مأمون البستاني | جنى العيسى | أمل رنتيسي | محمد فنصة
ثمانية هكتارات مزروعة بالقمح المروي، هي كل ما يملكه المزارع إبراهيم سليمان في ريف بلدة القحطانية شمال شرقي محافظة الحسكة في سوريا.
ينتظر إبراهيم (41 عامًا) “بفارغ الصبر” البدء بالحصاد، في الجزيرة السورية معقل “الذهب الأصفر”، لكن ما يشغل باله أبعد من تأمين الحصّادة والعمال وشوالات الحصاد، وإنما هو صراع سياسي- اقتصادي حول إنتاجه بين قطبين رئيسين هما “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، والنظام السوري.
الصراع على القمح يخفي وراءه الخوف من “مجاعة” تهدد ملايين السوريين، فمع تحوّل سوريا إلى بلد مستورد بعدما كانت مصدّرة للقمح خلال السنوات الماضية، نشأت أزمة توقف التوريدات من روسيا وأوكرانيا بسبب “الغزو”، ثم حظرت الهند، التي كانت الأنظار إليها باعتبارها بديلًا، توريد المادة لتأمين الحاجة المحلية.
تلاحق أرقام الأمن الغذائي السوريين وتحاصرهم، إذ احتلت سوريا المرتبة الأولى من بين الدول العشر الأكثر انعدامًا للأمن الغذائي على مستوى العالم خلال العام الحالي، بحسب ما قالته الأمم المتحدة في شباط الماضي، حيث يعاني 12 مليون شخص من وصول محدود أو غير مؤكد إلى الغذاء.
وأعلن برنامج الأغذية العالمي، في تقريره السنوي لعام 2021، أن ثلاثة من كل خمسة سوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بعد الارتفاع المستمر لأسعار المواد الغذائية، وتدهور الاقتصاد في جميع أنحاء سوريا.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف عبر رصد شهادات مزارعين، إجراءات السلطات في مختلف مناطق سوريا للاستحواذ على محصول القمح، وتناقش مع خبراء اقتصاديين آثار ذلك، بالإضافة إلى إيقاف التوريدات الخارجية وانعكاساته على الأسعار.
صراع أسعار للاستحواذ على قمح سوريا
اعتبر المزارع إبراهيم سليمان في القحطانية أن السعر المحدد من قبل “الإدارة” أفضل بكثير من السعر الذي حدده النظام السوري، خاصة أن الأخير لا يقدم أي شيء بالمقابل “لا محروقات ولا أسمدة”، بينما أمّنت له “الإدارة” المحروقات خلال فترة السقاية (15 ليتر مازوت لكل دونم بمعدل أربع دفعات).
وقال لعنب بلدي، إن المزارعين أصحاب المساحات البعلية في مناطق “الإدارة الذاتية” مجبرون بكل الأحوال على تسويق محصولهم لـ”الإدارة”، التي عمّمت على فلاحي المنطقة بأن كل من يبيع محصوله لغير “الإدارة” ستصادَر كميته، ويحوّل مع صاحب آلية النقل إلى الرقابة.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي، يفضّل أغلب المزارعين بيع محصولهم لـ”الإدارة الذاتية”، كون عمليات التوريد أقرب وأسهل وأكثر أمانًا من توريد المحصول للنظام.
بالمقابل، يضطر المزارعون في المناطق والقرى الواقعة تحت سيطرة النظام بريف مدينة القامشلي لتوريد محصولهم إلى النظام.
“الإدارة” في مواجهة النظام
مع بداية كل موسم حصاد في سوريا، تشتد المنافسة لشراء محصول القمح من المزارعين خصوصًا بين النظام السوري و”الإدارة الذاتية”، وبدرجة أقل من قبل حكومتي “الإنقاذ” و”المؤقتة” في شمال غربي سوريا، وذلك عبر تحديد كل طرف تسعيرة أعلى لشراء المحصول، وتقديم تسهيلات لنقل المحصول وتجهيز المراكز لاستقباله.
في 14 من أيار الحالي، حددت حكومة النظام السوري سعر شراء كيلوغرام القمح من المزارعين في المناطق الآمنة (مناطق نفوذ النظام) بـ1700 ليرة سورية مع منح مكافأة 300 ليرة (نحو 50 سنتًا أمريكيًا)، بحسب سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار حينها.
وذكرت حكومة النظام أنها ستمنح مكافأة قدرها 400 ليرة عن كل كيلوغرام يتم تسليمه من المناطق “غير الآمنة” (الخارجة عن سيطرة النظام) ليصبح سعر الكيلوغرام 2100 ليرة.
من جانبها، حددت “الإدارة الذاتية”، في 23 من أيار الحالي، سعرًا أعلى من تسعيرة النظام لشراء مادة القمح في مناطق نفوذها، إذ بلغ سعر كيلوغرام القمح 2200 ليرة سورية (نحو 55 سنتًا أمريكيًا).
وأطلقت “الإدارة” وعودًا بتسهيلات في فرق درجات الجودة، محددة بدء تسلّم المحصول في كل من الرقة ودير الزور والطبقة في 25 من أيار الحالي، وفي منطقة الجزيرة بدءًا من 28 من الشهر نفسه.
تأخّر التسعيرة عند “المؤقتة” و”الإنقاذ”
“الحكومة السورية المؤقتة” العاملة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، ومنطقة تل أبيض بريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي، لم تعلن إلى الآن تسعيرة شراء محصول القمح للموسم الحالي.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، إن الحكومة شكّلت لجنتين، واحدة في منطقة شرق الفرات (رأس العين وتل أبيض) والأخرى في منطقة غرب الفرات، لتقديم اقتراحات لتسعيرة القمح للموسم الحالي.
وأضاف أن إصدار تسعيرة القمح سيتم بمجرد تقديم اللجنتين اقتراحاتهما حول التسعيرة، وذلك في ضوء المتغيرات الدولية والأسعار العالمية مع مراعاة التكلفة على الفلاح.
وأشار المصري إلى أنه في حال عدم كفاية الإنتاج يجري الاستيراد، إذ تشتري “الحكومة المؤقتة” كميات من القمح من رأس العين وتل أبيض وتنقلها “ترانزيت” عبر تركيا إلى مناطق “الحكومة” في شمال غربي سوريا.
وذكر المصري أن الإنتاج في منطقة غرب الفرات قليل بينما في شرقه أفضل لوجود مساحات مروية، حيث قدّر مسؤولو مديريات الزراعة في “الحكومة المؤقتة” إنتاج ما بين 40 ألفًا و50 ألف طن قمح من منطقتي تل أبيض ورأس العين.
من جانبها، لم تحدد حكومة “الإنقاذ” العاملة في محافظة إدلب وفي أجزاء من ريف حلب الغربي إلى الآن تسعيرة شراء القمح، وتواصلت عنب بلدي مع وزارة الاقتصاد التي ذكرت أنه لم يتم تحديد التسعيرة إلى الآن.
فروقات الأسعار لا تساعد
يرى الباحث الاقتصادي زكي محشي، في حديث إلى عنب بلدي، أن الفروقات المختلفة لتسعيرة شراء القمح من الفلاحين، التي تحددها كل من حكومة النظام و”الإدارة الذاتية” وحكومتي “المؤقتة” و”الإنقاذ”، لا يمكن أن تصب في مصلحة الفلاحين، كونها غير مناسبة للتكلفة أساسًا.
وفسّر الباحث، وهو باحث في كلية “لندن” للاقتصاد، اختلاف الأسعار، بخوف السلطات من عدم وصول الخبز للأسر، الأمر الذي سيؤدي إلى مضاعفات اجتماعية أو اضطرابات “هم بغنى عنها”.
وأضاف أن تلك السلطات مهتمة أيضًا بالمنافسة لتوزيع الموارد بين القوى المسيطرة، ولتحصل كل منها على كمية أكبر من الإنتاج المحلي، لتوفر استيراد كميات إضافية من القمح بالقطع الأجنبي.
حواجز النظام تبتز المزارعين
“أحمد” مزارع من قرى ريف القامشلي (اسم مستعار، إذ تحفظ على ذكر اسمه الحقيقي لمخاوف أمنية)، يملك هكتارات عدة مزروعة بالقمح جنوبي المطار، قال لعنب بلدي، إنه ليس لديه خيار آخر سوى توريد المحصول إلى النظام.
واتهم “أحمد” قوات النظام بابتزاز المزارعين خلال عمليات التوريد في كل موسم حصاد، من خلال عشرات الحواجز المنتشرة في المنطقة “بحجة حماية ومنع تهريب القمح”، في حين تفرض إتاوات ورسومًا على كل سيارات الشحن.
وأشار إلى أنه في بعض الأحيان تتأخر عمليات تفريغ الحمولات داخل مراكز الحبوب نتيجة ممارسات حواجز النظام، الأمر الذي يؤدي إلى امتداد “طوابير طويلة” على الدور، ما يضطر المزارع إلى دفع أجرة إضافية لصاحب سيارة الشحن عن كل يوم انتظار.
وعلمت عنب بلدي من عدد من المزارعين أن تجار الحبوب ينشطون في مناطق سيطرة النظام أكثر من مناطق “الإدارة”، حيث يستطيعون دفع رشى لحواجز النظام والتعامل مع الضباط الذين يحصلون على نسب معيّنة مقابل السماح لهم بالعبور.
“شوائب الإدارة” ترجح كفة التاجر
علي (50 عامًا)، وهو مزارع من ريف الرقة الشرقي، قرر بيع محصوله من القمح حال حصاده لتاجر حبوب في مدينة الرقة بسعر 2000 ليرة سورية للكيلوغرام الواحد، وهو أقل بمئتي ليرة من السعر الذي حددته “الإدارة الذاتية”.
وقال علي لعنب بلدي، بعد أن طلب عدم ذكر اسمه الكامل، إنه اضطر لبيع محصوله للتاجر بسعر حتى أقل من سعر “الإدارة الذاتية”، لأنه يخشى أن تخصم مراكز التسلّم من تسعيرة القمح، بحجة وجود شوائب ضمن حبات القمح تبعًا لنظام الدرجات المتبع في مناطق “الإدارة”.
وتتبع “الإدارة الذاتية” في مراكز تسلّم القمح التابعة لها نظام الدرجات، وهو نظام لتقييم جودة محصول القمح عند تسلّمه من المزارعين، وعلى ضوئه يتم تحديد التسعيرة المناسبة للمحصول التي تنخفض في كثير من الأحيان عن السعر الذي تحدده “الإدارة” عادة.
ويستبعد مزارعون من أرياف الرقة إمكانية تسليم محصولهم للمراكز التابعة للنظام السوري، والتي افتتحها في مناطق خاضعة لسيطرته بريف المدينة.
وتمنع “الإدارة الذاتية” نقل المحاصيل الاستراتيجية الأربعة (القطن والقمح والذرة والشعير)، سواء داخل مناطق سيطرتها أو خارجها، دون شهادة منشأ صادرة عن شركة “التطوير الزراعي”، وتخوّل هذه الشهادة حاملها نقل محصوله ضمن مناطق محددة وتاريخ محدد.
في 19 من أيار الحالي، أصدرت “لجنة الزراعة والري” تعميمًا يقضي بتسليم المزارعين محصول القمح لمؤسسات “الإدارة” في مدينة الطبقة غربي محافظة الرقة، مهددة بإلغاء الترخيص الزراعي للموسمين الصيفي والشتوي للمزارع المخالف سواء كان مالكًا أو مستأجرًا.
الأولوية لمن يقدم الخدمات
عبد القادر (44 عامًا)، وهو مزارع من قرى الحمرات بريف الرقة الشرقي، قال لعنب بلدي إنه يرى نفسه مجبرًا على بيع محصوله لأحد تجار الحبوب في مدينة الرقة.
وأوضح عبد القادر أنه اضطر للاستدانة من التاجر تكلفة زراعة محصول القمح طوال فترة زراعته، بشرط أن يسلّم المحصول له حال حصاده، وهو ما سوف يحدث بكل تأكيد، على حد قوله.
وأشار إلى أن “الإدارة” لا تقدم المستلزمات الزراعية اللازمة لزراعة المحصول وتتأخر بتسليم المحروقات، وهو ما يدفع المزارعين للبحث عن بدائل ويضطرون في وقت الموسم لعدم تسليم محصولهم للمراكز التابعة لـ”الإدارة”.
بينما رجّح مزارعون إمكانية تسليم محصولهم لمراكز “الإدارة الذاتية”، على اعتبار أنهم وقّعوا عقودًا مع شركة “التطوير الزراعي” بمدّهم بالبذار المحسّن، الذي من المفترض أن يحتل صدارة التسعيرة التي حددتها “الإدارة”.
عضو من “لجنة الزراعة والري” في “مجلس الرقة المدني”، رفض الكشف عن اسمه لأنه غير مخوّل بالتصريح لوسائل الإعلام، قال لعنب بلدي، إن “الإدارة الذاتية” ستحاول شراء كامل محصول القمح من المزارعين وستتخذ التدابير اللازمة بهذا الخصوص.
وأضاف أن “الإدارة” تولي اهتمامًا بالغًا لشراء القمح، ولكن نظام الدرجات المتبع هو نظام قديم حتى من أيام النظام السوري، ويعتمد أساسًا على درجة نظافة مادة القمح وخلوها من الشوائب.
أما بالنسبة لدعم المزارعين بالمستلزمات الزراعية والمحروقات، فأشار إلى أن الدعم الذي يقدم هو ضمن الإمكانيات المتاحة لـ”الإدارة” والتي تعمل على زيادتها وتحسينها مستقبلًا.
في درعا.. حضور لـ”إكثار البذار”
محمد القاسم (65 عامًا)، مزارع من منطقة تل شهاب غربي درعا، قال لعنب بلدي، إنه زرع 20 دونمًا ببذار القمح على مياه الأمطار في كانون الأول 2021، واحتاج الدونم الواحد إلى ما يقارب 35 كيلوغرامًا من البذار بسعر 2500 ليرة سورية.
وأضاف أن واجه صعوبات عدة، منها انتشار فأر الحقل والحشرات، ما دفعه لاستخدام أدوية بكمية أكبر وبالتالي زيادة في التكاليف.
وأشار محمد إلى أنه بدأ في شهر آذار بسقاية المحصول من مياه الآبار، موضحًا أن كل ساعة تشغيل لمولدات ضخ مياه الري يتم استهلاك ما يقارب خمسة ليترات من المازوت الذي وصل سعره إلى 4300 ليرة سورية لليتر الواحد.
وذكر أنه حصل على 40 ليترًا من المازوت “المدعوم” بسعر 600 ليرة سورية، و60 ليتر مازوت “حر” بسعر 1700 ليرة لليتر الواحد، لافتًا إلى أن هذه الكميات لا تغطي ربع حاجته من المازوت لري محصوله.
وتوقّع محمد مردودًا جيدًا من المحصول المروي، بينما لن يدخل محصول القمح البعلي العملية الإنتاجية لهذا العام، بسبب قلة الأمطار.
ووفقًا لما قاله محمد، فإن بعض المزارعين في المنطقة قرروا الاحتفاظ بمحصولهم على أمل ارتفاع الأسعار، في حين أنه سيسلم محصوله لـ”مؤسسة إكثار البذار” كونها سلّمته المازوت والأسمدة، ووقّع على أوراق تعهد بتسليمها المحصول.
في إدلب.. “القرض الحسن”
صالح العيسى (45 عامًا) وهو مزارع من منطقة سهل الروج غربي إدلب، قال لعنب بلدي، إن حصاد مادة القمح لم يبدأ بعد، متوقعًا أن يبيع المزارعون محصول القمح للتجار.
وذكر أن المزارعين الذين لديهم مواشٍ بأعداد كبيرة، سيتركون قسمًا كبيرًا من محصول القمح كمادة علفية، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الأعلاف.
ولفت صالح إلى أن بعض المزارعين ممن حصلوا على سلفة “القرض الحسن” من حكومة “الإنقاذ” سيسلمون المحصول لـ”الحكومة”، أو سيبيعونه للتجار.
وأوضح أنه في مطلع العام الحالي تقدّم عدد من المزارعين ممن ليست لديهم القدرة المالية على زراعة حقولهم بطلب للحصول على “القرض الحسن”، الذي يشمل تسليمهم بذار الحنطة والأسمدة والأدوية الزراعية اعتبارًا من شباط الماضي.
ومن الشروط للحصول على القرض، بحسب صالح، تقديم أوراق ثبوتية، ووجود كفلاء من أبناء المنطقة، وموافقة رابطة الفلاحين، وتسليم محصول القمح لـ”الحكومة” أو إعادة السلفة بعد بيع المحصول للتجار، وذلك بموعد أقصاه 15 من تموز المقبل.
ووفقًا لصالح، تم الحصول على بذار القمح بموجب “القرض الحسن” بتسعيرة عام 2021 (350 دولارًا أمريكيًا للطن الواحد)، كما أن سعر كيس السماد (50 كيلوغرامًا) تم تسلّمه بسعر 35 دولارًا.
صالح قال إن موسم الحصاد الحالي يعد مقبولًا، رغم الصعوبات التي تواجه المزارعين فيما يخص ارتفاع تكاليف الحراثة والري واليد العاملة، إضافة إلى نقص الأدوية.
في حلب.. دعم المنظمات
المزارع قاسم الأحمد (44 عامًا)، من بلدة قباسين بريف حلب الشمالي الشرقي، قال لعنب بلدي، إن من أهم الصعوبات التي واجهها المزارعون خلال الموسم الحالي ارتفاع تكاليف ري محصول القمح بسبب ارتفاع سعر مادة المازوت (100 دولار أمريكي للبرميل)، خاصة في ظل موجة الجفاف التي ضربت المنطقة نتيجة قلة الهطولات المطرية، ما أدى إلى زيادة استهلاك المازوت.
وأوضح أنه قام بسقاية المحصول مرتين فقط بسبب غلاء سعر المازوت، الأمر الذي سيؤدي إلى نمو حبة القمح بشكل ضعيف، وبالتالي انخفاض الإنتاج.
ذكر قاسم أنه لم يحصد محصول القمح حتى الآن، مشيرًا إلى أنه يريد بيع المحصول بعد حصاده إلى منظمة محلية كانت دعمته ببذار القمح، وذلك لأن المنظمة تعمل على إكثار البذار.
“هذا العام كان اسمي من بين المزارعين الذين حصلوا على دعم من منظمتي (يدًا بيد) و(بنفسج) لزراعة القمح”، وفق ما قاله قاسم لعنب بلدي، لافتًا إلى أنه لم يبع المحصول إلى الآن لا لتركيا، التي تنشط في دعم مؤسسات المنطقة وتوجد تسهيلات للتجار لنقل المحصول إليها، ولا للمنظمات.
وأشار إلى أنه في عام 2021، تسلّم التجار المحصول بسعر أعلى من سعر المنظمات (350 دولارًا للطن الواحد).
تختلف العملات المعتمدة بالمناطق الثلاث الرئيسة في سوريا، فبينما تعتمد مناطق النظام السوري و”الإدارة الذاتية” على الليرة السورية بشكل رئيس، يجري التداول بالدولار والليرة التركية في شمال غربي سوريا.
ويلامس سعر الدولار حاليًا أربعة آلاف ليرة سورية، بينما يقابل الدولار 16 ليرة تركية. |
إيقاف التوريدات يربك السوريين
شكّلت الاضطرابات في سوق تصدير القمح العالمي منذ بدء “غزو” روسيا لأوكرانيا، في 24 من شباط الماضي، سببًا مباشرًا لارتفاع أسعار مادة القمح، وسط تعاظم التخوف من تفاقم أزمة الغذاء عالميًا.
وتعد روسيا وأوكرانيا من أكبر الدول المصدّرة للحبوب ومن بينها القمح، إذ تصل صادرات كلا البلدين من القمح إلى أكثر نحو 30% من الصادرات على مستوى العالم سنويًا.
وقال برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة (WFP)، في 4 من أيار الحالي، إن الحرب في أوكرانيا كشفت هشاشة سلاسل التوريد العالمية وتعرّضها لصدمات أسعار الغذاء العالمية، ما ينذر بعواقب وخيمة على الأمن الغذائي العالمي.
وفي 16 من أيار الحالي، قالت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية في تقرير، إن مؤشر القمح القياسي ارتفع بنسبة 5.9%، وهو أعلى مستوى له في شهرين، كما ارتفعت أسعار القمح أكثر من 60% منذ بداية العام، بسبب الاضطرابات في سوق تصدير القمح الناجمة عن “الغزو” الروسي لأوكرانيا.
كما شكّل إعلان الهند، في 14 من أيار الحالي، حظر صادرات القمح لمكافحة التضخم في البلاد، ضربة جديدة للأسواق العالمية التي تعاني بالفعل من نقص الإمدادات بسبب مشكلات الإنتاج في قوى التصدير التقليدية بكندا وأوروبا وأستراليا، وتعثّر خطوط الإمداد في منطقة البحر الأسود التي مزقتها الحرب.
ودعت الصين إلى ضرورة إنشاء “ممر أخضر” لتصدير الحبوب الروسية والأوكرانية، في حين حثّت الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي الهند على إعادة النظر بقرار حظر تصدير مادة القمح.
بدائل التوريدات الروسية
تعد سوريا من البلدان التي تعتمد بشكل أساسي على توريد مادة القمح من روسيا وأوكرانيا، إلا أن “الغزو” الروسي لأوكرانيا، وفرض الدول الغربية عقوبات على روسيا، قيّدا من حركة الملاحة في البحر الأسود، ما دفع النظام السوري إلى البحث عن بدائل للتوريدات الروسية.
في آذار الماضي، أعلنت روسيا حظر تصدير القمح، ليخرج مدير عام “مؤسسة الحبوب” التابعة للنظام، عبد اللطيف الأمين، معلنًا أن المؤسسة تنوي التعاقد على توريد 200 ألف طن قمح من الهند، كما أنها تبحث عن خيارات بديلة لاستيراد القمح.
الأمين قال حينها، إن “المؤسسة” تبحث عن خيارات بديلة عن روسيا لاستيراد القمح بسبب ارتفاع أسعارها فقط، مشيرًا إلى أن قرار روسيا بمنع تصدير القمح لا ينطبق على سوريا.
وكان وزير التجارة الداخلية في حكومة النظام السوري، عمرو سالم، قال، في 18 من آذار الماضي، “في حين تعلن عدة دول في المنطقة وفي الغرب عن توقعاتها بحصول أزمة قمح ودقيق، فإن وضع مخزون القمح في الجمهورية العربية السورية بخير”.
وذكر سالم حينها، عبر صفحته في “فيس بوك”، أن الحكومة لا تستورد القمح من أوكرانيا، بل جميع مستورداتها من روسيا “الصديقة”، ولا تطبّق العقوبات الغربية، وليست بحاجة إلى استيراد قمح من أي دول أخرى.
وعقب إعلان الهند حظر تصدير القمح في وقت سابق من الشهر الحالي، قال السفير السوري في روسيا، رياض حداد، إن التوريدات الروسية للاحتياجات الأساسية في سوريا تتم بشكل مستمر ومستقر، مشيرًا إلى أن روسيا استثنت سوريا من جميع الإجراءات التي اتخذتها مؤخرًا فيما يخص تصدير المنتجات وعلى رأسها القمح.
وذكر حداد في تصريحات نقلتها صحيفة “الوطن” المحلية، في 21 من أيار الحالي، أن دفعة جديدة من المساعدات الروسية ستصل إلى سوريا الشهر المقبل تقارب نحو 160 طنًا من القمح.
استثناء أم تهريب
تأتي تصريحات مسؤولي النظام السوري عن الاستثناءات الروسية من حظر تصدير القمح واستمرار التوريدات إلى سوريا، وسط تقارير إعلامية عن نقل سفن روسية قمحًا مسروقًا من أوكرانيا إلى روسيا.
في 12 من أيار الحالي، نشرت شبكة “CNN” الأمريكية تقريرًا، ذكرت فيه أن سفينة تجارية روسية محمّلة بحبوب مسروقة في أوكرانيا، أُبعدت عن ميناء واحد على الأقل على البحر الأبيض المتوسط، وهي ترسو حاليًا في ميناء “اللاذقية” السوري.
وحددت “CNN” السفينة على أنها ناقلة البضائع “ماتروس بوزينيتش”، وذكرت أنه، في 27 من نيسان الماضي، رست السفينة قبالة ساحل شبه جزيرة القرم، وأوقفت جهاز الإرسال والاستقبال. وفي اليوم التالي، شوهدت في ميناء “سيفاستوبول”، الميناء الرئيس في شبه جزيرة القرم.
ووفقًا للصور الفوتوغرافية وصور الأقمار الصناعية، عبرت “ماتروس بوزينيتش” التي كانت تحمل نحو 30 ألف طن من القمح بحسب مسؤولين أوكرانيين، من ميناء “سيفاستوبول” باتجاه مضيق البوسفور واتجهت إلى ميناء “الإسكندرية” المصري، إلا أن السلطات المصرية أبعدت الشحنة، لتتجه إلى ميناء “بيروت” حيث تم إبعادها أيضًا، لتتوجه إلى ميناء “اللاذقية”.
وأشارت الشبكة إلى أن السفينة “ماتروس بوزينيتش” تعد واحدة من ثلاث سفن تشارك في تجارة الحبوب المسروقة، وفقًا لأبحاث مفتوحة المصدر ومسؤولين أوكرانيين.
ونقلت الشبكة عن رئيس تحرير نشرة “Maritime Bulletin” المعنية بحركة السفن، ميخائيل فويتنكو، قوله إنه يمكن إعادة تحميل الحبوب على متن سفينة أخرى في اللاذقية لإخفاء مصدرها الأصلي.
وأضاف فويتنكو، “عندما يتغير ميناء الوجهة دون أي سبب جدي فهذا دليل آخر على التهريب”.
ونقلت “CNN” عن وزارة الدفاع الأوكرانية، في أول تعليق لها على التصدير غير المشروع للحبوب الأوكرانية، أن “جزءًا كبيرًا من الحبوب المسروقة من أوكرانيا موجود على متن سفن تبحر تحت العلم الروسي في مياه البحر الأبيض المتوسط”.
وأضافت أن “سوريا هي الوجهة الأكثر احتمالًا للشحنة. ويمكن تهريب الحبوب من هناك إلى دول أخرى في الشرق الأوسط”.
وتقدّر وزارة الدفاع الأوكرانية أن ما لا يقل عن 400 ألف طن من الحبوب قد سُرقت وأُخذت من أوكرانيا منذ بدء “الغزو” الروسي.
تحوّل سوريا إلى مستورد كبير للقمح
الدكتور السوري في الاقتصاد ومدير الأبحاث في مركز “السياسات وبحوث العمليات”، كرم شعار، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن “الوضع الاقتصادي في سوريا حاليًا بأسوأ مراحله، إذ لم يكن بهذا السوء منذ الحرب العالمية الأولى، حيث عاشت سوريا حينها مجاعة حقيقية”.
وأضاف أن “مشكلة القمح في سوريا حاليًا هي مشكلة مركبة، ومن أهم أسبابها أن سوريا تتعرض لموجة جفاف هي الأسوأ منذ عقود”، مشيرًا إلى أن هذه الموجة “بدأت منذ العام الماضي وما زالت مستمرة خلال العام الحالي رغم التحسّن في الهطولات المطرية هذا الموسم”.
ورجّح شعار أن تتحول سوريا إلى مستورد كبير للقمح، ليس فقط في مناطق النظام السوري، بل حتى في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” بشمال شرقي سوريا.
وأشار إلى أن “الإدارة الذاتية” خصصت في الموازنة الحالية أموالًا لاستيراد القمح، بالرغم من أن مناطق سيطرتها تعد سلّة سوريا بإنتاج القمح، إذ يصل إنتاج القمح في تلك المناطق إلى نحو 60% من إنتاج سوريا الإجمالي.
وأكد شعار أن هناك حاجة شديدة للقمح في سوريا، وتعاني مناطق النظام السوري من عدم وجود موارد مالية للاستيراد، لافتًا إلى أنه بالإضافة لموجة الجفاف التي تضرب سوريا، فالنظام غير قادر على الاستيراد خارجيًا، خصوصًا أن أسعار القمح ارتفعت بشكل جنوني لعدة أسباب، كان أولها المشكلات في سلاسل التوريد العالمية، غير أنها لاحقًا ارتفعت مجددًا بسبب “الغزو” الروسي لأوكرانيا وحظر الهند للتصدير.
الأزمة عالمية..
في سوريا سعر رغيف الخبز وجودته “على المحك”
منذ بدء “الغزو” الروسي لأوكرانيا، تواترت التحذيرات الأممية والحقوقية من خطر تعرض سوريا لمجاعة “وشيكة”، إلى جانب العديد من الأسباب الإضافية التي تشكّل خطرًا حقيقيًا على الأمن الغذائي للسوريين.
فبدءًا بالجفاف ومستويات إنتاج القمح المحلية المتدنية، ومرورًا بالسياسات الزراعية “الضعيفة” للجهات المسيطرة على مختلف المحافظات السورية وضعف القطاع الزراعي، وليس انتهاء بارتفاع أسعار السماد وصعوبة الاستيراد، تكاثرت المؤشرات لتنعكس بشكل مباشر على المدخل الأساسي في الغذاء الرئيس للسوريين اليوم، وهو الخبز.
وككل أزمة اقتصادية أو معيشية، يكون نصيب السوريين من المعاناة الجزء الأكبر والمتضرر منها، إذ تنعكس الأزمات على حياتهم المعيشية، وتزيد من حجم معاناتهم في الحصول على قوتهم اليومي.
وفي ظل تدهور القوة الشرائية لدى المواطنين، والفجوة بين الأجور والاستهلاك، تعتبر مادة الخبز سلعة أساسية، ومكوّنًا غذائيًا لوجباتهم التي تفتقر لوجود اللحوم والخضار والفواكه والحليب.
استطلاع رأي
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر موقعها الإلكتروني، حول أسباب تفاقم أزمة الخبز في سوريا.
وجاءت النتائج متباينة، إذ صوّت 69% من المشاركين في الاستطلاع أن عجز حكومة النظام عن إيجاد حلول يعد أبرز أسباب تفاقم أزمة الخبز، في حين أرجع 31% من المصوّتين السبب إلى ارتفاع الأسعار عالميًا.
الباحث في الاقتصاد الدولي زكي محشي، أكد في حديثه إلى عنب بلدي، أن انعكاس أزمة القمح العالمية سيكون له التأثير الأكبر على الأسر السورية، من خلال الطرق التي ستلجأ إليها الحكومات المختلفة وقوى الأمر الواقع المسيطرة على مختلف المحافظات، لتتعامل مع انخفاض كميات القمح الموجودة لديها.
وأوضح الباحث أن الحكومات ستحاول العمل وفقًا للكميات المنخفضة الموجودة، وبالتالي سيؤثر ذلك على جودة إنتاج مادة الخبز، وارتفاع أسعارها.
ويرى الباحث أن تحرير أسعار الخبز الذي بدأ به النظام منذ اعتماده “البطاقة الذكية” في 2018، خلق سوقًا سوداء لبيع المادة، ما زاد من أعباء الأسر، متوقعًا أن تلجأ هذه الأسر للسوق السوداء بشكل أكبر مستقبلًا نتيجة لمحدودية الكميات التي ستتوفر بشكل مدعوم، الأمر الذي يضمن ارتفاع سعره نتيجة لكثرة الطلب عليها.
وسيؤثر ارتفاع أسعار الخبز على السلوك الاستهلاكي للأسر في المواد والمستلزمات الأخرى، كأن تتخلى بعضها عن مصاريف الصحة والتعليم، لتأمين الحد الأدنى من الغذاء وهو الخبز، وفقًا للباحث.
ويعتقد الباحث زكي محشي، أن ازدياد الأزمات المعيشية ووصولها إلى رغيف الخبز، من شأنه أن يسهم في زيادة الظواهر الاجتماعية السلبية على كامل الجغرافيا السورية، إذ يعني الوصول إلى الفقر الغذائي إيجاد طرق أخرى للحصول على المال كالسرقة والخطف والتهريب، لتأمين الاحتياجات التي لا يمكن الاستغناء عنها من الغذاء، الأمر الذي سيوقع الاقتصاد السوري على المستوى المحلي بدوّامات أخرى من الأزمات.
هل تتضرر مناطق النظام أكثر من غيرها؟
كانت مناطق شمال غربي وشمال شرقي سوريا تمتلك، خلال سنوات النزاع، إمكانية استيراد كميات من القمح من الدول الأخرى كتركيا وكردستان العراق، كما تعتبر القيم التقديرية لإنتاج القمح فيها أكبر من قيم الإنتاج في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام.
لكن ذلك قد لا يظل ممكنًا حاليًا في ظل وجود أزمة عالمية لتأمين المادة، الأمر الذي سيرفع أسعار القمح والطحين والخبز حول العالم أيضًا، بحسب ما أكده الباحث الاقتصادي زكي محشي.
وأضاف الباحث أن عموم المحافظات السورية شبه متساوية في تضررها من أزمة القمح، وسيكون لها تأثير مشابه نوعًا ما على الناس، وذلك بالنظر من عدسة الوضع الاقتصادي العام بغض النظر عن الجهة المسيطرة، وفي ظل وجود نسبة فقر مرتفعة ستكون الآثار مضاعفة على الجميع.
وبحسب الباحث زكي محشي، يجب التمييز في مناطق سيطرة النظام بين “رأسمالية المحاسيب” والمنتفعين من الحرب والنظام، وبقية أفراد الشعب السوري، مضيفًا أن المنتفعين سيستفيدون من أي أزمة، فمن خلال شركات الظل قد يستوردون القمح لمصلحة حكومة النظام وبهامش ربح مرتفع جدًا، بحجة الأزمة العالمية.