عنب بلدي- حسام المحمود
حرّكت الأسابيع القليلة الماضية رياح تساؤلات راكدة حول أعداد القوات الروسية الموجودة في سوريا، في ظل الحديث عن تخفيض روسيا أعداد قواتها هناك، وفق ما نقلته وسائل إعلام روسية لا تعكس الرؤية الرسمية في موسكو.
قبل نحو شهر تقريبًا، ذكر موقع “The Moscow Times”، وهو موقع إلكتروني لصحيفة كانت تصدر بشكل دوري كل ثلاثة أشهر، أن موسكو تتجه لتقليص قواتها في سوريا، التي قدّر الموقع أعدادها بأكثر من 60 ألف عسكري نصفهم من الضباط، مبررًا التخفيض حينها بمتابعة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، مقابل تسليم موسكو الراية في بعض النقاط والمراكز العسكرية التي تستخدمها روسيا، للقوات الإيرانية وميليشيا “حزب الله” اللبناني.
وبالنظر إلى مجريات “الغزو” الروسي لأوكرانيا، الذي تخطى يومه الـ100، فإن العمليات العسكرية الروسية قلّصت طموحاتها بالوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف، وبدا ذلك من خلال عودة وفود ومكاتب بعض الدول الدبلوماسية لاستئناف نشاطها في العاصمة الأوكرانية، كما أن موسكو اعترفت عبر وزارة الدفاع بمقتل ألف و351 جنديًا روسيًا في أوكرانيا، في إحصائيتها الأخيرة الصادرة في 25 من آذار الماضي.
ويتعارض حجم الخسائر الذي تصرّح به روسيا مع ما نشرته صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الروسية، التي تنشر تقارير إخبارية موالية للكرملين، وتحدثت في الفترة نفسها عن مقتل تسعة آلاف و861 جنديًا روسيًا، وإصابة 16 ألفًا و153 آخرين بجروح.
وبالنظر إلى الرقمين السابقين، وأرقام أخرى صادرة عن الاستخبارات البريطانية زادت الرقم ببضعة آلاف، ليصل إلى نصف ما يتحدث عنه الرئيس الأوكراني حيال الخسائر البشرية الروسية، فهذه الأرقام لا تعكس حاجة ملحّة لاستقدام قوات إضافية للمعركة البطيئة في أوكرانيا، لا سيما مع تحشيد روسي يصل إلى 190 ألف جندي، وفق ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، في 19 من آذار الماضي.
ما أعداد الروس في سوريا؟
الصحفي والخبير في الشأن الروسي رائد جبر، شكّك، في حديث إلى عنب بلدي، بدقة الأرقام التي تتحدث عن وجود 60 ألف عسكري روسي في سوريا، معتبرًا أن الرقم غير دقيق ومبالغ به، باعتبار أن موسكو تتكتم على أعداد قواتها العسكرية وتحركاتها وخسائرها، بما ينسجم مع العقيدة العسكرية الروسية.
وأوضح جبر أن غياب وجود المجتمع المدني والصحافة الحرة في روسيا يعوق إمكانية التوصل لأرقام دقيقة على المستوى العسكري، كما بيّن أن الرقم المذكور (60 ألفًا) أو أي أرقام يمكن أن تُطرح، لا تقتصر فقط على قوات الجيش الروسي المقاتلة في سوريا فقط، فهناك مجموعات أخرى، منها القوات العسكرية الموجود في قاعدة “حميميم”، إذ إن جزءًا كبيرًا من هذه القوات ذات مهام غير قتالية، يرتبط وجودها بعمليات رصد ومتابعة في البحر الأبيض المتوسط.
وهناك قوات بحرية وبرية في طرطوس، جزء منها يؤدي مهمات أخرى غير قتالية، إلى جانب وجود الشرطة العسكرية التي تسيّر دوريات في مناطق مختلفة وجهدها مختلف في سوريا، رغم إمكانية خوضها للمعارك، وهناك أيضًا أعداد كبيرة من الخبراء والمستشارين في سوريا، لضمان التواصل والتخطيط مع قيادة النظام في مناطق مختلفة.
وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أعلن، في 26 من أيار الماضي، أن قوات بلاده لم يتبقَّ لها مهام قتالية في سوريا تقريبًا، لافتًا إلى أن عددها “على الأرض” تحدده مهام محددة، وعلى أساس “مبدأ المصلحة”، وفق ما أدلى به خلال حوار مع قناة “RT” الروسية، الناطقة بالعربية.
ويرى الخبير في الشأن الروسي أنه حتى القوات الموجودة اليوم في سوريا ضمن ثكناتها، فهي لا تُستخدم بالكامل، كما أن التقليص لا يتعارض مع تعزيز القوات الروسية بعض نقاطها في سوريا، وهي جزء من القوات الفاعلة في سوريا، والتي لن يُستغنى عن مهامها مع أي تخفيض مستقبلي.
تعزيزات بعد تراجع سابق
بعد الحديث المتواتر في نيسان الماضي عن تسليم القوات الروسية شرقي حمص، مستودعات عسكرية في منطقة مهين، لمصلحة تعزيز الحضور العسكري الإيراني، عبر بوابة “الحرس الثوري الإيراني”، في المستودعات ذاتها، عقب انسحاب كامل للقوات الروسية و”الفيلق الخامس” الموالي لها باتجاه مطار “تدمر” العسكري، وفق ما ذكرته حينها صحيفة “الشرق الأوسط”، شهد أيار الماضي تعزيزًا للوجود الروسي في شمال شرقي سوريا.
وفي 27 من أيار الماضي، ذكرت وكالة “سبوتنيك” الروسية، أن قوات روسية وصلت إلى مطار “القامشلي” الدولي، الذي يضم إحدى أهم القواعد العسكرية الروسية، بالتزامن مع تصريحات تركية تلوّح بعملية عسكرية جديدة في تلك المناطق.
وشملت التعزيزات معدات عسكرية حربية، إضافة إلى سرب من الطائرات المروحية وعددها ست، بالإضافة إلى طائرتين حربيتين.
ووثّق ناشطون وإعلاميون، بالإضافة إلى مراصد عسكرية عاملة في مناطق الشمال السوري، وصول تعزيزات إلى المطار، تضمّنت مقاتلات روسية من طراز “SU-34” وطائرات هليكوبتر هجومية من طراز “Ka-52”.
التعزيزات التي وصلت أواخر أيار الماضي، سبقتها تعزيزات أخرى في النصف الأول من الشهر نفسه، حين استقدمت القوات الروسية مجموعات عسكرية تابعة لـ”الفيلق الخامس” المدعوم روسيًا إلى مناطق نفوذها شرق الفرات، عقب استهداف “طيران مجهول” مواقع عسكرية إيرانية في بلدة حويجة كاطع شمالي دير الزور.
وقالت شبكة “دير الزور 24” المحلية، إن خمس آليات عسكرية من بينها رشاشات ثقيلة مضادة للطيران من عيار 23 مم، وصلت إلى شرق الفرات في 9 من أيار الماضي، سالكة الجسر الواقع في قرية مراط باتجاه المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام وتتمركز ميليشيات موالية لروسيا فيها.
وتزامنت التعزيزات مع وصول جنرالات روس إلى مركز “المصالحة” الروسي، إضافة إلى تعزيزات لوجستية وعتاد عسكري وصلت إلى المنطقة نفسها، وفق الشبكة.
وسبق أن خفّضت القوات الروسية الموجودة في مدينة حلب، في آذار الماضي، تعداد عناصرها التابعين للشرطة العسكرية الروسية في مدينة حلب، التي تتمركز عند أطراف أحياء الحمدانية، وحلب الجديدة، وفي محيط كراج “الراموسة”، إضافة إلى منطقتي الجميلية والمشهد.
كما تداولت شبكات محلية، في 3 من آذار الماضي، تسجيلًا مصوّرًا أظهر مدرعات وعربات عسكرية روسية في ريف حلب الشرقي، تحمل الشعار العسكري الروسي ذاته على خطوط التماس مع مناطق نفوذ المعارضة المدعومة من تركيا.
إثبات وجود جوي
التعزيزات الروسية التي وصلت إلى شمال شرقي سوريا، سرعان ما أثبتت حضورها في المنطقة، لا سيما في إطار الاستخدام الجوي للطائرات المروحية، قرب الحدود مع تركيا.
شبكة “شمال شرق سوريا” الموالية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ذكرت عبر “فيس بوك” أن مروحيتين حربيتين روسيتين حلّقتا، صباح 31 من أيار الماضي، فوق مدينة عامودا الحدودية قادمتين من مطار “القامشلي”.
كما حلّقت الطائرتان على علو منخفض فوق مدينة الدرباسية الحدودية مع تركيا شمالي الحسكة، قبل أن تتجها إلى الريف الغربي للمحافظة، ومن ثم إلى قرية أبو راسين.
إلى جانب ذلك، أكدت وكالة “هاوار” الكردية المقربة من “قسد”، أن مروحيات حربية روسية نفذت طلعات دورية فجر اليوم نفسه، على علو منخفض في سماء ريف حلب الشمالي وخطوط التماس بين “قسد” المدعومة أمريكيًا، وقوات “الجيش الوطني السوري” المدعوم تركيًا.
وسبق ذلك بيوم واحد تحليق مكثّف للطيران المروحي الروسي منذ ساعات الصباح الأولى، في 30 من أيار، في مناطق نفوذ المعارضة السورية شمال غربي سوريا.
وحلّقت ست مروحيات من طراز “Ka-52” تابعة للقوات الروسية شمال شرق مدينة حلب على خطوط التماس مع “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا.
لا 60 ألفًا في سوريا
المحلل العسكري السوري الرائد طارق حاج بكري، شكّك، خلال حديث إلى عنب بلدي، بدقة الأرقام التي تتحدث عن وجود 60 ألف عسكري روسي في سوريا، معتبرًا أن الرقم يشكّل ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف ما هو عليه في الواقع.
وأوضح حاج بكري، أن هناك خبراء روسيين في القطاع العسكري لدى النظام منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكن بما لا يتجاوز بضعة آلاف عسكري منتشرين على مختلف القطع العسكرية.
واعتبر المحلل العسكري أن القوات الموجودة في سوريا ليست من قطع الجيش الروسي بشكل فعلي، ولكن يوجد خبراء وضباط وربما بضعة آلاف يشرفون على تنظيم العمل القتالي والاتصالات وإلقاء الأوامر.
كما أشار إلى وجود قوات وميليشيات تتبع للحكومة الروسية بشكل غير رسمي، لكن ومع كل ذلك، تبقى الأرقام المطروحة غير حقيقية من وجهة نظر حاج بكري، الذي لفت إلى رغبة روسيا بإحاطة الأرقام المتعلقة بحجم حضورها العسكري في سوريا بهالة ضبابية لإيهام الشعب السوري بأن هناك جيشًا روسيًا كاملًا موجودًا في سوريا، قادرًا على قلب الموازين دائمًا.
ولا يستهدف تضخيم أرقام القوات الروسية في سوريا السوريين وحدهم، مقدار ما هو موجه أيضًا، وفق حاج بكري، للقوى الغربية ذات الحضور والتأثير الفاعل في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في حين أن القوات الكبرى لروسيا هي القوات التي تدعمها في سوريا كـ”الفيلق الخامس”، وقوات قد لا تدعمها بشكل كامل أو مباشر، لتقول في نهاية المطاف إن روسيا دولة كبيرة لها قواعد ضخمة في سوريا.