جريدة عنب بلدي – العدد 47 – الأحد – 14-1-2013
داريا مدينة ساخنة، انضمت للثورة السورية منذ بداياتها وكان لها نصيبها من قمع النظام وبطشه. فكان وجود المشافي الميدانية فيها أمرًا ملحًا وضروريًا.
بدأت المشافي الميدانية بالعمل في داريا منذ بدايات الثورة، ففي «الجمعة العظيمة» (22 نيسان 2012) كان هناك «مشفى طيار» يقوم بمعالجة المصابين من رصاص الأمن وقنابل الغاز المسيل للدموع. ومنذ ذلك الوقت ونتيجة ارتفاع عدد الجرحى وكثرة الإصابات الخطرة مع ازدياد وتيرة إجرام النظام، تم التعاقد مع بعض المشافي الحكومية والخاصة في داريا لإدخال الجرحى بشكل سري إلى تلك المشافي ومعالجتهم. وما لبث أن انكشف الأمر لأجهزة الأمن التي بدأت بمداهمة المشافي واعتقال الجرحى والمصابين حتى من غرف الإسعاف أو المتابعة، كما تم اعتقال بعض المصابين وهم مخدرون وعلى وشك الخضوع لعمل جراحي أو أثناءه، وهو ما حدث مع عدد من أبناء المدينة.
فكان همُّ الثوار والكادر الطبي هو تجهيز مشفى ميداني بشكل كامل، مشفى يحوي غرفة عمليات وغرفة لمتابعة الجرحى بعد العمليات، وغرفًا للإسعاف…. وهذا ما تم إنجازه بالفعل قبل ارتكاب النظام لمجزرته الكبرى في داريا أواخر شهر آب 2012. إلا أن العدد الكبير للجرحى والمصابين خلال تلك الفترة القصيرة كان أكبر من أن يستوعبه أي مشفى كبير ومجهز، فكيف إذا كان المشفى ميدانيًا صغيرًا يُخشى من معرفة الأمن لمكانه.
وأثناء اقتحام المدينة بعد المجزرة، وصلت قوات النظام إلى مكان المشفى الميداني فأحرقت مستودعات الأدوية وأعدمت أو اعتقلت عددًا من الجرحى الذين لم يتمكن الطاقم الطبي والمسعفون من نقلهم.
تجهيز المشفى والظروف المحيطة
الآن وخلال الحملة الحالية المستمرة على المدينة، ومع عدم قدرة الأمن على اقتحام المدينة، وفي ظل نزوح معظم الأهالي من المدينة فإن الضغط على المشفى أقل، وبالتالي فإن الوضع أفضل مما كان عليه أثناء المجزرة الأولى حسب ما قاله لنا ( م. ش) الذي يعمل في المشفى كمسؤول عن تجهيز غرفة العمليات.
فالمشفى الميداني في داريا الآن مؤلف من غرفة كبيرة للإسعاف، وغرفة عناية مشددة، وغرفة لمعاينة المرضى من نساء وأطفال وشيوخ ممن بقي في المدينة، إضافة إلى صيدلية وغرفة للعمليات. كما جُهز مكان آخر بعيد عن المشفى لمتابعة الجرحى بعد خروجهم من العملية. وقد تم إحضار عدد من التجهيزات الضرورية للمشفى، إلا أن الكثير من التجهيزات الضرورية لا تزال غير متوفرة.
أكثر ما يلفت الإنتباه في المشفى هو التنظيم رغم الظروف القاسية ابتداءًا من باب المشفى وحتى غرفة المتابعة. فعلى باب المشفى يقف عناصر من الشرطة والجيش الحر، يمنعون دخول أي عنصر من الجيش الحر يحمل سلاحًا معه، «لا نريد للجرحى أن يخافوا، أو أن يؤثر منظر السلاح على نفسياتهم وهم بحالة حرجة… كما نخاف من أي حادث قد يحصل داخل المشفى» يقول أحد الأطباء.
ورغم هذا التنظيم والتجهيزات التي تم تأمينها، تبقى ظروف المشفى قاسية، فانقطاع التيار الكهربائي عن المدينة منذ ما يقارب الشهرين تسبب بالكثير من المشكلات والصعوبات التي يواجهها الفريق الطبي وفي مقدمتها تأمين مولدات كهربائية ووقود لتشغيلها. وفي إحدى المرات توقف المولد عن العمل أثناء إجراء إحدى العمليات الجراحية فسارع الممرضون لتشغيل المنفسة يدويًا، فيما قام بعضهم بإشعال أضواء جوالاتهم ليتمكن الطبيب من متابعة عمله…. انقطاع الكهرباء ولو لمدة 10 دقائق قد يتسبب بكارثة في المشفى وخسارة أرواح بعضٍ من أبناء المدينة.
وحول طرق التعقيم المتبعة يخبرنا م. ش. بأن طرق التعقيم المتبعة غير كافية –في ظل الظروف الاعتيادية- لإستخدامها لعملية جراحية، « إلا أنه ما باليد حيلة».
أما عن الدواء وتأمينه فقال: «قمنا بجلب الأدوية من الصيدليات التي تم قصفها، ونقوم بتوزيعها بالمجان على الجرحى وعلى المرضى من المدنيين أيضًا».
الفريق الطبي والخطر المستمر
يعمل الكادر الطبي بظروف خطيرة نتيجة القصف المستمر وغارات الميغ على المدينة. ولكن أكثر شخص معرض للخطر بالكادر هو المسعف الذي يقوم بجلب الجرحى من أماكن الإشتباكات أو القصف، مستخدمًا سيارة الإسعاف المتواضعة التي تحتوي بعض الشاش والقطن إضافة إلى قطعة اسفنج رقيق جدًا وحمالة لنقل المصابين والجرحى.
الشاب أ. ع. المسؤول عن سيارة الإسعاف يحدثنا قائلًا: «رقم هاتفي المحمول مع غالبية الناس ومع عناصر الجيش الحر ليستطيعوا إخباري بمكان الجرحى فأذهب بسيارتي لإحضارهم. وكثيرًا ما نتعرض لمواقف خطرة قد تودي بحياتنا أثناء إحضارهم ونقلهم، خصوصًا من مواقع الإشتباك».
عمل المسعف فيه درجة عالية من المخاطرة ويتطلب الكثير من الجرأة والشجاعة، وربما أكثر ممن يقف على الجبهة لكونه أعزل. «اخترت هذه المهمة لأنني لا أحب حمل السلاح… ولكن مع كثرة الجرحى الذين ننقلهم كل يوم لم نعد نشعر بأن الجريح هو إنسان…. أصبحنا نشعر أثناء حمل المصاب وكأننا ننقل غرفة نوم، وهذا يزعجني كثيرًا ويُشعرني بالإشمئزاز من نفسي» يقول لنا أ. ع.
سألناه عما قد يكون موقفه فيما لو وجد مصابًا من عناصر النظام بحاجة لإسعافه وهل سيكون مستعدًا لإسعافه؟؟ فقال: «لم أتعرض لهذا الموقف حتى الآن… و لكن إن تعرضت له لا أتخيل نفسي قادرًا على إسعاف أحد منهم وهم الذين يقتلون منا كل يوم المئات».
جريح على فراشه في قسم المتابعة يقول لنا: « الكادر الطبي يقدم كل ما لديه من أجل راحتنا، ولكن الأسرة غير مريحة لأنها غير مخصصة للمرضى، هي أسرة عادية، ولكن لا ذنب للكادر بهذا فهم يسهرون على راحتنا»
بعد انتظار طويل تمكنا من الحديث مع أحد الأطباء الذين يجرون العمليات للجرحى، ليتبين لنا خلال الحديث أنه ليس طبيبًا، بل أنه يدرس الطب ولم ينهي دراسته بعد، ولكن بسبب نقص الأطباء اضطر لإجراء عمليات لا يقوم بها عادة الا أخصائيون بمساعدة طبيب مختص. أما في المشفى الميداني فلا يوجد سوى طبيب واحد. «أجرينا حتى الآن أكثر من 100عملية جراحية، ومنذ بداية الحملة على داريا وحتى الآن جاءنا أكثر من 600 جريح حالة أغلبهم بين الخطيرة والمتوسطة».
وحول النقص في عدد الأطباء يقول: «أكثر ما يزعجنا هو حاجتنا لطبيب مختص أوعية وعصبية لأنه كثيرًا ما نضطر لبتر أطراف الجرحى بسبب نقص الكادر الطبي وحاجتنا لطبيب أخصائي بالأوعية وآخر مختص بالأعصاب…. ولكن مع جريح واحد استطعنا أن نجري عملية كانت بحاجة إلى طبيب أوعية دون أن يكون موجودًا… أجرينا العملية بنجاح ولكننا اضطررنا لبتر ساقه…. كثيرًا ما اضطررنا لإجراء عمليات ليست من اختصاصنا»
وحول سبب عدم وجود عدد كافٍ من الأطباء ومن الاختصاصات المطلوبة، يرى أحد أعضاء الفريق الطبي أن استهداف قوات النظام والأمن للأطباء والمسعفين بالاعتقال والتعذيب من أهم أسباب عدم وجودهم في المشافي الميدانية. ويورد هذا الطبيب مثالًا سمعه من أحد المعتقلين أنه: «في المعتقل كان يتعرض الشخص المتهم بمشفى ميداني أو مساعدة جريح للتعذيب أكثر من حامل السلاح، كانوا يسلخون جلدهم وكنا نسمع صوت أنينهم طوال الليل». وقد يكون هذا الهاجس الأمني سبب امتناع كثير من الأطباء عن «أداء واجبهم».
ح. ش. طبيب أخر في المشفى الميداني في درايا يستنكر على الأطباء تخاذلهم رغم الدعوات المتكررة لهم للحضور، ورغم حاجة الجرحى الملحة لهم…»عرضنا عليهم مبلغًا شهريًا مغريًا لقاء عملهم في المشفى، ولم يأتوا… الملاحقة الأمنية لا تبرر تخاذلهم».
أما الطبيب ر. ع. فيقول: «بعد سقوط النظام أتمنى أن تتم محاسبتهم مهنيًا وأخلاقيًا، وأن يعاد النظر بالشهادات التي يحملونها والقسم الذي أقسموه»
حاجة المشافي الميدانية – ليس في داريا وحدها- للأطباء الأخصائيين لم يعد يخفى على أحد، فصفحات التواصل الإجتماعي تدعو يوميًا الأطباء على العلن للمساعدة في المشافي الميدانية من شدة حاجتهم لهم. ففي دير الزور يعرض المشفى الميداني مرتب 2500 دولار شهريًا على كل طبيب.
بعيدًا عن المشفى الميداني يقع قسم المتابعة الذي يُنقل إليه المصاب أو الجريح بعد استقرار حالته في حال كان بحاجة لرعاية طبية ومتابعة. وفي هذا القسم يوجد قسم من الكادر الطبي. وهذا القسم مسؤول عن متابعة حال المرضى. وهذا التقسيم لاسيما الفصل بين مكان الإسعاف والعمليات وقسم المتابعة خفف كثيرًا من الضغط الذي كانت تشهده المشفى في ما مضى. كما أنه يخفف الضغط الذي يعيشه الفريق الطبي نتيجة تقسيم العمل.
مكان المتابعة غرفة كبيرة مؤلفة من 10 أسرة عادية، وفوق رأس كل مريض علّقت ورقة كتب عليها وضع المصاب وحالته والأدوية التي يجب إعطاؤها له مع توقيتها. وكما يوجد مكان صغير فيه جهاز لتحليل الدم.
في ظروف قاسية وغير اعتيادية على الإطلاق، من نقص الطعام والماء والكهرباء ووسائل الإتصالات ومتطلبات التعقيم والأمان، و فوق كل هذا تحت القصف الشديد على المدينة، يقوم الكادر الطبي في المشفى الميداني في داريا بمعجزات طبية لحماية وإنقاذ أرواح الناس وحمايتهم من المرض ولتجنيبهم، قدر المستطاع، الإعاقة الدائمة. لايوجد كلام ولالغة يمكن أن تعبر عن وفائهم وإخلاصهم لوطنهم، وأمام تضحياتهم لا يمكننا إلا أن نسأل رب ملائكة السماء أن يحمي ملائكة الرحمة على الأرض.