“يوميات الحزن العادي” المستمرة لمحمود درويش
في كتابه “يوميات الحزن العادي”، الصادر عام 2007، يؤرخ الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وفق مفهومه ومنظوره الشعري، لمرحلة حساسة من تاريخ القضية الفلسطينية، فالكتاب حامل لذكريات خروج الفلسطينيين من لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
وخلال مقابلة أجراها مع الصحفية اللبنانية إيفانيا مرشيليان، عام 1991، وصدرت في كتاب حمل اسم “أنا الموقع أدناه محمود درويش”، عام 2013، أفصح الشاعر الفلسطيني عن مناسبة الكتاب، وولادته في مزاج محبط وكئيب، تعبيرًا عن فترة حفرت كثيرًا في نفسية أبناء القضية الفلسطينية الذين عاشوا نزوحًا أو لجوءًا مضاعفًا، قاصدين بعد لبنان وجه تونس.
الكتاب ليس ديوان شعر، لكنه في الوقت نفسه يحمل النفس والأسلوب الشعري، وخلاله وعبره يخلق درويش الأسئلة، وتحديدًا ذلك النوع من الأسئلة التي تتطلّب تفكيرًا، وتأملًا قبل الإجابة عنها، هذا إن حضر الجواب.
“لماذا هاجرت؟ لماذا هاجرت؟ منذ عشرين عامًا وأنت تسأل لماذا هاجروا؟! ليست الهجرة إلغاء الوطن، ولكنها تحول المسألة إلى سؤال”.
إذًا، تكشف هذه العيّنة من تساؤلات درويش، التي تلامس واقع القارئ العربي، عن الفحوى، وتهديه إجابات جاهزة ومطبوخة بمرق التجربة والاغتراب والمنافي، والفلسفة، فهنا تعريف للوطن، وربما أكثر من تعريف، طالما أن المعاناة تخلط أوراق المفاهيم وتغدو أمامها أبسط المسلّمات بحاجة لإعادة شرح وتفسير.
وفي “يوميات الحزن العادي” أيضًا، تشكيك بالتاريخ، هذا النوع من التاريخ الذي مضى شهوده إلى غير رجعة، ما يضاعف احتمالية تزويره باعتبار أن تاريخًا أو تواريخ زُوّرت بحضور شهودها، فيشكّك بمصداقية مدرّس التاريخ، كون “لقمة عيشه يأخذها من الأكاذيب”، فهذا المدرّس برأي الشاعر الفيلسوف “كلما ابتعد عن التاريخ عادة اقتربت الكذبة من البراءة وقل أذاها”.
هذا دفتر للتعاريف، وربما قاموس نثري يعطي الأشياء معنى قد يتخطى معناها الذي تدركه العين المجردة والحواس الخمس، لكن ما يمنحه جاذبيته أن أفكاره مرنة تتخطى واقعها، وتقبل القياس على ما هو راهن، فالمعاصر والمضارع يشبه ما مضى دون أن ينقضي.
“الخارطة ليست إجابة”، و”اغترابك ليس ماديًا فقط”، وبالتالي فكل تلك الشروح والتفاسير التي كتبها الشاعر تعبيرًا عن ضجر حضاري وخيبة أمل أنيقة، لا تعبر عن ذاتية كاتبها فقط، بل وعن ذاتية قارئها أيضًا.
“يوميات الحزن العادي”، يوميات مستمرة، لم تتوقف بانتهاء المرحلة التي وثّقها درويش بمناوشات لغوية، فما تغيّر على مستوى القضية إضافة عقود إلى عمرها، والاحتلال متواصل، ومنذ كتابة اليوميات “احتلوا النفسية والمزاج والصلة ما بينك وبين الوطن حتى صرت تسأل عن معنى الوطن”، كما احتلوا المواطن وألهوه بحياته وهمومه.
“تشغلك همومك الشخصية من أجل الحياة، عن الإحساس بحقيقة أنك محتل أحيانًا”.
الكتاب يمتد على 126 صفحة، قد تترك بعد قراءتها شيئًا من الراحة في نفس القارئ، فربما يجد ضالته من أسئلة عزّت الإجابة عنها، وخلطت على طريق الهداية الشك باليقين.
محمود درويش شاعر فلسطيني معاصر من روّاد المدرسة الرمزية في الشعر العربي المعاصر، وصاحب إرث أدبي كبير لا يطغى فيه الكم على النوع، فله أكثر من 30 مؤلفًا في الشعر والنثر، تُرجمت أيضًا إلى أكثر من 22 لغة.
ولد درويش في قرية البروة بالجليل الأعلى الفلسطيني، في 13 من آذار عام 1941، ثم ولد في صفوف الشعراء وعلى رفوف المكتبات عبر ديوانه الأول “أوراق الزيتون”، الذي صدر عام 1964، وتوفي في 9 من آب عام 2008، إثر خضوعه لعملية جراحية في القلب بولاية تكساس الأمريكية.
وبين الولادة والموت قرّب درويش القصيدة المسموعة من جمهوره أكثر، فما يحجبه الرمز مانحًا القارئ حرية الفهم والتفسير، وحرية الضياع أيضًا، يشرحه الإلقاء المترافق بالمشاعر التي تقول ما لم يقله النص.
ترك درويش توقيعه على قصائد جمعت بين الوطن والمرأة والثورة، وشددت على مكانة كل منها، فتحولت لأناشيد تتوارثها أجيال يعوّل الاحتلال الإسرائيلي على نسيانها وإعراضها عن القضية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :