إبراهيم العلوش
التغييرات التي أتت بها الانتخابات التشريعية الأسبوع الماضي في لبنان، أكدت أن لبنان الدولة لا يزال حيًا ولم تلتهمه إيران بأنياب “حزب الله”، على عكس الدولة السورية التي لم تتمكّن من إجراء أي انتخابات تحمل التغيير طوال الـ50 سنة الماضية من حكم آل الأسد. ويتسابق اليوم رجال دولة الأسد على الولاء لإيران وروسيا وتسليم المطارات والمواقع العسكرية ومناجم الفوسفات والمواني إليهما.
خسر حلفاء “حزب الله” الأغلبية البرلمانية، وفازت قوائم معارضة للحزب بمناطقه في الجنوب والبقاع، وكان التغيير الأهم هو فوز أنصار ثورة “تشرين” عام 2019 بعدد من المقاعد يقارب عدد مقاعد “حزب الله”، ما شكّل هزّة للتركيبة الطائفية، وللطبقة السياسية التقليدية اللبنانية، رغم هيمنتها على مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية.
مرّ لبنان بمختلف المحن، من الحرب الأهلية، إلى هيمنة المخابرات السورية، إلى سيطرة “حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني” الذي صار جيشًا ثانيًا في لبنان، ولكنه استطاع إجراء انتخابات نيابية أقصت أنصار رئيس الجمهورية وحزبه من الأغلبية، إذ فقدت كتلة “التيار الوطني الحر” بقيادة ميشال عون وزوج ابنته جبران باسيل صدارة المشهد السياسي، وصار حزب “القوات اللبنانية” مشاركًا مهمًا في الحياة السياسية، وهو المعروف بمعارضته الشديدة للهيمنة الإيرانية التي يقودها “حزب الله”.
منذ انقلاب آذار 1963 لم تحدث أي انتخابات رئاسية، أو تشريعية، أو بلدية، تحمل التغيير وتفرض رؤى سياسية من خارج إرادة السلطة الحاكمة، تلك السلطة التي ترفض إرادة التغيير والتحديث إلا عبر الانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية التي تقصي طرفًا سياسيًا لمصلحة طرف آخر، مثل حركة جاسم علوان وصلاح جديد وانقلاب الأسد واستيلاء عائلته على السلطة 1970، وصولًا إلى التنافس بين أجهزة المخابرات التي رعاها الأسد الأب من أجل أن تساعده على إحباط براعم أي تغيير أو انتقاد، ولو كان خجولًا، سواء من داخل السلطة نفسها، أو من قبل السوريين بوصفهم مواطنين أحرارًا كما يردد الأسد في خطاباته دائمًا.
في لبنان، رفض الجيش اللبناني إغراءات “حزب الله” بالاستسلام لـ”الحرس الثوري الإيراني”، ولأموال إيران التي كانت تتدفق بمئات ملايين الدولارات، واستطاع الجيش، رغم المآسي التي حلّت عليه من أيام “قوات الردع” السورية وسيطرة غازي كنعان ورستم غزالة وصولًا إلى إشهار “حزب الله” سلاحه وتخويفه للبنانيين، أن يظل متماسكًا ومخلصًا للدولة اللبنانية، وكان الحصن الأخير للسيادة اللبنانية بعد انهيار المنظومة الاقتصادية ونهب البنوك، خلال العامين السابقين، من قبل السلطة التي يدعمها “حزب الله”.
وقد وصل الأمر بالجيش اللبناني إلى أن يستدين رواتبه، وأن يوجه نداءات محلية ودولية من أجل إنقاذ ضباطه وعناصره من الإفلاس الشديد الذي حل بهم وبعائلاتهم نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي تسبب به أنصار “حزب الله”.
وفي ثورة “تشرين” عام 2019، قام الجيش اللبناني بحماية المتظاهرين، ومنع سائقي الدراجات النارية المسلحين من أنصار “حزب الله” و”حركة أمل” من تنفيذ الوصفة الإيرانية- السورية، والاعتداء على المتظاهرين، وأحبط العديد من المجازر المحتملة ضدهم.
كان ضباط الأسد يتندرون على الجيش اللبناني بأنه “جيش أبو الزلف” وأنه جيش طائفي، ناسين أن جيش الأسد نفسه مبني بشكل طائفي. ولكن السؤال الذي تطرحه علينا الانتخابات اللبنانية الأخيرة هو لماذا جرت هذه الانتخابات دون حصول أي عملية اعتداء مسلح، ولم يُقتل أي من اللبنانيين المعارضين لرئيس الجمهورية أو لـ”حزب الله” حتى الآن، لماذا حمى “جيش أبو الزلف” الشعب بينما جيش الأسد دمّر المدن والقرى وهجّر السوريين وقتل عشرات الآلاف منهم في المعتقلات، وقتل أكثر من نصف مليون بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية وبكل ما يملكه الجيش من معدات اشتراها الشعب السوري من ماله لحماية بلده.
ما الذي يجعل جيشًا طائفيًا (كما يدّعي ضباط الأسد) يحمي شعب لبنان، بينما جيش الأسد، الجيش “القومي العربي” الذي يرفع شعارات تحرير فلسطين والوحدة العربية، يقوم بهذا “الهولوكوست” ضد السوريين؟
لماذا رفض الجيش اللبناني كل الإغراءات لقبول التبعية لـ”الحرس الثوري الإيراني”، بينما يتسابق ضباط جيش الأسد على العمالة لإيران وروسيا، ويتبارون في تسليم المواقع العسكرية والمطارات للمحتلين الأجانب، بعد أن أنهكوا السوريين بالقصف والجوع والتهجير؟
أسئلة صعبة وشديدة المرارة، ولكنها تعبّر عن حجم المأساة السورية مع استمرار هذا النظام، واستمرار بنيته العسكرية والسياسية، التي أصابت البلاد بالضياع، وبانعدام الأمل الذي لا يزال يحمل آلاف السوريين كل يوم على الهجرة من “عرين الأسد”.