د. أكرم خولاني
لعل أكثر المشكلات الصحية المنتشرة حاليًا هي البدانة وما ينتج عنها من أضرار، إضافة إلى حالات التعب والإرهاق المستمر المترافق مع تقلبات المزاج والقلق والنزق، ومع الوقت قد تترافق هذه المشكلات بأعراض أخرى كعدم تحمّل البقاء دون طعام والرغبة بأكل الشوكولاتة والحلويات ورقائق البطاطا والملح، ولاحقًا تتحول هذه الأعراض إلى مشكلات صحية أشد مثل التهاب الكبد الدهني وضعف الذاكرة والأمراض القلبية الوعائية، وفي النهاية غالبًا ما تحدث الإصابة بالداء السكري من النمط الثاني.
وقد تبيّن للباحثين أن السبب الرئيس الذي يربط بين كل هذه الأعراض والمشكلات الصحية هو مقاومة الإنسولين (Insulin resistance).
ما الإنسولين وما وظيفته
الإنسولين هو هرمون يفرزه البنكرياس، حيث يتم إنتاجه من قبل خلايا بيتا في البنكرياس، وله ثلاث وظائف:
1- تخفيض مستوى سكر الجلوكوز في الدم: عندما ترتفع نسبة السكر في الدم تستشعر خلايا بيتا الموجودة في البنكرياس هذا الارتفاع فتفرز هرمون الإنسولين الذي يمكّن خلايا الجسم من إدخال سكر الجلوكوز الموجود في الدم واستخدامه لإنتاج الطاقة اللازمة لعملياتها الحيوية، ولوصف هذه العملية بشكل دقيق.
يمكن القول إن خلايا الجسم جميعها تقريبًا، بما في ذلك الخلايا الدهنية والعضلية، تمتلك مستقبلات للإنسولين على سطحها الخارجي، وعند ارتفاع مستوى السكر في الدم، يرتبط الإنسولين بمستقبلاته على سطح الخلية الخارجي، ويرسل إشارة للخلية تؤثر في ناقلات سكر الجلوكوز الموجودة داخل الخلية، وتحركها إلى سطحها، وبذلك ينتقل الجلوكوز من مجرى الدم عبر هذه النواقل إلى داخل الخلية.
وباستمرار هذه العملية يعود مستوى الجلوكوز في الدم إلى المستوى الطبيعي، وبالتالي يقل أو يتوقف إفراز الإنسولين من البنكرياس، وكلما كان مستوى السكر في الدم أعلى كانت كمية الإنسولين المُفرزة من قبل خلايا البنكرياس أكبر لضمان بقاء سكر الدم ضمن الحدود الطبيعية.
وهنا يجب التنبيه إلى أنه في حال كانت كمية السكر الموجودة في الدم تفوق حاجة الخلايا، فإنه يتم تخزين الجلوكوز الزائد على حاجة الجسم على شكل جليكوجين في الكبد ليتم استخدامه فيما بعد وتحويله عن طريق هرمون الجلوكاجون (Glucagon) إلى جلوكوز، وذلك عند انخفاض نسبة السكر في الدم وحاجة الجسم إليه مستقبلًا، علما أن الجلوكاجون هو هرمون تفرزه خلايا ألفا في البنكرياس، وهو يعمل بشكل معاكس للإنسولين ويرفع سكر الدم.
2- تخزين الجسم للدهون: بعد تناول الوجبات يحفز الإنسولين تخزين الفائض من الدهون في الخلايا الدهنية لاستخدامه كمصدر للطاقة في وقت لاحق.
3- تخزين الجسم للبروتينات: يساعد الإنسولين الأحماض الأمينية، وهي لبنات البناء الأساسية للبروتينات في الجسم، على دخول الخلايا لبناء البروتين، وبالتالي فإن عدم وجود كميات كافية من الإنسولين يعوق قدرة الجسم على بناء العضلات.
ما المقصود بمقاومة الإنسولين؟
هي حالة فيزيولوجية يصبح فيها الإنسولين أقل فعالية في تخفيض مستوى السكر في الدم، لأن خلايا الجسم لا تستجيب له على الوجه الصحيح، فمقاومة الإنسولين في الخلايا العضلية والدهنية يقلل من امتصاص الجلوكوز والحموض الأمينية والدهون الثلاثية.
في حين أن مقاومة الإنسولين في خلايا الكبد تسفر عن انخفاض في عملية تركيب وتخزين الجليكوجين وكذلك فشل في وقف إنتاج الجلوكوز من الكبد وإطلاقه في الدم رغم ارتفاع الإنسولين، كل ذلك يؤدي إلى ارتفاع مستوى سكر الجلوكوز في الدم، الأمر الذي يدفع البنكرياس لإفراز المزيد من الإنسولين كمحاولة للحفاظ على مستوى السكر طبيعيًا في الدم، وارتفاع مستويات الإنسولين والجلوكوز في الدم بسبب مقاومة الإنسولين هو العنصر الرئيس في المتلازمة الاستقلابية، ويستمر البنكرياس بإفراز كميات متزايدة من الإنسولين إلى أن يصل لمرحلة لا يستطيع فيها مجاراة الارتفاع في سكر الجلوكوز، فتبقى مستويات الجلوكوز مرتفعة في الدم، ما يُسبب حالة مرض السكري من النوع الثاني.
ما أسباب حدوث مقاومة الإنسولين؟
لا يزال السبب الدقيق لحدوث مقاومة الإنسولين غير معروف، إلا أنه وبشكل شائع يمكن أن تتطور هذه الحالة إذا انطبق واحد أو أكثر من العوامل الآتية:
- اتباع نظام غذائي عالي السعرات الحرارية أو نظام غذائي عالي الكربوهيدرات أو عالي السكر.
- تناول جرعات عالية من المنشطات على مدى فترة طويلة من الزمن.
- الإصابة بمرض “كوشينغ” أو مرض تكيّس المبايض أو التهاب الكبد الفيروسي (C).
- ارتفاع مستويات الإنسولين في الدم، ففي كل مرة تتعرض فيها الخلية للإنسولين سيقل إلى حد ما إنتاج بعض مستقبلات الجلوكوز على غشاء الخلية.
- تناول بعض الأدوية مثل الكورتيزونات ومضادات الذهان وأدوية علاج فيروس نقص المناعة البشرية.
- الإصابة بالعدوى أو الحماض.
- السمنة الحشوية، أي درجة عالية من الأنسجة الدهنية في البطن حول الكبد والبنكرياس، تمييزًا عن السمنة أو الدهون تحت الجلد، فعلى عكس الأنسجة الدهنية تحت الجلد، فالخلايا الدهنية الحشوية تنتج كميات كبيرة من السيتوكينات التي تعطّل عمل الإنسولين الطبيعي في خلايا العضلات والدهون، ويمكن أن يكون هذا عاملًا رئيسًا في التسبب بمقاومة الإنسولين في كل الجسم لدى المرضى الذين يعانون من السمنة الحشوية. أيضًا ترتبط السمنة الحشوية بتراكم الدهون في الكبد، وهي حالة تُعرف باسم التهاب الكبد الدهني غير الكحولي الذي يؤدي إلى الإفراز المفرط للأحماض الدهنية الحرة في الدم وزيادة إنتاج الجلوكوز في الكبد، وكلاهما له تأثير في تفاقم مقاومة الإنسولين وزيادة احتمال حدوث داء السكري من النمط الثاني.
- تاريخ عائلي للإصابة الداء السكري من النمط الثاني.
ما أعراض وعلامات الإصابة بمقاومة الإنسولين؟
تعتمد هذه الأعراض والعلامات على تغيرات غير مفهومة في بيولوجية الفرد، حيث لا يتم العثور عليها عند كل من لديه مقاومة للإنسولين، وتشمل:
- الإعياء، والإرهاق البدني، والنعاس، ثم خسارة الكتلة العضلية وتأذي الأنسجة الضامة والغضاريف والأربطة والأوتار، وترهل الجلد، بسبب عدم امتصاص الحموض الأمينية من الخلايا العضلية.
- ضبابية الدماغ وعدم القدرة على التركيز، وضعف الذاكرة، وتقلبات المزاج والتوتر والنزق والصداع والاكتئاب، بسبب نقص وصول الجلوكوز إلى خلايا المخ.
- زيادة الوزن نتيجة زيادة مخزون الدهون، ويتم تخزين الدهون بشكل عام حول أعضاء البطن في كل من الذكور والإناث.
- ارتفاع نسبة السكر في الدم الصيامي لأكثر من 100 ملغ/دل.
- ارتفاع مستويات الدهون الثلاثية في الدم الصيامي لأكثر من 150 ملغ/دل.
- زيادة ضغط الدم لـ130/80 ملم زئبقي أو أعلى.
- الشواك الأسود، وهي بقع من الجلد المتسمك الداكن.
كيف يمكن تشخيص الإصابة بمقاومة الإنسولين؟
لا بد من أخذ القصة المرضية والسوابق العائلية للمريض وإجراء الفحص الجسدي، إلا أن التشخيص يكون عن طريق التحاليل المخبرية، وتشمل:
- قياس مستوى الإنسولين في الدم الصيامي: يكون أكبر من الحد الأعلى للطبيعي للمقايسة المستخدمة.
- اختبار مستوى الجلوكوز في الدم الصيامي: يقيس هذا الاختبار نسبة السكر في الدم بعد عدم تناول الطعام لمدة ثماني ساعات على الأقل، ويجب أن يكون أكثر من 100 ملغ/دل.
- اختبار تحمل الجلوكوز الفموي: في أثناء إجراء اختبار تحمل الجلوكوز، والذي يمكن أن يُستخدم لتشخيص مرض السكري، يقاس مستوى السكر الصيامي، ثم يأخذ المريض عن طريق الفم جرعة 75 غ من الجلوكوز، ومن ثم يتم قياس مستوى السكر في الدم بعد الساعتين التاليتين، فإذا كان 140 ملغ/دل أو أقل يعتبر طبيعيًا، وإذا كان 140-197 ملغ/دل يعتبر اختلال تحمل الجلوكوز، وإذا كان 200 ملغ/دل أو أكثر يعتبر مرض السكري.
- قياس مقاومة الإنسولين: هو المعيار الذهبي للتحقق، ولكن نادرًا ما يتم تنفيذ هذا الاختبار في مجال الرعاية السريرية، وإنما يُستخدم في البحوث الطبية.
كيف يمكن علاج مشكلة مقاومة الإنسولين؟
المعالجة الأولية لمقاومة الإنسولين هي في اتباع نمط حياة صحي:
- ممارسة الرياضة: ما لا يقل عن 30 دقيقة يوميًا من النشاط المعتدل مثل المشي السريع، وعلى خمسة أيام أو أكثر في الأسبوع.
- فقدان الوزن: التخلص من الوزن الزائد والحصول على وزن مثالي (BMI لا يتجاوز 25 كغ/م2).
- تقليل الكربوهيدرات واستخدام حمية منخفضة السعرات الحرارية: التركيز على الفواكه، والخضراوات غير النشوية، والحبوب الكاملة، والفول، والأسماك، والبقوليات، والبروتينات الخالية من الدهون.
- الإقلاع عن التدخين: للنيكوتين تأثير ملحوظ على مقاومة الجسم للإنسولين، ويبدأ خطر الإصابة بالتناقص بعد خمس سنوات من الإقلاع عن التدخين، ويصل إلى مستوى خطر مماثل لمستوى عدم التدخين مطلقًا بعد عشر سنوات من الإقلاع عن التدخين.
المعالجة الدوائية وتشمل:
- ميتفورمين (Metformin): من أكثر الأدوية التي توصف لعلاج مقاومة الإنسولين.
- ثيازوليدينديون (Thiazolidinediones): يقلل كمية الدهون المنتشرة في أنحاء الجسم.
- بيغوانيد (Biguanides): يقلل كمية الجلوكوز التي ينتجها الكبد.