مأمون البستاني | حسن إبراهيم | حسام المحمود | خالد الجرعتلي
حين يكون العسكر متسببين بانتهاكات في منطقة ما، فإن احتواءها وملاحقتها ومحاكمتهم عليها مهمة شاقة، وهو ما تواجهه سلطات قضائية تتبع لـ”الحكومة السورية المؤقتة” في ريف حلب، شمالي سوريا، إذ تحاول البت في قضايا تُرفع ضد عسكريين أو جهات عسكرية، خاصة عندما يكون هؤلاء العسكريون من القادة أو في مواقع المسؤولية في “الجيش الوطني”.
ويبرز دور إدارة القضاء العسكري المكلّفة من قبل وزارة الدفاع في “الحكومة المؤقتة”، بإدارة دفة القضاء لضبط انتهاكات العسكريين ومحاسبتهم.
إلا أن حالات عدة أظهرت أوجه القصور في إدارة القضاء العسكري التي لم تتمكّن من البت فيها بشكل نهائي، ما أثار موجة من الاستياء وتوجيه الاتهامات للإدارة بالعجز والفساد والتبعية للفصائل.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف، حالة القضاء العسكري في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، وتناقش مع حقوقيين وعسكريين ومحللين اجتماعيين أوجه القصور في هذا القضاء، وأثر غياب المحاسبة على المنطقة بشكل عام.
لا سلطة أمام الفصائل
تتوالى التخبطات والانتهاكات في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، فما إن تغيب حادثة عن الأذهان قليلًا حتى تعود أخرى لتفتح الباب واسعًا أمام حالة الفوضى والانتهاكات وغياب المحاسبة في المنطقة.
وأصبحت حالة عدم المحاسبة ظاهرة، رغم وجود لجان ومؤسسات وجهات قضائية وضعت على عاتقها محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وخصوصًا الانتهاكات العسكرية التي خلقت جدلًا واسعًا في المنطقة.
“فساد عسكري” يشعل المظاهرات
أثارت قضية إطلاق “الشرطة العسكرية” في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، التابعة لـ”الجيش الوطني”، سراح شخص متهم بانتمائه لقوات النظام السوري، وارتكابه انتهاكات ضد المدنيين، في 18 من أيار الماضي، غضب واستياء الأهالي الرافضين لعملية الإفراج.
في هذه القضية برز الانتهاك باسم “الشرطة العسكرية” التي تعد الجهة المخوّلة بالمحاسبة على الانتهاكات التي يرتكبها عناصر ومقاتلون في الفصائل المنضوية تحت راية “الجيش الوطني”، في مناطق سيطرته التي تشمل ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي رأس العين وتل أبيض شمالي سوريا.
وجاء غضب الأهالي كرد فعل على الإفراج عن الشاب محمد حسان المصطفى (30 عامًا)، المتهم بـ”التشبيح” والمنحدر من حي الصالحين بمدينة حلب، والذي اعترف بمشاركته في اقتحامات ومداهمات واعتقالات في صفوف قوات النظام السوري بعدة مدن سورية، مثل درعا وحمص وحماة، وارتكابه جرائم قتل واغتصاب.
حالة الغضب لم تقتصر على إطلاق سراح المتهم بـ”التشبيح” (عاودت “الشرطة العسكرية” اعتقاله بعد ساعات)، ولكن الغضب والاستياء شمل المسؤولين والضالعين بالإفراج عنه.
وقّع القرار رئيس فرع “الشرطة العسكرية”، العقيد عبد اللطيف الأحمد، مقابل دفع غرامة 1500 دولار أمريكي، بوساطة القيادي في “فرقة السلطان مراد” المنضوية تحت راية “الجيش الوطني”، محمد يحيى خضير، المعروف بـ”حميدو الجحيشي”.
واستمرت المظاهرات والاحتجاجات مدة أربعة أيام ترافقت مع العديد من البيانات من قبل جهات محلية وفصائل وقيادات عاملة في الشمال السوري.
غضب واحتقان شعبي
بدأ التصعيد بمظاهرات في مدينة الباب بإغلاق مقر “الشرطة العسكرية”، تبعها إشعال إطارات سيارات أمام مدخل المقر، وبناء الأهالي خيمة أمام المقر، أطلقوا عليها اسم “خيمة الكل”، مع التوعد برفع التصعيد بكل الطرق السلمية والمتاحة حتى محاسبة كل ضالع وكل من أسهم بالإفراج عن المتهم بـ”التشبيح”.
من جهته، تحدّث القيادي “حميدو الجحيشي”، في تسجيل صوتي رصدته عنب بلدي، أن الشخص المفرَج عنه مختل عقليًا، كما نفى صحة الاعترافات بارتكاب الشاب جرائم واعتداءات، مؤكدًا أن الفصيل سلّم الشاب للقضاء درءًا لأي اقتتال فصائلي في المنطقة.
في 19 من أيار الماضي، أصدرت وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”، المظلة السياسية لـ”الجيش الوطني”، قرارًا بتشكيل لجنة تحقيق عسكرية مؤقتة، مهمتها التحقيق في قرار الإفراج، على أن تنهي اللجنة تحقيقاتها خلال مدة أقصاها 72 ساعة، قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط، وتقدم تقريرها لوزير الدفاع لإجراء المقتضى القانوني أصولًا.
محاولات احتواء تزيد الغضب
لم يهدأ غضب الأهالي من تشكيل لجنة التحقيق لترتفع حدة الاحتجاجات والتوعد بالتصعيد، الذي قابله توجّه وزير الدفاع في “الحكومة المؤقتة”، العميد حسن الحمادة، في 22 من أيار الماضي، للمتظاهرين أمام فرع “الشرطة العسكرية”، مطالبًا بفض التجمعات، واجتمع مع بعض الفعاليات وتحدّث بمنطق وصفه ناشطون بأنه “لا يليق بالأهالي ومن منبر المتعالي”، الأمر الذي أجّج الغضب أيضًا.
وانتقل حراك الأهالي إثرها للتظاهر والاحتجاج أمام مبنى وزارة الدفاع بقرية كفرجنة في منطقة عفرين شمالي حلب، وتوجّه متظاهرون من مدن وبلدات مختلفة في ريف حلب إلى مبنى الوزارة، وطالبوا باستقالة وزير الدفاع، لعدم الاستجابة لطلبات الأهالي بمحاسبة الضالعين في الحادثة.
وعقب التصعيد وبنفس اليوم، أصدرت وزارة الدفاع أمرًا إداريًا تضمّن عدة بنود، أبرزها إقالة رئيس فرع “الشرطة العسكرية”، العقيد عبد اللطيف خالد الأحمد، ومتابعة التحقيقات وإحالة جميع الضالعين إلى القضاء العسكري.
وفي 23 من أيار الماضي، أصدرت “هيئة ثائرون للتحرير”، الفصيل العسكري الذي ينشط في ريف حلب، قرارًا بتوقيف القيادي محمد يحيى خضير، وإحالته إلى اللجنة المسلكية الداخلية، وإلى القضاء العسكري لاستكمال التحقيقات والإجراءات القضائية بحقه أصولًا.
لكن صورًا للقيادي خضير (الجحيشي) خارج السجن، في 30 من الشهر نفسه، أعادت حالة الغضب للأهالي والناشطين الذين أعربوا عن أسفهم للإفراج عن القيادي وفق اعتبارات وظروف مجهولة.
تعد هذه القضية نموذجًا واضحًا عن مجموعة من الانتهاكات أو قضايا الفساد التي ينفذها عسكريون في المنطقة، يقف أمامها القضاء العسكري دون حيلة.
قضاء “عاجز وغير مستقل”
مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، أوضحت في حديث إلى عنب بلدي، أن المشكلة الأساسية في مناطق سيطرة “الجيش الوطني” هي عدم فعالية القضاء العسكري أو العادي في النظر بالقضايا التي تخص المتهمين بانتهاكات عدة.
وعادة ما يتم تحييد القضاء، ويُترك الأمر للفصائل والمجموعات المسلحة وما ينتج عنها من لجان تشكّل للنظر بكل قضية على حدة، ووفق ما تتفق عليه تلك الفصائل.
وترى الخطيب أن الفصائل إذا اتفقت على تسليم المتهم للقضاء يتم ذلك، وإذا لم تتفق فالقضاء يقف عاجزًا ولا يُسمع له صوت أمام ما يحدث من قضايا مختلفة، لذلك فالقضاء “شكلي” وينظر في القضايا التي تخص الأشخاص العاديين، أما مرتكبو الانتهاكات الرئيسون فيقف عاجز تمامًا أمامهم.
وتعتقد الخطيب أن سبب حالة العجز كون الجهاز القضائي مقيّدًا وغير مستقل ولا يملك الصلاحيات، حاله حال الأجهزة القضائية في كل المناطق السورية.
فغياب المحاسبة يرتبط بعجز القضاء الذي من المستحيل معالجته طالما لم ترضخ القوى المسيطرة لقوة القانون وتعترف بسلطة القضاء واستقلاله، وهو ما لن يحصل على الأقل في المدى القريب، باعتقاد الخطيب، استنادًا إلى ما ترصده مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في هذه المناطق من انتهاكات عدة يكاد ينعدم فيها أي دور أو تدخل للقضاء.
“القضاء تحت سطوة الفصائل”
من جهته، استبعد مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، في حديث إلى عنب بلدي، وجود محاسبة أصلًا، فما تشهده مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، هو احتواء وتجاهل أو “لفلفة” القضايا المتعلقة بمرتكبي الانتهاكات.
وأوضح الأحمد أن قضية الإفراج عن مُتهم بـ”التشبيح” سبقتها حادثة قائد “فرقة السلطان سليمان شاه” (العمشات) “المعزول” محمد الجاسم (أبو عمشة)، التي كانت بمنزلة “الشعرة التي قصمت ظهر البعير” لما يسمى بالقضاء، إذ كانت قضية واضحة وفيها نتائج أظهرتها لجنة تحقيق محلية، ولم يحدث أي تغيير أو محاسبة وكأن شيئًا لم يكن.
الأمر لا يقتصر على محاسبة الضالعين في الإفراج عن الشاب المصطفى، فقد سبقه العديد من الانتهاكات التي أوضحت غياب المحاسبة، أوضحها قضية محاكمة “أبو عمشة”.
وبعد تشكيل لجنة “ثلاثية حيادية” حققت في الانتهاكات، وبدأت أعمالها في 12 من كانون الأول 2021، ضمت كلًا من الشيخ عبد العليم عبد الله، والشيخ أحمد علوان، والشيخ موفق العمر، أصدرت قراراتها بعد حوالي شهرين من التحقيق، أبرزها تجريم “أبو عمشة” وخمسة قياديين في الفصيل بجرم الفساد، ودفع مبالغ تعويضًا لبعض المتضررين ماليًا، وعزل “أبو عمشة” عن جميع مهامه الموكلة إليه، وعدم تسليمه شيئًا من “مناصب الثورة” لاحقًا، ونفيه من مناطق عفرين وريفها مدة عامين.
لكن هذه القرارات بقيت حبرًا على ورق، إذ بقي “أبو عمشة” يصول ويجول في المنطقة، كما ظهر في اجتماع مع رئيس “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الرحمن مصطفى، في آذار 2022.
“لا قضاء للأسف”، القضاء في المنطقة ليس أحسن حالًا من القضاء عند النظام السوري، بحسب الأحمد، الذي يرى أن القضاء والقانون يمارَسان على الضعفاء، وأي شخص لديه واسطة أو مقرب منها أو أي فصيل أو جهاز أمن لا يُحاسب.
استطلاع رأي
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر موقعها الإلكتروني، حول ما إذا كان القضاء العسكري قادرًا على ضبط انتهاكات العسكريين في الشمال السوري.
وجاءت النتائج متباينة، إذ صوّت 67% من المشاركين في الاستطلاع بـ”لا”، في حين اعتبر 33% من المصوّتين أن القضاء العسكري قادر على ذلك.
أحكام خارج منظومة القضاء
العميد الركن المُنشق عن قوات النظام السوري أحمد رحال، اعتبر أن القضاء العسكري في شمال غربي سوريا “يخضع لحالة الفصائلية التي تعاني منها مناطق شمالي حلب بالمجمل”.
واعتبر رحال، في حديث إلى عنب بلدي، أن المنطقة ككل لا تشمل وزارة داخلية أو وزارة عدل أو قضاء عسكريًا أو شرطة عسكرية، بل إن ما تحويه اليوم هو “عناوين نظرية” لحالة الفصائلية التي تعاني منها المنطقة.
ومع بداية تشكيل “الجيش الوطني” عام 2017، كانت الفصائل العسكرية المعارضة تملك محكمة عسكرية خاصة بكل فصيل على حدة، إذ جرى دمجها لتشكيل ما بات يُعرف اليوم بالقضاء العسكري والشرطة العسكرية، لكن ضمنيًا بقيت تبعية هذه التشكيلات للفصائل التي قدمت منها، بحسب رحال.
وكمثال على ذلك، أشار العميد أحمد رحال، المقيم في تركيا، إلى قضية محاكمته غيابيًا من قبل أحد فصائل “الجيش الوطني” العام الماضي، عندما أصدرت “فرقة السلطان سليمان شاه” حكمًا بحقه بالسجن ثلاث سنوات، بحسب تسجيل مصوّر نشرته قيادة “الفرقة” على معرفاتها الرسمية، في أيار 2021.
وكانت التهمة التي أطلقها الفصيل العسكري الذي كان يقوده في تلك الفترة “أبو عمشة”، الإساءة والتحقير لمؤسسة “الجيش الوطني” بشكل عام، و”فرقة السلطان سليمان شاه” بشكل خاص ومستمر.
في حين أن الفصيل العسكري لا يتمتع بصلاحيات إطلاق أحكام قضائية، مع وجود أجهزة قضاء عسكري ومدني في المنطقة، وهو ما اعتبره أحمد رحال خلال حديثه لعنب بلدي، مثالًا واضحًا عن عدم وجود هذا النوع من القضاء المستقل لدى “الجيش الوطني”.
وبحسب رحال، فإن “أبو عمشة” حينها لم يرجع إلى قضاء مدني أو عسكري، مع الإشارة إلى أنه قائد عسكري مدني لا يحمل أي صفة عسكرية واضحة.
وخلال الفترة ذاتها، تواصل قياديون في الشرطة العسكرية مع رحال، بحسب ما قاله لعنب بلدي، ليبلغوه بأنهم لم يشتركوا في إصدار القرار، وإنما هو عبارة عن اجتماع أعلن عنه الفصيل خلال تسجيل مصوّر، وهو ما أثار استغراب العميد الذي أُطلق بحقه الحكم دون إبلاغه به.
لجان تقصي مؤسسات القضاء
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، تساءل عن كيفية تشكيل لجنة شرعية من ثلاثة شيوخ بدعم من “المجلس الإسلامي السوري” لإجراء تحقيقات، في ظل وجود قضاء عسكري ومؤسسات قضائية، مضيفًا “أين القضاة المستقلون وأين المنظمات والحقوقيون؟”.
والمحاسبة الجادّة، بحسب الأحمد، لا تستند إلى تشكيل لجنة شرعية في ظل وجود قضاء عسكري ومؤسسات قضائية، فهذا لا يؤسس لأرضية قانونية أو قضائية، وهو دليل ومؤشر على عدم وجود محاسبة أو أي فعالية لهذه المؤسسات.
وعزا الأحمد أسباب عدم قدرة القضاء العسكري وغيره على المحاسبة، إلى وجود فصائل عدة موزعة على مناطق مختلفة، وكل فصيل يفرض سيطرته على منطقة وجوده، ويتعامل مع المنطقة بمنطق منعزل عن المؤسسات.
ويرى مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أن هذه الحالة مؤشر على عجز القضاء العسكري والمدني ووزارة العدل، والمظلة السياسية وهي “الحكومة السورية المؤقتة”.
ما القضاء العسكري وما صلاحياته
يتخصص القضاء العسكري بالقضايا والإشكاليات التي تحدث بين العسكريين، أو القضايا المتعلقة بأمن الدولة أو الخلافات التي يكون أحد أطرافها من العسكريين.
موقع “نادي المحامي السوري” أعدّ بحثًا عن القضاء العسكري في الدستور السوري، المطبّق في مناطق نفوذ النظام السوري اليوم، وهو شبيه لما يُطبّق أيضًا في دول عربية عدة.
وبحسب الموقع، فإن القضاء العسكري يختص بالجرائم الواقعة من قبل العسكريين “سواء كانوا فاعلين أو شركاء أو متدخلين”، وبالجرائم الواقعة على العسكريين بشخصهم دون مالهم أو ممتلكاتهم إلا إذا كانت الأموال أو الممتلكات تخص الجيش، أو على الجيش ومصالحه بما يشمل المدنيين سواء كانوا فاعلين أو شركاء أو متدخلين.
كما يختص بالجرائم الواردة في قانون العقوبات العسكري وقانون خدمة العلم، والقوانين والمراسيم الأخرى التي يحددها قانون العقوبات العسكرية المطبّق في دولة أو منطقة أو سلطة معيّنة.
صلاحيات القضاء العسكري
تختص المحاكم العسكرية حسب المادة “47” من الأصول العسكرية المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية السوري بعدة أنوع من الجرائم، وهي العسكرية منها والتي يحددها القانون السوري، كالخيانة والفرار من الخدمة وغيرها.
كما تعتبر الجرائم المرتكَبة ضد مصالح الجيش بشكل مباشر من اختصاصات القضاء العسكري التي يحق له البت فيها، إضافة إلى الجرائم المرتكبة في المعسكرات والمؤسسات العسكرية والأماكن التي يشغلها العسكريون لمصلحة الجيش والقوات المسلحة بغض النظر عن صفة مرتكبيها (مدنيون أو عسكريون).
كما تعتبر الجرائم المرتكَبة من قبل أفراد جيوش حليفة تقيم في سوريا، والجرائم التي تمس مصالح هذه الجيوش من صلاحيات القضاء العسكري المحلي، ما لم توجد اتفاقات مخالفة مع حكوماتها.
ومن الجرائم التي منحت المحاكم العسكرية البت بها بموجب القوانين والأنظمة الخاصة، مخالفة الأوامر الصادرة عن الحاكم العرفي، مثل إطلاق العيارات النارية في المناسبات، وحيازة السلاح الحربي دون ترخيص، وانتحال الصفة أو الوظائف العسكرية، ومزاولة مهنة خاضعة لنظام قانون دون حق، إضافة إلى العشرات من الجرائم التي تُطبّق على الأفراد.
مَن يحدد نوع الجريمة “عسكرية أم مدنية”؟
نصت المادة “51” من الأصول العسكرية على أن السلطات القضائية العسكرية هي وحدها التي تقدّر إذا ما كانت القضية من صلاحياتها أم لا.
وكل خلاف حول هذا النوع من القضايا يُحال إلى هذه السلطات لتفصل فيه قبل النظر بأساس الدعوى، فإذا كانت الدعوى من اختصاصها نظرت فيها وأبلغت المحكمة التي أحالتها إليها بالقرار.
أما إذا رأت أن الدعوى ليست من اختصاصها، يجب عليها إعادتها إلى القضاء المدني، بحسب موقع “نادي المحامي السوري”.
وإذا رأت المحكمة العسكرية أن الدعوى مُصنّفة على أنها جرم من اختصاص القضاء العسكري وأخرى من اختصاص القضاء المدني (بحيث يمكن الفصل بينهم)، فعندها تعيد إلى القضاء المدني ما يخصه للنظر فيه بعد تصوير ملف الدعوى.
وفي حال وضع القضاء العسكري يده على دعوى تحوي أطرافًا مدنية مدعى عليها ومشمولة بالقضاء العسكري لوجود شريك أو متدخل عسكري في الجرم، وانتهت الدعوى ببراءة أو عدم مسؤولية الطرف العسكري، فعندها يغدو القضاء العسكري غير مختص للنظر في الدعوى المقامة على الطرف المدني.
كما يملك الحاكم العرفي صلاحية إحالة الجرائم الواقعة على “أمن الدولة” إلى محكمة أمن الدولة العليا، حتى بوجود طرف عسكري في القضية.
30 قاضيًا عسكريًا.. أحكام علنية
تواصلت عنب بلدي مع وزارة العدل في “الحكومة المؤقتة”، للوقوف على دورها في متابعة قضايا مرتكبي الانتهاكات من العسكريين، إلا أنها اعتذرت عن عدم التعليق لعدم الاختصاص.
كما حاولت عنب بلدي التواصل مع وزارة الدفاع، التي تتبع لها إدارة القضاء العسكري العاملة في مناطق “المؤقتة”، ولم تتلقَّ أي رد.
“الدفاع” تحيل الخلافات العسكرية لـ”القضاء العسكري”
في 6 من أيار الماضي، أصدرت وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”، بيانًا حول ضبط الخلافات العسكرية عن طريق إدارة القضاء العسكري، في مناطق سيطرتها.
وحصرت الوزارة حل وتسوية جميع الخلافات والمشاجرات الحاصلة داخل صفوف المؤسسة العسكرية بإدارة القضاء العسكري والمؤسسات الرسمية ذات الصلة.
وناشد البيان جميع المكوّنات العشائرية والشعبية والاجتماعية في المناطق الخاضعة لسيطرة “الوطني”، بصب جهودها في خدمة المؤسسات القضائية الرسمية، والابتعاد عن إيجاد أي حلول أو تسوية للنزاعات خارج المؤسسة القضائية الرسمية.
ودعت الوزارة إلى “توحيد الكلمة والسلاح ضد الأعداء”، وعزت الأسباب إلى تحقيق العدالة والقانون والمساواة للجميع، وتحقيق أهداف “الثورة”.
وكان وزير الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”، العميد الطيار حسن الحمادة، وجّه خلال اجتماع عقده في 27 من أيار الماضي، مع قادة عسكريين في “الجيش الوطني”، بالتزام بالتوجيهات الصادرة عن الوزارة.
30 قاضيًا في إدارة القضاء العسكري
بين الحين والآخر، تعلن وزارة الدفاع في “الحكومة المؤقتة” عن حاجتها إلى تعيين قضاة نيابة وحكم لمصلحة إدارة القضاء العسكري في مناطق سيطرتها.
وكان آخر إعلان صادر عن وزارة الدفاع في 16 من أيار الماضي، لتعيين قضاة نيابة وحكم لمصلحة إدارة القضاء العسكري في مناطق سيطرتها.
وشُكّلت إدارة القضاء العسكري في مناطق “الحكومة المؤقتة” منذ أيلول عام 2018، بحسب ما قاله مدير إدارة القضاء العسكري، العميد عرفات حمود.
وأضاف العميد عرفات حمود، في حديث إلى عنب بلدي، “لدينا الآن 30 قاضيًا موزعين على مناطق عفرين واعزاز والباب وجرابلس وتل أبيض ورأس العين”.
حمود أوضح أن إدارة القضاء العسكري هي إحدى الإدارات التابعة لوزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”.
وذكر أن اختصاص القضاء العسكري منصوص عنه في قانون أصول المحاكمات العسكرية وفق التالي:
– اختصاص شخصي: المادة 50 أصول جزائية عسكرية. – اختصاص موضوعي: المادة 47 أصول جزائية عسكرية. |
ويطبّق القضاء العسكري في ريف حلب القوانين الجزائية السورية (قانون العقوبات العام الصادر عام 1949، وقانون العقوبات العسكري الصادر عام 1950، وقانون أصول المحاكمات الجزائية وغيرها من القوانين الجزائية السورية).
وبالتالي ووفقًا لما قاله حمود، “من الطبيعي أن ينظر القضاء العسكري في كافة المخالفات والجرائم وفق قواعد الاختصاص الشخصي والموضوعي”.
لجان “صلحية” لا تتعارض مع القضاء
أشار العميد عرفات حمود إلى أن وزير الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة” أكد مرارًا على صلاحيات القضاء العسكري وفق ما نص عليه القانون، وعدم الذهاب إلى اللجان وما شابه لحل الخلافات خارج المؤسسات الرسمية ومنها القضاء العسكري.
إلا أن هناك لجنة “صلحية” (اللجنة الوطنية للإصلاح) وعملها لا يتعارض مع القضاء، بحسب ما ذكره حمود.
وشدد على أن القضاء العسكري حاضر، ويقوم بمعالجة جميع القضايا التي تخص العسكريين.
أما عن الاتهامات الموجهة للقضاء العسكري حول عدم محاسبة العسكريين المنتمين للفصائل العسكرية، فقال حمود إنها غير صحيحة، و”لدينا سجلات وإحصاءات بالدعاوى المقامة بحق العسكريين المخالفين للقانون”.
وعبّر حمود عن أسفه بأنه “بعد انقضاء 11 عامًا على انطلاق ثورتنا نجد من يحاول تشويه أي عمل منظم في المناطق المحررة”، بحسب قوله.
محاكم علنية وأحكام قابلة للطعن
أوضح العميد عرفات حمود أن لدى “إدارة القضاء العسكري محكمتين للجنايات، واحدة في مدينة اعزاز بريف حلب، وأخرى في مدينة رأس العين بريف الحسكة، كما أن هناك فرعًا للتفتيش القضائي تابعًا للإدارة”.
وبيّن أن جميع الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء العسكري قابلة للطعن بالنقض، مشيرًا إلى أن إدارة القضاء العسكري لديها “مستشار في محكمة النقض بالشمال المحرر، ومركزها في مدينة الراعي بريف حلب الشمالي”.
ومحكمة النقض هي محكمة مهمتها مراقبة بقية المحاكم في الأخطاء التي قد تقع بها وتصحيح تلك الأخطاء.
ولفت إلى أن جلسات المحاكمة علنية، فمن حق المدعى عليه اختيار محامٍ للدفاع عنه، وفي الجنايات تقوم الإدارة بتعيين محامٍ مسخّر للدفاع عن المتهم الذي لا يستطيع توكيل محامٍ.
“نولي كل الرعاية للموقوفين والمحكومين في السجون العسكرية من حيث الطعام واللباس وتمكينهم من التواصل مع ذويهم وتأمين زياراتهم”، بحسب ما قاله حمود.
وأضاف، “نعتقد أننا نعمل على خدمة أهلنا في المحرر، ولكن هناك خصوصية للعمل القضائي في بعض مراحله، فلا نستطيع الإدلاء بتصريحات عن مضمون تحقيقات انسجامًا مع نصوص القانون، لكيلا نؤثر على مجريات التحقيق، ولكيلا يتضرر أطراف الدعاوى جراء نشر وقائع قد لا تثبت بحقهم”.
واعتبر حمود أن إدارة القضاء العسكري تتحدى بعملها “التنظيمات الإرهابية من إرهاب النظام السوري إلى إرهاب تنظيم (الدولة الإسلامية)، إلى إرهاب الأحزاب الانفصالية”، في إشارة إلى الأحزاب الكردية في شمال شرقي سوريا.
هيكلية إدارة القضاء العسكري
وأوضح مدير إدارة القضاء العسكري، العميد عرفات حمود، لعنب بلدي، أن هيكلية الإدارة تغطي مناطق تل أبيض (ريف الرقة) ورأس العين (ريف الحسكة) وريف حلب الشمالي الشرقي والغربي، ولديها مجمعان قضائيان، أحدهما في رأس العين وتل أبيض، والآخر في ريف حلب.
وتنفذ الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري من خلال النيابة العامة العسكرية، سواء في اعزاز أو رأس العين، وكذلك من خلال قضاة الفرد في بقية المناطق، وفق الآليات القانونية، بعد اكتساب القرار الدرجة القطعية، ويكون التنفيذ عن طريق الشرطة العسكرية التابعة لـ”الجيش الوطني”، التي لها ثمانية فروع في ريف حلب، حسب العميد عرفات حمود.
غياب المحاسبة ينشّط روح الجريمة
لا يتوقف تأثير عدم فاعلية القضاء العسكري أو تعطيله على طرفي القضية أو المتخاصمين فيه، مقدار ما يتخطاه إلى تأثير اجتماعي يرتبط بالسلم الأهلي والمجتمعي، عند إطلاق المدانين بين الناس قبل تلقي عقوبة رادعة لا تضمن بالضرورة عدم تكرار المخالفة أو الجنحة أو الجريمة، لكنها وُضعت لهذا الغرض.
رئيس فرع “نقابة المحامين الأحرار بحلب”، حسن الموسى، وعند سؤاله عن آثار إفلات المدانين بجرائم من العقاب، أوضح لعنب بلدي أن المشكلة تكمن في غياب السلطة الحقيقية الفاعلة، باعتبار أن دولًا مستقرة تشكو مجتمعاتها المدنية من تجاوز السلطة العسكرية على الحقوق المدنية، وتناضل في سبيل التخلص من رغبة سلطاتها بإخضاع المدني للقضاء العسكري، ما يعني أن الأمر أكثر تعقيدًا عند الحديث حول سلطات عسكرية “غير منضبطة”.
الموسى أوضح أن الهدف من العقوبة في كل القوانين إضافة إلى الإصلاح، هو الردع العام والخاص، وبالتالي فإن إفلات مرتكبي الجرائم من العقوبة يحمل آثارًا سلبية على المجتمع، منها ازدياد انتشار الجرائم بمختلف أنواعها، الأمر الذي يخلق حالات من الفوضى وعدم القدرة على ضبط الشارع، وربما يؤدي إلى فتن واقتتال داخلي يقود لفقدان الأمان المجتمعي، وانتشار الذعر بين فئات المجتمع الأكثر ضعفًا.
ومن الآثار التي يمكن أن تترتب أيضًا أمام تعطيل القضاء أو عدم نفاذ الأحكام القضائية، سواء بحق عسكريين أو مدنيين مدانين، زيادة أعداد مرتكبي الجرائم باعتبار أن غياب الرادع وضمان الإفلات من العقاب سيحرّض على العنف والفوضى في المجتمع.
رئيس “فرع نقابة المحامين الأحرار”، اعتبر وجود سجل عدلي في بعض مناطق الشمال لتسجيل وحفظ وأرشفة أسماء المحكومين والمدانين، خطوة غير كافية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، ما لم تكن مرفقة بالتعاون الفعّال بين المجتمع والسلطات القائمة، مع ضرورة إيجاد آليات تواصل سريع، وآليات تدخّل أيضًا لمنع وقوع بعض الجرائم قبل ارتكابها، والحد من آثار بعض الجرائم إثر ارتكابها، وإيجاد آلية مراقبة متطورة وفعالة من قبل سلطات المنطقة.
ويعود الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، إلى مرحلة تسبق المشكلة نفسها عبر طرح تساؤلات حول مدى شرعية “سلطات الأمر الواقع” في الشمال السوري، قبل مناقشة سلوكيات من أُنيطت بهم مسألة إنفاذ القانون، في ظل اقتتالات متعددة الأطراف للهيمنة أكثر في المنطقة.
ويرى موشلي أن غياب فاعلية القضاء العسكري مترافقة أيضًا بغياب القانون المدني على الأرض، إذ لا ضوابط أو ضمانات بتنفيذ القانون رغم محاولة تكوين بنية قانونية في المنطقة مكوّنة من قانون ومحاكم وقضاة ومحامين وإدارة تنظم علاقاتهم الداخلية تتمثّل بسلطة المدعي العام، لكن هذا مفقود في الواقع، كما أن زيادة فاعلية القضاء العسكري والسلطات العسكرية عمومًا قد تنعكس سلبًا على الشارع بسكان المنطقة ونازحيها، وتخلق مزيدًا من العسكرة التي حاربها وثار ضدها الشعب السوري، ما يعني أن المستفيد الأكبر من حالة كهذه هو النظام السوري الذي يشير إلى الشمال على أنه “تجربة فاشلة” خارج سيطرته.
وحول موضوع إطلاق الشرطة العسكرية سراح متهم بـ”التشبيح” من سجونها في ريف حلب الشرقي، في 18 من أيار الماضي، اعتبر الباحث الاجتماعي أن حوادث من هذا النوع تشكّل خيانة للثورة، لافتًا إلى حاجة المنطقة لتدقيق أمني واستخباراتي لا يمكن للمواطنين المدنيين أن يباشروه، كونه عملًا يُناط بدول تحكم سلوك أجهزتها الأمنية والاستخباراتية مصالح عليا، هي الأمن القومي لهذه الدولة.
وقال موشلي، في حديثه إلى عنب بلدي، إن إطلاق سراح شخص اعترف بارتكاب جرائم يعتبر تفريطًا يصل إلى خيانة أمن السكان المعتدى عليهم من قبل من أُطلق سراحه مقابل مبلغ مالي، ما يشكّل دليلًا على فشل التشكيلات العسكرية في أن تكون جزءًا من سلطة متحضرة، وفق تعبيره.
وحول مدى تأثير غياب فاعلية القانون على تحريض روح الجريمة، أوضح موشلي أنه عندما تنهار سلطات المجتمع الحديثة يلجأ الناس إلى السلطات التقليدية باعتبارها آخر حصون حماية الجماعة، فيصبح العشائري والفئوي والطائفي أقوى من أن يخضع للقوانين الحديثة وخاصة بعد تجريدها من عناصر قوتها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :