداية الثورة بوضوح جليّ، مرفوعًا على الأكتاف ليرفع الصوت أعلى، مجازًا وواقعًا، فإذا كان الصوت الرصين، والقامة المصلوبة، وعمق الخطاب وصناعته المسبقة، عوامل تدخل في تكوين صورة الرمز، فالساروت رسم صورته بخلاف ونقيض تلك العناصر.
خطاب لامس القلوب
الخطاب بسيط، سلس، يصل بعفوية، والصوت مبحوح يجرحه النداء، واللغة عاميّة قريبة من الناس، كل تلك العوامل اجتمعت لتؤصّل الساروت كحارس للثورة السورية.
خلع ابن حي البياضة في مدينة حمص قميص نادي الكرامة الذي حرس مرماه، وتحول إلى منشد ثوري ينادي بقيم صادرها النظام لعقود، وتتخلص رغم تعددها وتنوع مسمياتها بالحرية.
وعلى مدار سنوات طويلة، سجّل خلالها حضوره بالمظاهرات والهتافات، قدّم عبد الباسط الساروت الكثير من أغنيات الثورة وأناشيدها التي كسرت طوق العبودية والاستبداد، ما حشد حوله جموع المتظاهرين في مدينة حمص التي شهد وعاش حصارها وتجويع أهلها في سبيل تركيع المدينة باللقمة، بعدما عجزت الدبابة عن ذلك.
ومن أبرز ما نادت به حنجرة الساروت “جنة جنة”، التي لامست السوريين وتخطت حدود وصولها الثورة السورية إلى ثورات مجاورة متزامنة، استعانت بأغنيات الساروت لتقول كلمتها، طالما أن الواقع متشابه هنا وهناك.
درعا، والساحل السوري، وحماة، وحمص، وحلب، مناطق متفرقة من شمالي البلاد إلى جنوبها، سجلت حضورها في أغنية الساروت الذي استحضر طيف مجازر النظام في ثمانينيات القرن الماضي، في الطريق للغناء عن مستقبل يؤمل منه ألا يشابه الماضي، بل أن يكون تعويضًا عن جراحه المنكوءة.
وعلى الطريق نفسه، دون أن يتعب الصوت المبحوح، واصل عبد الباسط الساروت بث المشاعر الإنسانية المختلطة حيال الثورة عبر الصوت، بمؤثراته الطبيعية، دون وعي منه أنها ستكون آخر ما يحمله أرشيفه الصوتي والثوري، فوسع الحلقة أكثر، وخاطب دولًا عربية تستوضح ملامح طريق ثوراتها، فكانت الجزائر ومصر والسودان والشام أصلًا، والآمال بتحويل الحلم المجرّد إلى حقيقة ملموسة، حاضرة في “ضلي واقفة”، رغم خذلان القاصي والداني، والانقسامات الداخلية، وعوامل كثيرة صبغت وجوه بعض البلدان بملامح الشيخوخة المبكرة.
في الأغنية انتقد الساروت من أسماهم “طواغيت العرب”، في إشارة إلى قادة بعض الدول العربية، مكتفيًا بالتلميح دون الأسماء، ومشيرًا في الوقت نفسه إلى عبثية وانعدام جدوى استخدام القوة أمام إرادة الشعوب.
أناشيد لحّنها الرصاص
بالترافق مع الأغنيات وترديدها وتكرارها، أسّس كتيبة “شهداء البياضة” لمقاومة الحصار المفروض حينها على المدينة منذ أشهر.
الكتيبة التي أسّسها الساروت قادت الحراك المسلح لسنوات، لكنها خسرت بعد معركة عُرفت باسم “معركة المطاحن” 64 شخصًا، بينهم شقيقاه أحمد وعبد الله، اللذان شاركا في معركة فك الحصار عن المدينة، لتتضاعف فاتورة خسائر الساروت على المستوى العائلي إلى أربعة إخوة، بعد وليد الذي قُتل عام 2011، ومحمد الذي قُتل مطلع 2013.
وفي 2014، خرج المقاتل المنشد برفقة مقاتلي المعارضة ومن بقي من مقاتلي كتيبته، من مدينة حمص إلى ريفها الشمالي، بموجب اتفاق فك الحصار الذي وقّع بين “الجيش الحر” وقوات النظام.
ظروف الحصار الخانقة التي فرضها النظام لم تحُل دون إيمان الساروت بالثورة، التي كانت محور حديث ونقاشات وسهرات الساورت مع رفاقه، فكانت “لأجل عيونك يا حمص” و”حانن للحرية حانن”، من أبرز أغنيات الساروت زمن الحصار، وأبدى فيها عزيمة أبناء المدينة وإصرارهم على استمرار النضال ضد استبداد النظام.
الكلمة للشمال
خرج الساروت من ريف حمص الشمالي مطلع عام 2016 إلى تركيا، ليغادرها بعد فترة قصيرة إلى محافظة إدلب، شمال غربي سوريا، مستأنفًا قيادة المظاهرات في مدنها وبلداتها، وانضم، في كانون الثاني 2018، إلى فصيل “جيش العزة”، وشارك في العديد من المعارك بالتوازي مع معارك مشتعلة في مناطق متفرقة ضد النظام أيضًا.
الشخصية البسيطة العفوية واللغة غير المتكلّفة والحس الفكاهي، عناصر واضحة في جلسات الساروت مع رفاقه في القضية، وبما لا يتعارض مع حالة التعبئة النفسية التي كان متمكنًا من تغذيتها في الميادين والساحات العامة التي تنادي بإسقاط النظام.
“الساروت رمز ثوري في المجتمع، ويتعدى الأمر (جيش العزة)، لذلك نشارك في إحياء ذكرى الساروت في إطار المجتمع الثوري وكوادر الثورة”، هكذا عبر المتحدث باسم “جيش العزة”، العقيد مصطفى بكور، في حديث لعنب بلدي عن الحالة الثورة التي خلقها حضور الساروت في صفوف “جيش العزة”.
على الأكتاف
ولد الساروت في 2 من كانون الثاني عام 1992 بمدينة حمص، وينحدر من عائلة هاجرت من الجولان واستقرّت في حي البياضة الحمصي.
تلقّى تعليمه في مدارس حمص، قبل حراسة مرمى نادي الكرامة، تبعتها حراسته لمنتخب سوريا للشباب، وكان قريبًا من الانضمام لحراسة مرمى المنتخب الأول قبل اندلاع الثورة عام 2011.
حُمل على الأكتاف منذ أسابيع الثورة الأولى، ليصدح بحنجرته مع المتظاهرين المطالبين بالحرية، ما قوبل بالقوة والرصاص والاعتقال على يد قوات الأمن والحصار، في محاولة لقمع الاحتجاجات الشعبية ومحاصرة بقعتها الآخذة بالتوسع حينها.
في ساعاته الأخيرة قبل الإصابة، ظهر الساروت على مشارف قرية تل ملح شمالي حماة، خلال تسجيل مصوّر معلنًا خروجها من قبضة قوات النظام، وسرعان ما أُصيب بعدها في قدمه ويده وبطنه، ليتوفى متأثرًا بجروحه في 8 من حزيران 2019 في أحد المستشفيات التركية.
شيّع الآلاف عبد الباسط الساروت، أمام جامع “التوحيد” في حي العادلية بمدينة الريحانية، التابعة لولاية هاتاي التركية على الحدود السورية، ونُقل جثمانه إلى الأراضي السورية ليدُفن في مدينة الدانا بمحافظة إدلب، إلى جانب إقامة صلاة الغائب عليه في عدة مدن تركية، منها مدينة اسطنبول، حيث أُقيمت صلاة الغائب في جامع “الفاتح” بحضور بشري واسع لم تغب عنه أعلام الثورة وصور الساروت.
افتتح “أبو جعفر”، كما يسميه رفاقه، سيرته الثورية محمولًا على أكتاف المتظاهرين، ليختتمها بعد نحو ثماني سنوات من الثورة على الأكتاف أيضًا، وبذات الشعارات، لكن ما يميّز المشهد هنا أن صوت الساروت غائب، ليؤكد بصمت أن كثيرًا من القصص تنتهي حيث بدأت تمامًا.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :