يستيقظ الشاب محمد الصطوف (27 عامًا) في منتصف ليل كل يوم ليخرج إلى العمل الذي ينتظره من العام الماضي، وهو حرق محصول القمح قبل نضوجه لإنتاج مادة “الفريكة”، على طريق فرعي يصل بين إدلب وبنّش.
وينشط العمل لإنتاج “الفريكة” مع الأسبوع الأول من شهر أيار من كل عام، ويستمر لأيام لا تتجاوز الشهر، حين تكون سنبلة القمح رطبة قليلًا وغير جافة، في معظم مناطق الشمال السوري، مع تمايز بعض المناطق عن غيرها.
موروث الأجداد
وتنتظر أغلبية سكان شمال غربي سوريا موسم العمل بحرق القمح لإنتاج “الفريكة”، الذي يعد مهنة اعتادوها، عدا عن كونها مصدر رزق لكثير من الأهالي والعائلات.
عبر مكالمة مصوّرة في تطبيق “واتساب”، تحدّث الشاب محمد (أحد مهجري قرية الطلحية بريف إدلب الشرقي) لعنب بلدي، عن انتظاره للعمل بالمهنة التي تشتهر بها قريته، والتي ورثها عن أجداده.
بين ألسنة اللهب والدخان المتصاعد، غابت ملامح وتفاصيل الشاب الملثم، والحامل للأنبوب الذي تتصاعد منه النار، وخلفه شاب آخر يحمل أسطوانة الغاز المتصلة بالأنبوب.
أوضح محمد أنه يخرج كل يوم عند الساعة الثالثة فجرًا مع بعض العمال من مهجري قريته لمتابعة عمل الحصّادة في “قصل” سنابل القمح (فصل السنابل عن الأعواد)، ليلتحق بهم عند الساعة السادسة صباحًا عشرات العمال، لتبدأ مرحلة نشر السنابل على الطرقات.
بعد تركها لساعات تحت أشعة الشمس، تُحرق سنابل القمح الممتدة على طول مئات الأمتار، ثم تُعبّأ بأكياس كبيرة، وتُنقل إلى الدرّاسة لفرز حبة “الفريكة” عن بقايا ومخلّفات الحرق من قش وأتربة، لتصبح جاهزة للبيع.
لا زراعة خارج حدود القرية
“الله يرحم أيام الضيعة”، بعد أنفاس حرّى، أعرب الشاب بهذه الكلمات عن حسرته ولهفته للعمل في قريته، قبل أن يخسر أرضه وعمله السابق فيها والتي هُجّر عنها إلى مناطق أبعد.
بعد تهجيرهم، تأثر عمل أهالي قرية الطلحية الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري منذ عامين بالوضع الاقتصادي المتردي، وانحسار المساحات الخضراء، وارتفاع تكاليف العمل بالإنتاج الزراعي.
وذاع صيت أهل القرية سابقًا بحرق المحصول، وإنتاج كميات كبيرة منه بعد زراعته في أراضيهم، واستئجار مساحات واسعة من أراضي المناطق المجاورة.
ولا يقتصر إنتاج “الفريكة” على الفلاحين أو التجار أو أصحاب الأراضي، إذ يعمل بحرق واستئجار وبيع وشراء وإنتاج المحصول شباب القرية قبل رجالها.
حسن هلال، مزارع مهجّر من قرية الطلحية، أوضح لعنب بلدي أن مزارعي القرية يواجهون معوقات كثيرة، منها انحسار الرقعة الجغرافية ومحدوديتها، وخسارة أراضٍ زراعية واسعة، بعد سيطرة قوات النظام على مدن ومناطق مجاورة في آخر تقدّم لها عام 2020، ما رفع إيجار الأراضي الزراعية في مناطق النزوح، وقلّص فرصة إيجار عدد أكبر من الهكتارات.
لم يستطع العديد من مزارعي القرية مزاولة الزراعة بعد نزوحهم، لعدم القدرة على تحمّل تكاليف الإيجار من جديد ومعاودة العمل الزراعي، بالإضافة إلى المنافسة مع مزارعي بقية القرى والمدن، ما يجعل العمل بالزراعة أمرًا صعبًا لهم، وسط أوضاع اقتصادية صعبة، يعاني منها معظم سكان شمال غربي سوريا.
مصدر دخل للأهالي
تعمل فئة كبيرة من الأهالي خلال موسم “الفريكة”، ولا يقتصر العمل على الشباب أو الرجال، فحتى النساء والأطفال يعملون خلال هذه الأيام القليلة لإعالة أهلهم وذويهم.
ويستمر عمل الشاب محمد العامل من الصباح حتى قبل غروب الشمس بساعة، بأجرة يومية تبلغ 150 ليرة تركية، يحصل عليها كونه حرّاقًا كغيره من الحرّاقين، وتحصل النسوة على أجرة يومية بساعات أقل 75 ليرة تركية، عدا اللواتي يعملن حرّاقات فأجرهن مماثل.
وتختلف أجرة سيارات نقل “الفريكة” باختلاف حجمها واستطاعتها على حمل كمية أكبر، ويدفع المزارع أو المستأجر للأرض أو صاحب عملية الإنتاج أجورًا تتراوح بين 35 و50 دولارًا أمريكيًا.
وتبلغ أجرة حصّادة قص القمح 100 دولار للهكتار الواحد (عشرة دونمات)، في حين تبلغ أجرة عمل الدرّاسة التي تعزل حبة “الفريكة” عن القش دولارًا واحدًا على تعبئة كل كيس يتراوح وزنه بين 60 و65 كيلوغرامًا.
وتتراوح تكلفة استئجار الهكتار الواحد من القمح بين 2800 و3200 دولار أمريكي للمحصول المروي، وتعود بحسب خصوبة المحصول، وتُستأجر بعض الأراضي مع كمية القش أو العشب المتبقي بعد قص القمح، والتي تُستخدم للثروة الحيوانية.
في حين تتراوح الإنتاجية لكل هكتار واحد من أربعة إلى خمسة أطنان “فريكة”، بحسب خصوبة الأرض، ويتراوح سعر الطن بين 900 و1000 دولار أمريكي.
وفي 20 من نيسان الماضي، ذكر تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أن عدد النازحين في شمال غربي سوريا بلغ حوالي 2.8 مليون نازح داخليًا، منهم 1.7 مليون نازح يعيشون في المخيمات.
ويعاني أكثر من 75% من السكان من انعدام الأمن الغذائي في شمال غربي سوريا (أي 3.1 مليون من أصل 4.4 مليون شخص)، وهناك مليون شخص إضافي معرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقرير أممي سابق لعام 2022.
النشر والتصدير
أوضح المزارع حسن، أن عمل “الفريكة” لا ينتهي عند بيعها بنفس اليوم للتاجر، إنما يجري نشرها سواء من التاجر أو من المزارع نفسه في حال لم يبعها.
وتُنشر “الفريكة” بمنشآت ذات مساحات واسعة ومسقوفة، بشكل لا يعرّض المحصول لأشعة الشمس، كالمداجن وغيرها، حتى تصبح جافة خالية من أي رطوبة، مع تحريكها بشكل يومي.
تبدأ مرحلة غربلة المحصول من الأتربة والقش، تليها مرحلة الطحن (الدرش)، ثم تُعبّأ بأكياس مختلفة الأوزان حسب الرغبة بالبيع أو التصدير، ويتراوح وزن الكيس بين خمسة و25 كيلوغرامًا، وتصدّر إلى مناطق مختلفة عبر تركيا.
مرحلة النشر والتجفيف مكلفة أيضًا، بسبب دفع التاجر والمزارع تكاليف إضافية، مثل إيجار مكان لنشر المحصول ودفع تكاليف إضافية للأيدي العاملة التي تشارك في العملية.
وتُباع “الفريكة” المجففة بسعر أعلى، لما تتطلّبه من تكاليف إضافية وما تفقده من وزن في عملية التجفيف.
ورغم انهماك معظم الأهالي بالعمل في المحصول، لا تلقى سوق “الفريكة” رواجًا كبيرًا على مستوى الداخل في الشمال السوري، بحسب هلال الذي ينشط بتجارتها أيضًا، وعزا الأسباب إلى أن المنطقة صغيرة وبكثافة سكانية لا تستوعب الكميات الكبيرة التي ينتجها المزارعون، فمؤونة الأهالي منها قليلة، لا تشكّل 10% من الكمية المُنتجة.
المحروقات عقبة إضافية
تشكّل أسعار المحروقات المرتفعة عبئًا إضافيًا على المزارعين والتجار، والتي زادت على المواسم السابقة بشكل كبير.
المزارع هلال أشار إلى أن المحروقات وقفت عائقًا أمام الكثير من المزارعين والتجار، وحالت دون إقبالهم على العمل، كما أن بعضهم غامر هذا الموسم رغم معرفته بالعائدات التي اقتصرت على هامش ربح بسيط لحبه بالعمل الزراعي وانتظاره للعمل بـ”الفريكة” لما لها من طقوس يترقبها الجميع، وما يجنيه الناس من مدخول يعينهم لأيام قليلة.
ولا يقتصر تأثّر المزارع بالمحروقات على أسطوانة الغاز، إنما تطال نقل المحصول والعمال وأجرة سيارات.
ورفعت شركة “وتد” للمحروقات، العاملة في مناطق نفوذ حكومة “الإنقاذ” شمال غربي سوريا، أسعار المحروقات في 19 من أيار الحالي.
ووصل سعر أسطوانة الغاز إلى 13 دولارًا و13 سنتًا، وسعر ليتر البنزين “مستورد أول” إلى دولار و181 سنتًا، ووفق نشرة أسعار الشركة عبر “تلجرام“.
وبلغ سعر المازوت “الأوروبي” 935 سنتًا، والمازوت من النوع “المحسّن” 740 سنتًا لليتر الواحد، وسعر المازوت “مفلتر” 550 سنتًا، وبررت الشركة ارتفاع أسعار المحروقات بارتفاع أسعار النفط عالميًا.
لا تأثير على القمح
وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة” التي تسيطر على ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي رأس العين وتل أبيض شمال شرقي سوريا، عبد الحكيم المصري، أوضح لعنب بلدي أن إقبال الناس على “الفريكة” أمر طبيعي، وكميات إنتاجها لا تؤثر على إنتاج القمح.
وقال المصري، إن المشكلة تكمن في تصدير القمح وإخراجه من مناطق الشمال، مؤكدًا منع تصدير القمح والمواد الاستراتيجية لأي جهة كانت، ومصادرتها وضمان شرائها من مؤسسة الحبوب، للحفاظ على الأمن الغذائي في مناطق سيطرة “المؤقتة”.
وستتخذ “المؤقتة” إجراءات عملية وجادّة دون تهاون لتوفير الطحين لمادة الخبز الأساسية، بحسب الوزير الذي أشار إلى أن استخدام القمح في منتجات أخرى كالبرغل و”الفريكة”، سواء من الناس أو أشخاص أو منظمات داخل المنطقة، أمر مسموح طالما يصب إنتاجه في المنطقة، لكن تصديره خارج المنطقة ممنوع.
وفي 19 من أيار الحالي، أصدرت “الحكومة المؤقتة” بيانًا بمنع تصدير أو إخراج المحاصيل الاستراتيجية وفي مقدمتها محصول القمح إلى خارج الأراضي السورية بأي طريقة كانت.
وعزت “المؤقتة” أسباب المنع لأزمة الغذاء العالمي، والتهديدات المرتبطة بإمدادات القمح والمحاصيل الاستراتيجية، نتيجة لتداعيات فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، و”الغزو” الروسي لأوكرانيا، وحظر كبرى الدول المنتجة لعمليات التصدير، والمخاوف من أزمة غذاء كبرى.
ووجّهت “المؤقتة” الوزارات المعنية، وهي الدفاع والداخلية والإدارة المحلية والمالية، لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لضمان تنفيذ هذا القرار، ومتابعة الجهود لعدم تهريب هذه المحاصيل إلى خارج مناطق الشمال.
في حين لم تصدر حكومة “الإنقاذ” التي تسيطر على محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية وسهل الغاب، شمال غربي حماة، أي بيان حول إنتاجية القمح.
ولم تحصل عنب بلدي على إجابات عن بعض الأسئلة التي تمحورت حول تأثير “الفريكة” على موسم إنتاج القمح، وعن الحلول أو الإجراءات المتخذة لتفادي أي آثار سلبية أو مشكلات مستقبلية بهذا القطاع.
–