عن الألسن التي ما زالت تحفظ شتائم مظفر النوّاب
نبيل محمد
“تفيض كأسي بالفراغ..
وإن أكن من لحظة أترعتها
نخبَ الفراغ”.
أن ترثي شاعرًا مؤثّرًا، أنت في موقع ضعف بلا شك. ستجد من شعره وقصص حياته ما سيمنحك لغة تلمع في النص بسهولة. سيكون هو من صنع ما تكتبُ في ذكره، ستجد نفسك تبحث عن مكان لتورد فيه ذاك النص وتلك الكلمات. ولا بد أن أول ما يخطر على بالك عندما تسمع بوفاة مظفر النوّاب، هو كل ما تعرفه للشاعر، ضعيفه وقويّه، مباشره ورمزيّه. تلك النصوص التي عشقته يومًا لأنه كتبها، وتلك الأخرى التي كرهته لأنه ردّدها في أغلب أمسياته بصوته المبحوح وبكائياته.
كانت نصوص مظفر النوّاب تقدّمه كمناضل يساري، يعاني سلطة الأنظمة الدكتاتورية، ينشد القضايا الكبرى لدى جيل من الشباب العربي، لكن اختصاره في هذا المكان كان ببساطة يمكن أن يسقطه من ذاكرة جيله والأجيال اللاحقة، التي أسقطت جزءًا كبيرًا من أدباء اليسار لمواقف اتخذوها أو حتى دون مواقف معلَنة أحيانًا. إلا أن لمظفر النوّاب تجلّيًا بعيدًا عن هذه الرؤية، إنه في مكان ما شاعر بمعزل حتى عن القضايا الوطنية والسياسية التي احتلت المكان الأوسع في منتجه.
50 عامًا من المنفى، واختيار العزلة، وعدم الظهور على وسائل الإعلام، وعدم الاحتماء بأنظمة سياسية، أو العيش تحت مظلّة غض بصر الأنظمة عنه. الزهد الواضح للغاية بكل شيء لسنوات طويلة. كل ذلك أعطى النواب خصوصية، تنبع أيضًا من عدم نمطية تواصله مع الجمهور، فأغلب أشعاره غير مدوّنة في كتب، إنما تتناقلها شرائط الكاسيت، وفيديوهات مشوّشة من أمسية هنا وسهرة هناك.
في مرحلة من حياتنا، نحن الذين عشنا في بلاد “البعث”، نبحث خلف ابتداع الشتيمة، نبحث عن السُباب الأصلي الممعن بالمعنى والعميق بإصابته لما نريد. كان مظفر النوّاب يناولنا ما نريد. كانت صور قادة وضباط وأمناء فروع الحزب، تجعلنا نردد في الخفاء تجاههم لغة الشاعر المواكب لنا، حين لا ينفع الترميز والذهاب أبعد ما يمكن بالكلمة. كنا بحاجة إلى الكلمة الواضحة المباشرة في أماكن عدّة من يومياتنا. تلك النصوص التي يحفظها جيل كامل من العراقيين والسوريين وربما غيرهم، كانت تنمّط اسم النوّاب أينما حل في شكل هو ليس إلا الجزء الأكثر انتشارًا من أشعاره، هو ليس إلا الكلام السهل الثبات على اللسان. كان سهلًا أن ينفذ إلى القلوب بتلك النصوص، ولعلّ من الأجدى أن نقول، كانت القلوب سهلة الاختراق بأي شيء يوحي بالاختلاف.
من الجيّد أيضًا عندما يعود شريط ذاكرتنا مع أشعار النوّاب، أن نتذكّر أننا كنا في بعض المواقع عميانًا نردد ما يقوله تحت بند الرفض وكره الأنظمة، لتغدو قصيدة “القدس عروس عروبتكم” “مانيفستو” لنا، تلك التي مدح فيها شخصية إرهابية دموية كـ”جهيمان”، والتي دعا بها إلى حمل السلاح خلال الحج في مكة. لقد كانت تلك القصيدة ولعلّ بعضًا آخر من جملة هنا وأخرى هناك، لتصنع للشاعر صورة سوداء مغايرة لتلك القابعة في أذهاننا. كنا بحاجة إلى وقت لنعي ذلك.
إن كان “أبو عادل” جزءًا من مراهقتنا، وأولى انطلاقتنا نحو ما يمكن أن نستقل فيه من أمزجة وأفكار وعادات، فإنه جزء جميل من تلك الذاكرة التي نخجل أحيانًا أن نرويها، بيساريتها المراهقة وثوريتها العمياء كأغلب ما حفظنا للنوّاب، وقوفنا على أبواب المراكز الثقافية التي جاء ليحيي أمسية فيها، التقاط الصور معه واستراق الجلسات أحيانًا عندما كان مقهى “الهافانا” بدمشق ملجأ من ملاجئه، حكايات عن صدامه مع الرئيس فلان والزعيم فلان، حكايات بعضها من نسج خيالات مبتدعيها، وبعضها صاغتها المبالغات المرنة للتعديل بين راوٍ وآخر. تقويلنا له ما لم يقله، بل وكؤوس قُرعت على أصوات كاسيتات قديمة تحمل بحّة صوته وأزيز كهرباء، كؤوس نذكرها مبتسمين ضاحكين من مفرداتنا في تلك المرحلة، نعطيها أسماء وألقابًا وأنسابًا لأنه قال يومًا، “والكاسات إن صحّ الذي يسقيك إياها لها أنساب”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :