داخل بناء برتقالي اللون في أزقة إسطنبول العتيقة والضيقة، أنشأ زوجان سوريان مركزًا ثقافيًا ناطقًا باللغة العربية، مكوّن من طابقين وقبو، لسد حاجة لطالما بحث عنها عرب المدينة المتعطشين لحضور أي عرض فني أو ثقافي ينطق بلغتهم، ويكون فسحة لمن أراد استخراج ما عنده من موهبة يقيس بها شغفه ويمرّن خياله.
في أيار 2021، تبلورت لدى جهاد بكر وبيان آغا فكرة إنشاء مكان يجمع العرب والأجانب والأتراك، يقرّبون المسافة بينهم، ويتناقشون بما يربطهم من تصورات عن الحياة، وبعدها بعام واحد، استطاع الزوجان افتتاح مركز “يولو آرت” للعروض الفنية المستقلة بمساعدة فريق مكوّن من عشرة أفراد.
تبرز لدى الناس في أوقات عدة حاجة ملحة إلى التعبير عن مشاعرهم، يكون الفن حينها من أبرز الوسائل للتعبير، ومع وجود منصات مستقلة تمنح الفرصة للتعبير، يصير الفن فعلًا شعبيًا، ولا يحتكره أحد أو يتبع أي جهة.
صناعة بديلة للفنون
“في سوريا كنت ضمن عدة مبادرات في عفرين تشبه طابع المشروع الذي بدأنا به هنا بإسطنبول، قبل 2011 وبعدها”، شرح جهاد، في حديثه إلى عنب بلدي داخل بناء المركز، وجهة نظره حول صناعة الفنون في سوريا، وفي عفرين وحلب على وجه الخصوص كونه من سكان تلك المدينة، فدومًا هناك ثمة فرصة لخلق مسارات لأعمال تعبيرية لفنانين أو موهوبين من فئة الشباب، إلا أن هذا المجال في أغلب الأوقات لا يلقى أي اهتمام مجتمعي.
“ثقافة النظام في سوريا للأسف علّمتنا أن جميع النشاطات الفنية والثقافية مرتبطة به، وهذا الربط يجعل تمويل أي مشروع فني مصدره النظام، ولا يوجد أي طريقة تمويل فردية لأي مشروع فني”، وفق ما ذكره جهاد، الذي يعمل في الإخراج.
ركّزت السلطة في سوريا على استدعاء الشعراء وأساتذة الجامعات والفنانين وكتاب المسرح على نحو دوري للمساعدة في إنتاج الرأي العام، وتغذية عبادة الرئيس الحاكم، وتحدد السلطة مقدار الانتقاد المسموح به وحدوده في الأعمال الفنية، من أجل تحرير الضغط الشعبي المكبوت تجاه السلطة وتخفيفه، لكن خطر هذا التنفيس كان يسمح باستمرار الظلم.
“هذا الأمر جعل عبارة محددة تنتشر بين الناس، هذه العبارة هي أن الفن ما بطعمي خبز، نحن نريد أن نثبت للعالم من خلال هذا المكان أن الفن بطعمي خبز، لكن لم يعلّمنا أحد كيفية تطبيق ذلك”، بحسب ما قاله جهاد بكر.
قادت الظروف التي عاشتها سوريا خلال 11 عامًا إلى ظهور حركة ثقافية وفنية متعددة الأوجه، في الخارج وعلى نطاق ضيق داخل سوريا، وبرزت معها مواهب واكبت الأحداث السياسية والعسكرية بأعمال فنية وثقافية، وتمكن سوريون من اكتشاف قدراتهم على ابتداع أعمالهم الفنية.
هذا المنتج الثقافي السوري الذي ينمو خارج سيطرة النظام السوري سمح بهدم أركان المؤسسات القديمة يقيمها وآلياتها وأفكارها، وبناء مؤسسات فنية بديلة ذات أنماط تفكير جديدة وحرة، وبآليات عمل مغايرة لتلك التي بناها الاستبداد، ودفعت سوريين إلى إعادة بناء رؤيتهم لذواتهم وكيفية توظيفها.
فرصة لمن يملك الموهبة
في مدينة إسطنبول، يوجد مليون و305 آلاف أجنبي يقيمون بشكل قانوني، كما أن أغلبية اللاجئين السوريين فيها هم من الشباب، لذا كان الوصول إلى سد حاجة التواصل مع الآخر أمرًا أساسيًا، بالإضافة إلى الراغبين بإنتاج فن حقيقي جديد يحقق أحلام أولئك الشباب.
يقع مقر مركز “يولو آرت” في منطقة بلاط في الجانب الأوروبي من إسطنبول، وهو مكوّن من طابقين بجدران ملّونة.
الطابق الأول هو مقهى يقدم مختلف أنواع المشروبات، التصميم المعماري الداخلي فيه يعكس مدى اهتمام القائمين عليه بدمج الثقافات الشرقية والغربية ببعضها، إذ اُلصقت قصاصات جرائد عربية وغربية على طاولات المقهى، بالإضافة إلى صور لفنانين عرب وأجانب.
كما توجد منصة مسرح صغيرة في قبو المركز، تعرض عليها جميع الأعمال الفنية، وفي الطابق الثاني من المفترض أن تبدأ دورات تدريبية وورشات عمل مرتبطة بمواضيع فنية.
“نحاول بهذا المشروع بناء نظام عمل مثل علامة تجارية لجمع المهتمين بدعم الموهوبين بأولئك الشباب الباحثين عن فرصة لتطوير مهاراتهم”، بحسب جهاد، نظام العمل هذا “قائم على صناعة الفن، كون هذه الصناعة ضخمة في بلدان العالم إلا أنها مهمشة لدينا، ولا نملك تجارب لنقتبس دراسة جدوى من تلك التجارب في مشروعنا”.
كما ينظم المركز خلال الفترة الحالية كل يوم سبت لمدة ثلاثة أسابيع، مسابقة “ستاند آب كوميدي”، وسيقوم الحضور بالتصويت للمتسابق الأفضل، وسيكون الاشتراك في هذه المسابقة مجاني.
فسحة لمعرفة الآخر
لا يسعى الناس بمتابعتهم الفنون، إلى الترويح عن أنفسهم والتسلية فحسب، بل يطمحون أيضًا من خلال مشاهدتهم الأفلام السينمائية والعروض المسرحية، وقراءة الشعر والقصة، والعزف على الآلات الموسيقية، وتأمل اللوحات الفنية، إلى أمرين مهمين في الحياة، الأول: المعرفة، أي معرفة الفرد نفسه والآخرين، ومعرفة الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياته.
والأمر الثاني هو التوق إلى الاندماج الاجتماعي والحوار مع الآخرين، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتشارك الآلام والآمال معهم، لتكون هذه التشاركية أساس استقرارهم النفسي، وتهدثة توتراتهم اليومية.
قالت بيان آغا في حديث إلى عنب بلدي، “بعد انتشار كورونا، تبلورت فكرة تأسيس هذا المشروع كحاجة ليجتمعوا الناس ويفكروا ويتناقشوا ويتعلموا ويبدأوا بمشاريعهم الخاصة وأحلامهم”.
عزز انتشار فيروس “كورونا” عام 2020 تعليمات “العزل المنزلي”، ويعني ذلك العزل الاجتماعي ما يؤدي إلى الشعور بوحدة مفروضة وغير مختارة، خصوصًا أولئك الذين يعيشون بمفردهم في المدن الكبرى، بعيدين عن أسرهم.
“الناس في إسطنبول بحاجة لتتعرف على بعضها، عرب وأجانب وأتراك، نستهدف جميع هذه الشريحة من الجمهور”، وفق ما ذكرته بيان، و”اللغة عامل مهم في هذا المكان، بمعنى أنه يجب كسر حاجز اللغة بين الناس الذين ينتمون إلى جنسيات وثقافات مختلفة، يختلطون ببعضهم كي تُكسر جميع الأفكار النمطية تجاه فئات معينة”.
ضمن هذه الحالة التي وصفتها بيان، فإن البوح هو أحد العناوين الرئيسة في المكان، أي إخراج الكلمة والرأي والحلم والهواجس إلى العلن، والتشارك فيها مع الآخرين، من خلال الحوار العلني أو الضمني بين الفنان والجمهور، حيث تسمح هذه العلاقة التبادلية بتطور الطرفين، لتكون في حالة متغيرة باستمرار، عمادها الفن المؤثر في الجمهور، حيث يغير قناعاته وتصوراته ومزاجه ضمن بيئة من الحرية.
“هذا المشروع بالنسبة لنا مخاطرة، وضعنا جهدنا كله بهذا المكان، وإلى الآن لا يوجد شيء مضمون، هواجسنا موجودة ومعروفة بالنسبة لنا، وهي مالية بالدرجة الأولى”، وفق ما عبّرت عنه بيان، “نجحنا بترك انطباعات حلوة لكن كبزنس، إلى الآن هناك هواجس، لكن نتمنى المشروع يستمر. نريد أن يكون هذا المكان بيتًا للكل”.