“القراءة بالطريقة الشرعية لم تعد خيارًا، والطرق غير الشرعية أرهقت عيوني”، يضحك بلال (24 عامًا)، ساخرًا من محاولاته التحايل على أسعار الكتب العربية في اسطنبول، ليستمر بممارسة هوايته التي يحب.
في حين تحوّلت العديد من أساسيات الحياة لدى اللاجئين السوريين في تركيا إلى أشياء هامشية، يحاول عشرات الشباب العثور على وسيلة لشراء الكتب، إذ باتت تشكّل جزءًا أساسيًا من اهتماماتهم اليومية.
عنب بلدي فتحت النقاش مع قرّاء وأصحاب مكتبات حول صعوبات اقتناء الكتب أو استعارتها، وأسباب ارتفاع أسعارها.
“عادة مقدسة” تفسدها الأسعار
“لم تكن القراءة تعنيني في السابق، كنت أشعر أنها فرض عائلي (…)، لكنها الآن جزء مقدس من يومي”، يتحدث بلال وهو جالس في أحد مقاهي اسطنبول العربية بحي الفاتح، حول حكاية صداقة تجمعه بالكتب، بدأها مع رواية “كائن لا تحتمل خفته”، التي حوّلت القراءة من عبء ثقيل على قلبه إلى عادة خفيفة يحب ممارستها.
يعمل بلال في أحد المحال التجارية في شارع الاستقلال لنحو عشر ساعات يوميًا، لكنّ مشقة العمل لا تبطل رغبته بإعداد إبريق شاي، وقضاء نصف ساعة على الأقل من يومه برفقة إحدى الروايات الأدبية.
يصمت بلال للحظة، ليشير ضاحكًا إلى أن “مباريات ريال مدريد وفيلمًا جديدًا من النوع الذي يحب” يكونان أحيانًا أولى بتلك النصف ساعة، ليستدرك، لكن القراءة باتت عادة لا يمكن الاستغناء عنها، فهي ضرورة لتوسيع مدارك الإنسان ومنحه فرصة رؤية التفاصيل من زوايا مختلفة، كما يقول.
“قبل سنة كنت أقرأ أربعة كتب شهريًا على الأقل، أشتري اثنين وأقر اثنين بصيغة (pdf)، لكن ذلك لم يعد متاحًا اليوم، أدخل إلى المكتبة لأسأل عن سعر الكتاب فتكون الإجابة بالدولار”، يشتكي بلال من ثمن الكتب الذي يعادل نحو يوم عمل كامل له.
وفي استطلاع رأي أجرته عنب بلدي لمجموعة من رواد المكتبات العربية، أكّد معظم الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، أن أسعار الكتب لا تناسب قدرتهم الشرائية.
مالك ومدير مكتبة “كتاب سراي”، إبراهيم كوكي، قال لعنب بلدي التي زارت المكتبة، إن أسعار الكتب مرتفعة، والأصل أن تكون أقل ثمنًا بما يتناسب مع الشريحة الكبرى من القراء.
وأوضح كوكي أن الشريحة الكبرى من القراء خاصة في اسطنبول، من الطلاب المحدودي الدخل.
دور النشر تحدد الأسعار
على غرار المقولة المعروفة “القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ”، تعتبر اليوم دور النشر في بيروت والقاهرة سببًا أساسيًا يحد من قدرة اللاجئين السوريين في اسطنبول على القراءة.
المدير المسؤول عن مكتبة “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، عبد الله (تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية متعلقة بعائلته المقيمة في سوريا)، أرجع ارتفاع أسعار الكتب إلى وجود معظم دور النشر خارج اسطنبول، ما يجبر المكتبات على الالتزام بتسعيرة دور النشر المحددة بالدولار.
وأوضح عبد الله أن انخفاض قيمة الليرة التركية فاقم أزمة أسعار الكتب، فالكتاب المسعّر بقيمة عشرة دولارات صار سعره نحو 160 ليرة تركية، بينما كان يبلغ قبل نحو سنة حوالي 90 ليرة تركية، ما خفض الإقبال على شراء الكتب بشكل ملحوظ، وفق تعبيره.
ويعتبر مركز “الشبكة العربية” في اسطنبول مركزًا للبيع فقط، والفرع الرئيس للنشر والطباعة في بيروت منذ سنوات، وفق عبد الله.
وأرجع عدم افتتاح دور نشر في اسطنبول، إلى أن معظم دور النشر أُسست في دول محددة منذ مدة طويلة، وتحتاج إلى إعادة دراسة تكاليف الطباعة والنشر في تركيا، إلى جانب حاجتها إلى تحديد تكاليف الشحن إلى خارج تركيا، وهي مكلفة جدًا مقارنة بدول أخرى.
من جهته، قال مالك مكتبة “كتاب سراي”، إن معظم الكتب التي تباع في المكتبات، يجري تحديد أسعارها من قبل دور النشر، ما يجعل المكتبات العربية عاجزة عن إجراء تغيير يناسب دخل العرب، وخاصة السوريين في تركيا.
وتملك مكتبة “كتاب سراي” دار نشر تابعة لها، لكنّها لا تزال تبيع عددًا محدودًا من الكتب التي تعتبر أسعارها منخفضة مقارنة بالكتب المستوردة من دور نشر خارج تركيا، بحسب ما قاله كوكي ممسكًا أحد الكتب التي طبعتها مكتبته مؤخرًا.
وأرجع كوكي عدم وجود دور نشر كبيرة تنافس الموجودة في بيروت والقاهرة، إلى أن الإقبال في تلك البلدان أكبر، مشيرًا إلى وجود بعض دور النشر في اسطنبول، لكن معظمها متخصص في مجالات محددة.
بدائل لا تلبي رغبة القراء
“أكتب اسمي وتاريخ الشراء على كل الكتب، وأعتبرها ملكية خاصة لا أحب أن يشاركني أحد بها”، يضحك بلال من “أنانيته المفرطة” حين يتعلق الأمر بالكتب.
واعتبر بلال، وهو قارئ يطمح إلى أن يمتلك مكتبة ضخمة في منزله، أن البدائل الموجودة للقراءة غير مُرضية، ولا يمكن أن تسهم بتأسيس المكتبة التي وضع صورتها في خياله منذ سنوات.
“توفر بعض المكتبات أو المقاهي العربية كتبًا لاستعارتها”، يقول بلال مشيرًا بيده إلى رفوف المكتبة في المقهى الذي يجلس به، ويتابع بحماسة “عثرت على واحدة جديدة الآن”.
يضيف بلال أن المكتبات والمقاهي التي توفر كتبًا لاستعارتها، أو تلك التي توفر كتبًا مستعملة لشرائها، تعرض عددًا محدودًا جدًا من الكتب، وغالبًا ما تكون موضوعاتها مكررة.
وتعتبر قراءة الكتب بصيغة “pdf” الخيار البديل الأفضل، لكنها وسيلة غير شرعية للقراءة وترهق العيون مع مرور الوقت، بحسب ما قاله بلال.
ومن البدائل التي يعتمد عليها بلال وبعض القراء الذين قابلتهم عنب بلدي، طريقة “التدوير” التي تعني تقاسم مجموعة من الأصدقاء ثمن كتاب ما وتدويره بينهم حتى يقرأه جميعهم.
كما أُسست في بعض الجامعات التركية نوادٍ للقراء، توفر أيضًا خيار تبادل الكتب وتبادل الأفكار حولها.
مالك مكتبة “كتاب سراي” إبراهيم كوكي، قال إن مكتبته توفر كتبًا للاستعارة، لكنها بمواضيع محددة، موضحًا أن ركن الإعارة في المكتبة يعتمد بشكل أساسي على الكتب التي يتبرع بها بعض القراء.
في المقابل، لا توفر مكتبة “الشبكة العربية” كتبًا للاستعارة، ما أرجعه المسؤول عن المكتبة، عبد الله، إلى أن الإعارة تعني أن الكتاب سيصبح غير صالح للبيع، فالشبكة تعتبر مركز بيع في اسطنبول.
وخلال عام 2021، شهدت الأسعار في تركيا ارتفاعًا كبيرًا جرّاء انخفاض الليرة التركية لأدنى مستوى في تاريخها، حين تجاوزت الـ19 ليرة مقابل الدولار الاحد.
ومنذ مطلع أيار الحالي، بدأت قيمة الليرة التركية بالانخفاض مجددًا، بعد أن ثبت سعر صرف الدولار الأمريكي واليورو في آذار ونيسان الماضيين، وعند تحرير هذا التقرير، بلغ سعر الليرة 16.4 مقابل الدولار الواحد، بحسب موقع “Döviz” المتخصص بأسعار الصرف والعملات.
ويقيم في تركيا نحو ثلاثة ملايين و762 ألف سوري تحت “الحماية المؤقتة”، بحسب تصريحات وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، في 5 من أيار الماضي.
–