عنب بلدي- زينب مصري
تلجأ خديجة إلى شراء الذهب لحفظ أموالها، وعلى الرغم من إقامتها في تركيا منذ عدة سنوات، تقصد المحال السورية فقط بدافع شراء الذهب من عيار 21 قيراطًا الذي يوفره الصاغة السوريون دونًا عن الأتراك.
حمل السوريون عاداتهم من لبس المصوغات الذهبية وشرائها لادخار الأموال إلى تركيا، ومثلهم نقل بائعو المجوهرات السوريون مهنتهم إلى الأسواق التركية، مع لجوئهم إليها عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011.
وكما في سوريا والعديد من الدول العربية، ينشط الأتراك في شراء الذهب للزينة ولحفظ الأموال بعيدًا عن تقلبات العملة المحلية والعملات الأجنبية، وتتخلل تقاليدهم عادة إهداء المصوغات الذهبية في المناسبات الاجتماعية كالزفاف والخطوبة أو استقبال المواليد الجدد.
إلا أن اختصاص محال الصاغة التركية بتوفير المجوهرات والحلي الذهبية من عيار 22 قيراطًا إلى جانب العيارات الأخرى (24، 18، 14 قيراطًا)، أسهم في تشكيل سوق رديفة للذهب في تركيا يبيع السوريون من خلالها الذهب عيار 21 قيراطًا إلى الزبائن السوريين والعرب بشكل عام، ويسهمون في رفد الدولة بأموال الضرائب وعائدات التصدير.
فرق في السعر
خديجة علي باشا، سورية تقيم في مدينة أنطاكيا مركز ولاية هاتاي جنوبي تركيا منذ نحو ثماني سنوات، ربة منزل، تفضّل شراء الذهب عيار 21 قيراطًا لأنه أرخص من الذهب التركي، إذ يبلغ فرق السعر بين النوعين نحو 5%.
والسبب الثاني الذي يدفع السيدة لشراء الذهب السوري أن أجرة الصياغة لدى المحال السورية أرخص منها في المحال التركية، بحسب ما قالته لعنب بلدي.
تُعد نسبة الذهب الفرق الوحيد بين ما يُسمى “الذهب التركي” و”الذهب السوري”، إذ يحتوي الذهب عيار 22 على نسبة أعلى من الذهب الخالص ما يجعله أكثر طراوة، بحسب ما أوضحه الصائغ محمد الجمل لعنب بلدي.
نقل الشاب المنحدر من مدينة جسر الشغور مهنة العائلة الممتدة على مدار 25 عامًا إلى مدينة أنطاكيا التركية، وافتتح قبل ست سنوات محله الذي يشكّل واحدًا من المحال في سوق الذهب الرديفة في تركيا والتي تستقطب الزبائن السوريين.
“خلق توجه السوريين لشراء الذهب عيار 21 سوقًا رديفة للذهب في تركيا، فلولا وجود المحال السورية لاضطر السوريون إلى شراء الذهب عيار 22 قيراطًا”.
وقال الصائغ إن نسبة قليلة من الأتراك، من المعارف والأصدقاء، يشترون “الذهب السوري” لثقتهم بالصائغ، لكن مجمل زبائنه من السوريين الذين اعتادوا شراء “الذهب السوري”.
وبحسب محمد، فإن صاغة أتراكًا في المنطقة افتتحوا ورشات لصناعة الذهب عيار 21 لاستقطاب الزبائن السوريين، فعلى الرغم من اختلاف العيار والأسعار، تختلف موديلات المجوهرات أيضًا التي يرغب السوريون باقتنائها.
ويتبع الصاغة السوريون في عملهم نقابة الصاغة الأتراك التي تنظم بدورها عملهم وتحدد نسبة الربح على أساس رأس المال لتتراوح بين 10% و25% وتختلف حسب القطعة، بحسب محمد، الذي أشار إلى أن عملهم “نظامي”، وهم مسجلون في الدولة ويدفعون الضرائب للحكومة.
استمرار لمهنة العائلة
من جهته، قرر الصائغ عامر كنداوي بيع الذهب عيار 21 قيراطًا، لأنه جلب بضاعته من سوريا وافتتح محله في منطقة تضم تجمعًا كبيرًا للسوريين، ورأى إقبالًا منهم على شرائه ما دفعه للاستمرار بعرض المصوغات من هذا العيار.
يتابع الشاب عمل والده المستمر منذ 40 عامًا، نقل محله وورشته إلى مدينة أنطاكيا عام 2015، ويوفر بعض المصوغات عيار 22 قيراطًا إلى جانب “الذهب السوري”.
وقال عامر، إن عيار الذهب الخالص 24 قيراطًا، لكن لا يمكن صناعة المجوهرات منه لأنه طري وينكسر بسهولة، ولذلك يُقلل الصاغة من عياره بخلطه بالنحاس أو الفضة أو المعادن الأخرى بنسب معيّنة.
وأضاف أن القطع التي تحوي على تفاصيل كثيرة تُصنع من الذهب عيار 14 أو 18 قيراطًا لتساعد قساوته على صنع هذه التفاصيل.
“لا يوجد شيء اسمه ذهب سوري أو ذهب تركي، كله ذهب”، اعترض الصائغ على التسمية التي تفرّق بين المصوغات المعروضة في المحال السورية والتركية، مشيرًا إلى أن عيارات الذهب هي 14، 18، 21، 22، في كل دول العالم.
وأوضح أن السوريين عندما قدموا إلى تركيا احتاجوا إلى الأموال ما اضطرهم إلى بيع الذهب المُدخر، ولقلة أعداد الصاغة السوريين حينها توجه سوريون إلى الصاغة الأتراك الذين وجدوا أن “الذهب السوري غريب عما يألفوه، ورغم وجود دمغة العيار على القطع الذهبية يخاف الصائغ من الشراء”.
هذا ما دفع بعض الصاغة الأتراك إلى كسر سعر الذهب السوري وشرائه بأسعار أقل من قيمته الحقيقة، لكن بعد فترة وجود السوريين الطويلة، صار الصاغة الأتراك يعرفون “الذهب السوري” ويشترونه لكنهم لا يدخلونه على المبيع.
غياب الثقة
إقبال الزبائن الأتراك على شراء الذهب السوري ضعيف جدًا، بحسب عامر، ومن الممكن أن يشتريه فقط الأتراك المغتربون إلى دول الخليج الذين يعرفون عن الذهب عيار 21.
وهذا ما رصدته عنب بلدي خلال إعداد التقرير، إذ دخل محال الصاغة العديد من المواطنين الأتراك، وعلى الرغم من عرض الصاغة رُخَص محالهم واستقبالهم الأتراك وإجابتهم عن أسئلتهم بلغة تركية طليقة، امتنعوا عن الشراء أو تفحص المصوغات ما إن عرفوا أنها مصنوعة من “ذهب سوري”.
يعزف كثير من السوريين عن شراء “الذهب التركي” لقناعتهم بأنهم لن يستطيعوا بيعه في حال سفرهم خارج تركيا أو عودتهم إلى سوريا، بحسب استطلاع رأي أجرته عنب بلدي.
خنساء الملا (24 عامًا) سورية تقيم في مدينة اسطنبول وتعمل مخبرية صناعة أسنان، قالت لعنب بلدي، إن “الذهب التركي” لا يمكن بيعه خارج تركيا، وستكون خسارته كبيرة خاصة إذا كان شراؤه لغاية الادخار.
وأضافت الشابة أن أجور الصياغة لدى الأتراك مرتفعة جدًا، ويستخدمون “الألماس” (أحجار بلورية لا قيمة لها) في صنع المجوهرات، وهي تُحسب من وزن الذهب عند شراء الزبون للقطعة ولا تُحسب من وزن الذهب عند بيعه لها، ما يجعل الخسارة كبيرة، لذلك تلجأ إلى شراء الذهب من محال السوريين.
عامل سياسي
من جهته، لفت الصائغ ماجد النجار، وهو مالك لمحل ذهب في سوق مالطا بمنطقة الفاتح باسطنبول، في شرحه عزوف السوريين عن شراء الذهب عيار 22، إلى نقطة لا يعرفها سوى أبناء المصلحة، بحسب تعبيره، وهي أن ختم النقابة التركية على الذهب غير الختم الموجود في سوريا.
وهذا الأمر يمنع الصاغة في سوريا من شراء الذهب إذا أراد السوريون بيعه هناك، بسبب وجود عداوة بين النظام السوري وتركيا، بحسب ما قاله ماجد لعنب بلدي.
وهنا يبرز دور العامل السياسي، بحسب ماجد، وعندما يضطر السوريون إلى بيع الذهب التركي في سوريا من الممكن أن يشتريه الصاغة على أنه عيار 20 أو 20.5 قيراط، وهذه تُعد خسارة للمواطنين.
وأوضح الصائغ الذي يعمل في المجال منذ نحو 25 سنة، أن الذهب في سوريا ثقافة بلد، “للزينة والخزينة”، يكون زينة عندما يُلبس بشكل يومي وبشكل عملي في الحياة العامة وحتى أوقات النوم، و”خزينة” عندما يُشترى للادخار وحفظ الأموال.
وأشار إلى أن الزبائن الأتراك لا يشترون “الذهب السوري” لأنهم يعتبرونه “مزيفًا” أو “مهربًا”، على الرغم من أن الورشات التي يتعامل معها الصاغة السوريون ورشات تركية.
وتحدث ماجد عن تحوّل نشاط تصدير “الذهب السوري” من سوريا إلى تركيا، إذ كان الصاغة في دمشق وحلب يصدّرون مصوغات لكل الوطن العربي وأوروبا، لكن معظمهم انتقل من سوريا إلى تركيا وصارت الصناعة والتصدير من تركيا إلى الوطن العربي.
وتتمثّل أبرز المشكلات التي يعاني منها الصاغة السوريون في تركيا بعدم الاستقرار لدى الزبائن، والتعقيدات المتعلقة بالأوراق الثبوتية، وتأثر القطاع منذ نحو ثلاث سنوات إلى الآن.
كما أن مصاريف السوريين زادت مؤخرًا نتيجة انخفاض الليرة التركية، ولم يعودوا قادرين على الادخار كالسابق، ما انعكس سلبًا على عمل الصاغة، بالإضافة إلى انخفاض أعداد السوريين مع حملات الترحيل التي بدأت منذ عام 2019.
وبحسب ماجد، يبلغ عدد الصاغة السوريين في اسطنبول نحو 100 صائغ، يقدمون خدمات لنحو 700 ألف شخص في الولاية.
تحذير من “الذهب السوري”
في 10 من آذار 2021، حذّر رئيس غرفة الصاغة في ولاية غازي عينتاب، سيدات أوزدينتش، الأزواج من شراء “الذهب السوري المنخفض العيار”، والذهب المزيّف.
تحذير أوزدينتش جاء مع توقعات بازدياد مبيعات الذهب خلال الفترة التي ترافقت مع العودة إلى الحياة الطبيعية في تركيا بعد الإجراءات التي كانت مُتبعة في البلاد للحد من انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
وقال المسؤول التركي، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام تركية حينها، إن هناك فرقًا كبيرًا في السعر بين الذهب عيار 21 قيراطًا والمعروف بـ”الذهب السوري” والذهب وسائل إعلام تركية عيار 22 قيراطًا، ويجب على كل من الصاغة ومشتري الذهب الانتباه، مشيرًا إلى صعوبة التمييز بين نوعي الذهب حتى من قبل الخبراء.
ويوجد في غازي عينتاب 53 صائغًا سوريًا يبيعون عمومًا الذهب عيار 21 قيراطًا، ويبيعون الأساور المصنوعة في ورشات العمل بالمدينة ويشتريها السوريون بشكل عام، بحسب أوزدينتش.
ويجب على من أراد الشراء إدراك أن “الذهب السوري” منخفض العيار وأرخص من الذهب الذي يبيعه الصاغة الأتراك، كما يجب عليهم الانتباه إلى دمغة العيار ورخص الامتياز، وفق ما أضافه، مشيرًا إلى أن دمغة 875 تعني أن الذهب عيار 21 قيراطًا ودمغة 916 تعني أن الذهب عيار 22 قيراطًا.
وبحسب أوزدينتش، يوجد الكثير من ضحايا الذهب “المزيّف”، وعلى المواطنين بالتأكيد التسوق من الأماكن التي يعرفونها ويثقون بها حتى لا يقعوا في هذا الوضع.
لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الصاغة السوريين العاملين في تركيا، لكن تصريحات لرئيس بورصة الذهب في اسطنبول (IAB)، سردار تشيتاك، في تقرير لقناة “NTV” في 2 من شباط الماضي، أفادت بأن 250 ألف شخص يعملون بقطاع تجارة الذهب في تركيا، ويبلغ عدد الصاغة 47 ألفًا دون تحديد عدد السوريين منهم، وهو رقم كبير، إذ إن عدد الفروع لأكبر بنك في تركيا 1500 فرع.