عنب بلدي – مأمون البستاني
بجانب مستودع صغير لتجميع النفايات القابلة لإعادة التدوير في منطقة كبزة بالشق الآسيوي من مدينة اسطنبول التركية، يجلس الطفل السوري سعيد مع أربعة عمال آخرين في غرفة صغيرة خصصها صاحب المستودع لهم لأخذ قسط من الراحة عند عودتهم من العمل.
سعيد (16 عامًا)، قال لعنب بلدي، إنه بدأ العمل في جمع الكرتون والبلاستيك منذ عام ونصف تقريبًا، موضحًا، “كنت أحصل على مبلغ 2500 ليرة تركية شهريًا من معمل لصناعة الألبسة، وفي بعض الأحيان أقبض أقل من ذلك، لهذا بدأت العمل بجمع الكرتون لتحسين دخلي المادي، إذ يصل حاليًا إلى نحو أربعة آلاف ليرة تركية (250- 300 دولار أمريكي تقريبًا)”.
مسافات طويلة يوميًا
يخرج سعيد من المستودع في الساعة السابعة صباحًا كل يوم، يجر عربة مصنوعة من قضبان معدنية تسير على عجلتين صغيرتين، بعد أن يثبت عليها كيسًا كبيرًا لوضع ما يمكن أن يجمعه من مواد مصنوعة من الكرتون والنايلون والبلاستيك والصفائح والأسلاك المعدنية.
وأوضح الفتى أنه يجتاز يوميًا مسافة نحو 15 كيلومترًا سيرًا على الأقدام، وهو يبحث في حاويات القمامة عما يمكن أن يجده من نفايات قابلة لإعادة التدوير، و”في بعض الأيام أعود ظهرًا إلى المستودع لتسليم ما جمعته، وفي حال كانت الكمية قليلة أواصل البحث وأعود في المساء”.
يعيش في مدينة اسطنبول أكثر من 542 ألف لاجئ سوري من أصل نحو ثلاثة ملايين و700 ألف لاجئ سوري مسجلين بشكل نظامي في عموم تركيا، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن المديرية العامة لإدارة الهجرة التركية.
إلى جانب الإحصائية الرسمية، يوجد آلاف اللاجئين السوريين غير المسجلين في تركيا، يلجأ قسم من هؤلاء، بالإضافة إلى آخرين من حملة بطاقة “الحماية المؤقتة” (كملك)، للعمل في مجالات لا تتطلّب الحصول على إذن عمل، ومنها العمل في جمع النفايات القابلة لإعادة التدوير.
طفولة غائبة
“جمع الكرتون صعب صح، يعني بالصيف شوب (حار)، وبالشتي برد، بس أحسن من الشغل بالمعامل، هون ما في دوام من الصبح للمسا، بترتاح وقت ما بدك، ودخلك بكون على قد شغلك”، وصف سعيد عمله بلهجته المحلية.
سعيد الذي ينحدر من ريف إدلب شمال غربي سوريا، وبعفوية الطفولة التي لم يعشها، ختم كلامه مع عنب بلدي، قائلًا، “أنا ضاع مستقبلي، وفي أطفال متلي كتير بتركيا عم يشتغلو وضاع مستقبلن”.
في عام 2021، ظهر سعيد في تسجيل مصوّر بثّه معدّو محتوى أتراك على وسائل التواصل الاجتماعي خلال تصويرهم تجربة اجتماعية، حيث كان يعمل على جمع الكرتون في طقس بارد، ورغم أنه لا يجيد اللغة التركية، فإنه قام بمساعدة شبان أتراك طلبوا منه الحصول على سترته.
عمل شاق
مرتديًا قفازين بيديه، ومتخذًا وضعية القرفصاء في الجلوس مقابل أكياس ممتلئة بالمواد القابلة لإعادة التدوير، تتناثر من حوله قوارير وعبوات بلاستيكية، يشعل محمد سيجارة، ثم يقول متنهدًا، “رح يأذن المغرب ولهلأ ما رجعت عالبيت”.
يعمل محمد (27 عامًا) بجمع الكرتون والبلاستيك في اسطنبول، وعن وضعه في تركيا قال لعنب بلدي، “هربنا من الحرب في سوريا، ولجأنا لتركيا منذ عام 2014”.
“تركت العمل في المصانع وبدأت بهذا العمل بعد أن ارتفعت الأسعار، ولم يعد يكفيني ما كنت أتقاضاه في المصانع”، أضاف محمد.
وأوضح الشاب الذي ينحدر من ريف إدلب، وكان يسكن في محافظة ريف دمشق، أن العمل بجمع الكرتون يدخل عليه يوميًا ما يقارب بين 100 و200 ليرة (بين ستة و12 دولارًا أمريكيًا)، وهو مبلغ يزيد بقليل على ما كان يحصل عليه من العمل في المصانع.
محمد أشار إلى أنه في السنوات الأولى من لجوء السوريين إلى تركيا، لم يكن هناك الكثير منهم يعملون في جمع الكرتون، ومع مرور الوقت باتوا يلجؤون إلى هذا العمل، حيث ازدادت أعداد العاملين في هذه المهنة الشاقة.
مراحل العمل
جميل (26 عامًا)، شاب آخر يعمل في مستودع صغير لجمع النفايات القابلة لإعادة التدوير، أوضح لعنب بلدي، أن مراحل العمل تبدأ من خروج العمال صباحًا لجمع المواد من حاويات القمامة بطرق عدة، وهي إما عن طريق عربة يدوية، وإما عربة تجرها دراجة نارية، وإما آلية صغيرة من ثلاث عجلات تعمل على الطاقة الكهربائية.
وعند عودة العمال، يبدأ كل منهم بفرز ما جمعه، حيث يتم فرز المعادن عن البلاستيك والكرتون، ومن ثم يتم وزن كل مادة على حدة، ويتم تقييد المجموع على دفتر المحاسبة، لتسليم العمال مستحقاتهم أسبوعيًا.
بعد ذلك، يتم فرز المعادن والبلاستيك داخل المستودع، فمثلًا توجد في كيس البلاستيك أنواع مختلفة (بلاستيك أبيض، بلاستيك أسود، نايلون شفاف) ولكل سعره.
وفي نهاية الأسبوع يتم إرسال ما تم شراؤه من العمال إلى المنطقة الصناعية بشاحنات خاصة أو تابعة لمراكز إعادة التدوير في المنطقة الصناعية.
وبحسب جميل، يجمع خمسة عمال يعملون لمصلحة المستودع قرابة 1500 كيلوغرام أسبوعيًا من مختلف المواد القابلة لإعادة التدوير.
مضايقات ولا إحصاءات
قال جميل إنه بدأ العمل قبل أربع سنوات كعامل على عربة، وبعد عامين بدأ العمل في مستودع صغير يديره شبان سوريون، لافتًا إلى أن ساعات الدوام الطويلة، وعدم الحصول على كامل المستحقات وأحيانًا جميعها من عمله السابق بالمعامل، دفعه للعمل في جمع الكرتون والبلاستيك.
وأشار إلى المضايقات التي يتعرض لها العاملون في جمع النفايات القابلة لإعادة التدوير، مبينًا أنه قبل أشهر شنت الشرطة حملة أوقفت خلالها العشرات من جامعي النفايات.
ولا توجد إحصائية رسمية لعدد العاملين في جمع النفايات القابلة لإعادة التدوير في اسطنبول، وذلك كون هذه النوع من الأنشطة يعد “غير قانوني” بحسب السلطات المحلية، التي تسعى لإصدار تراخيص لتنظيم هذا العمل.
“قوننة” عمل جامعي النفايات
في نيسان الماضي، صرح وزير البيئة والتخطيط العمراني والتغيّر المناخي التركي، مراد كوروم، أنهم سيتخذون الترتيبات اللازمة لعمل جامعي النفايات في ظروف أفضل، بحسب ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية.
وخلال اجتماع مع عدد من ممثلي النقابات وجامعي النفايات حضره كوروم ورئيس شركة “إيش تورك”، إرجون أتالاي، ذكّرت الشركة أنها بدأت مشروع “النفايات الصفرية”، أكبر حركة بيئية في تركيا، في عام 2017، تحت رعاية أمينة أردوغان زوجة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
وقال أتالاي، “في غضون خمس سنوات، معكم إخواننا جامعي النفايات، قدمنا مثل هذا الأداء حيث قمنا بمعالجة 25 مليون طن من النفايات القابلة لإعادة التدوير، جنبًا إلى جنب، نعمل أن نزيد معدل إعادة التدوير لدينا من 22.4% إلى 35% في عام 2023”.
وبحسب ما نقلته صحيفة “صباح” التركية، في نيسان الماضي، أعلن كوروم عن إعداد مسودة دراسة للوضع القانوني لجامعي النفايات، تتضمّن تزويد الأشخاص الذين سيعملون كجامعي نفايات بزي رسمي موحد وبطاقات الهوية، وبالتالي منع جمع النفايات من قبل الأشخاص غير المسجلين في بلديات المنطقة.
كما ستعمل البلديات على تحديد عدد الأشخاص الذين يمكنهم جمع النفايات في مناطقهم الخاصة، وإصدار رخصة وفقًا لذلك.
وبحسب كوروم، لن تدفع البلدية أي رسوم لجامعي النفايات، وسيعيش جامعو النفايات من المال الذي يكسبونه.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن على جدول الأعمال توفير الضمان الاجتماعي من قبل البلدية، حتى يتمكن جامعو النفايات من الاستفادة من الخدمات الصحية.