قضاء سوريا المحررة.. ثلاث مرجعيات تنذر بتقسيم البلاد

  • 2015/12/20
  • 6:04 م

لم يكن ملف القضاء في سوريا قبل العام 2011 بمنأى عن الفساد الذي كان يغلّف قطاعات عديدة في الدولة؛ اجتماعية واقتصادية، وكان فتح هذا الملف أو مجرد الحديث عن مستويات الفساد فيه “تابو” يحرم على الجميع الاقتراب منه، ووقفت شخصيات كبيرة أمنية وعسكرية وراء إفساد هذا القطاع، وكانت تستثمر نفوذها في أدق تفاصيل سير العملية القضائية وعمل القضاة والمحامين والمحاكم، وتعدّى تدخلهم إلى تعيين القضاة والضغط عليهم لاستصدار أحكام مخالفة لروح الدستور السوري تزيد الظلم وتبرئ المجرمين، ما فتح باب الرشاوى والمحسوبيات، حتى بات يوصم القضاء بأنه “سرطان” في جسم النظام السوري، فلا جدوى من تعديل أو إصلاح.

ويمكن القول إن هذه المقدمات كانت من أهم عوامل انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، التي تحولت فيما بعد إلى عمل عسكري، بدأ النظام إثره بالانسحاب مع هياكله من بعض المناطق، لتبرز فيها الحاجة إلى أجسام قضائية وهيئات شرطية تتصدى لمرتكبي الجرائم والسرقات وتحمي الممتلكات العامة والخاصة.اتسمت تلك المرحلة بـ “الارتجال”، مع وجود نشاطات محدودة من الهيئات القانونية، التي سعت لإشغال دور الهيئات القضائية المنسحبة مع خروج النظام من المناطق، كما يقول حقوقيون متابعون لحال القضاء في تلك المرحلة لعنب بلدي.

سادت الفوضى، وكثرت عمليات الانتقام، وقامت بعض الكتائب بمحاسبة المسيئين من تلقاء نفسها، دون الرجوع إلى محاكم متخصصة. وأفضى ذلك أخيرًا إلى ظهور المكاتب القضائية، التي تطورت فيما بعد إلى مجالس قضاء.

مع تسارع الأحداث، ولدت هيئات وأجسام قضائية جديدة، تغلغلت بين الناس وكانت الفصائل العسكرية قوتها الضاربة. اعتمدت هذه الأجسام في مجمل عملها على الشريعة، وقام عليها شيوخ وقضاة “ذوو خبرات محدودة”، بالمقابل ظهرت دعوات من قضاة وحقوقيين انشقوا عن النظام وطالبوا بتفعيل القانون السوري، في حين اقترحت جهات حقوقية أخرى تطبيق القانون العربي الموحد، كحل وسط.

نسعى في هذا الملف، الذي استغرق إعداده قرابة الشهرين، بعد التواصل مع قضاة وشرعيين وحقوقيين وعسكريين سوريين، إلى الكشف عن واقع القضاء في سوريا منذ اندلاع الثورة حتى الآن، محاولين توصيف الهيئات والمرجعيات القضائية القائمة في معظم المناطق السورية المحررة، بالاستناد إلى مقابلات أجراها فريق التحقيقات في عنب بلدي مع عدد من رؤساء الهيئات الشرعية وقادة عسكريين، واستطلاعات رأي أجرتها الجريدة عبر شبكة مراسليها شملت محامين وحقوقيين، وقضاة منشقين عن النظام، بالإضافة مواطنين قيمّوا التجربة من خلال واقعهم واحتكاكهم المباشر مع الهيئات الشرعية والقضائية في المناطق المحررة.

ملاحظة: تتناول عنب بلدي في هذا البحث التجارب القضائية في المناطق المحررة، مستثنية المناطق التي مازالت تخضع لسيطرة النظام السوري، وتلك التي تسيطر عليها “الدولة الإسلامية”.

المحامون السوريون وثّقوا جرائم النظام السوري منذ بداية الثورة

انضم المحامون إلى الثورة في وقت مبكر من اندلاعها، وكان الحراك بطبيعته متفهمًا للأنشطة القانونية، وكانت القضية الإعلامية والعمل الميداني من أولويات تلك الفترة، وانصبت جهود الحقوقيين على توثيق جرائم النظام، حتى كادت تقتصر عليها، فنشأت في تلك الفترة الكثير من المراكز الحقوقية ومراكز توثيق الانتهاكات.

وبرأي المراقبين كان دور المحامين “خجولًا”، وربما تستثنى مدينة حلب، التي اعتبر المحامون محركًا أساسيًا فيها، إذ شاركوا بالمظاهرات السلمية وبالتنسيق لها، وكان لهم دور بارز في الترافع عن معتقلي المظاهرات، عن طريق الاعتصامات في دور العدل مطالبين بالافراج عن المعتقلين وتعديل القوانين المطبقة عليهم، ودفع كفالات إطلاق سراحهم، ووازت الرقة في ذلك الحراك مدينة حلب، واعتبر دور المحامين فيها بمثابة الشرارة للمظاهرات، وساهم محامو إدلب في الثورة بشكل كبير، ليبقى نشاط المحامين في بقية المحافظات دون المستوى المأمول.

تنويه: وردت في التحقيق تصريحات وآراء لشخصيات قضائية وحقوقية بارزة، تتحفظ عنب بلدي على نشر أسمائهم لأسباب أمنية، وبناء على طلبهم.

هيئات قضائية بارزة تشكلت في سوريا المحررة

الهيئات الشرعية… تكريس حكم “الشيخ” بدل القاضي وبداية مرحلة الانحدار

شكلت الكتائب والفصائل في المرحلة الأولى من بداية العمل المسلح ما يعرف بـ “الهيئات الشرعية”، التي بدأت كلجان تحكيم لفض النزاع بين الفصائل، سرعان ما تحولت إلى محاكم ثابتة يحكم فيها “الشيخ” في أغلب الأحيان بدماء الناس وأموالهم، وليس الحقوقي أو القانوني.

هنا بدأت مرحلة الانحدار، كما يقول الحقوقيون الذين استُطلعت آراؤهم في هذا التحقيق مثل أسامة أبو زيد، بتسليم شرعيين (غالبًا لا يحملون شهادات شرعية) مناصب قضائية، وفي أحسن الحالات تسلم علماء شرعيون هذه المناصب، وتم إقصاء القضاة ورجال القانون التقليديين.

محاكم لتحكم بالتراضي وأخرى للبت بالجنايات

انقسمت الهيئات الشرعية منذ بداية تأسيسها إلى قسمين، الأولى لم تحكم بالجرائم والجنايات، سعت إلى فض النزاعات بالتراضي، ولم تكن تملك القوة التنفيذية للحكم بين الفصائل المتنازعة، وإنما اهتمت فقط بأمور المدنيين، وقد نشأت لسد فراغ خلّفه انسحاب مؤسسات الدولة، لتسيير الأمور التجارية والمعيشية والشرعية (زواج، طلاق، إرث…). وعند حدوث مشكلات كبيرة بين الفصائل كانت غالبًا ما تلجأ الأخيرة إلى لجنة تحكيم خارج المحكمة، يتم تعيينها من قضاة توافقيين بين الطرفين.

وهذا النوع من المحاكم يصح إدراجه تحت مسمى “محاكم الضرورة”، أو “قضاء الضرورة”، التي أفتى فيها كبار العلماء، أمثال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، وفق شهادة أحد الحقوقيين.

أما القسم الثاني، فهي المحاكم التي امتلكت قوة تنفيذية، وكانت تحكم في الجنايات، وهي من يعتبرها القانون والشرع “غير شرعية”، فالقانون من جهته لا يرى شرعية لها بتنفيذ الأحكام وتعيين القضاة، والشرع ينص على تعطيل تنفيذ الحدود حتى استقرار البلاد ووجود ولي أمر، ويستبدل الحدود بالتعذير في ظروف عدم الاستقرار.

وبشكل عام كان قضاة المناطق المحررة (الجدد) يعانون من ضعف الخبرة، يقول أبو زيد “الأصل في القاضي، أن يدرس القانون لأربع سنوات، ثم يتابع في معهد القضاء إذا حصّل نسبة نجاح معينة، وبإتمامه السنتين في معهد القضاء، يؤهل كمساعد في قضاء الصلح، وبعد ذلك يبدأ بالترفع، أي أن دراسة ست سنوات في القانون لا تؤهل للحكم في القضايا الجنائية” ، غير أن ما فعلته الهيئات الشرعية، هو إرسال متدربين لدورات تدريبية لمدة شهر أو 45 يومًا يحكمون في قضايا الناس، وهو ما اعتبره حقوقيون “جريمة بحق القانون”.

حقوقيون: الهيئات الشرعية تخالف مبادئ الثورة

يرى قضاة ومحامون سوريون أنّ الهيئات الشرعية خالفت مبدأ فصل السلطات الذي نادت به الثورة السورية كأهم مطلب من مطالبها إلى جانب الإصلاح القانوني، “ونافت استقلالية القضاء، وكرست الديكتاتورية عندما هيمنت الفصائل المسلحة عليها”.

وبحسب حقوقيين مطّلعين على سير الأمور في سوريا، اضطرت بعض الكتائب إلى إنشاء هذه المحاكم لسد الفراغ، ولم يكن في الغالب بدافع “السيطرة”، وهي أيضًا تندرج تحت مسمى محاكم الضرورة، وفق راي المحامي عبد الناصر حوشان، في حين يلوم الكثيرون تقصير الائتلاف بملء هذا الفراغ.

أبو قتيبة القائد العسكري لتجمع فاستقم كما أمرت في حلب

كان للعسكريين رأي متوافق مع ما طرحه هؤلاء الحقوقيون حول عمل هذه الهيئات، إذ يقول قائد تجمع “فاستقم كما أمرت” أبو قتيبة، لعنب بلدي “في ظل الحروب وعدم الاستقرار كان تسلّط العسكريين على الحكم من النتائج الطبيعية عبر التاريخ، ولا يتم الحكم على النجاح في فصل السلطات حتى تنتهي الثورة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من الكتائب اضطرت للتحكم بمرفق القضاء بسبب عدم شغره من أي جهة سياسية أو قانونية، ولم يكن بدافع النفوذ والسلطة”.

ويرى أبو قتيبة أن القضاء “عبء” على العسكريين، مدللًا على ذلك بالمبادرات التي سعت لإنشاء قضاء مستقل بمساعدة الكتائب، التي تجاوبت معها بتأمين القوة التنفيذية المستقلة لها، ولكنها لم تنجح إلى الآن، بسبب “وجود الفصائل المتسلطة التي تحكم بالقوة، ولا يمكن بوجودها إنصاف الضعيف”.

غياب مفهوم الدولة وتعدد المرجعيات القانونية أهم المآخذ على عمل الهيئات الشرعية

يفتي حقوقيون ومحامون التقتهم عنب بلدي بـ “عدم شرعية إنشاء هذه المحاكم”، لأن تأسيسها يجب أن يستمد الشرعية من الدولة ومن الحاكم، وتعيين القضاة من مسؤولية السلطة القضائية، ويجب أن تتوفر الحماية للمحكمة وللقاضي ولقرار المحكمة في ظل الدولة، “بينما كل ما تقوم به الكتائب الآن من إقامة المحاكم وتعيين القضاة هو جرائم حرب برأي القانون”.

ويقول حقوقي (طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية)، إذا رأى الشرعيون بضرورة هذه المحاكم لملء الفراغ الذي قد تحكمه قوة السلاح في حال غيابها، فيجب أن يقتصر دورها في إطار القضايا المدنية، (زواج، إرث، طلاق، وما شابه ذلك)، وأن تقوم بالفصل في النزاعات بالتراضي، أما فيما يتعلق بالجنايات، فالحكم فيها (خارج إطار التعذير) بتطبيق الحدود في ظل الحرب وغياب الدولة والحاكم “أمر مرفوض شرعًا وقانونًا بالإجماع”.

ووفق رأي الحقوقي فإنه “كان من الممكن أن تستمد المحاكم شرعيتها من الائتلاف، الذي يمثل شرعية ثورية، ممثلة للشعب السوري بصفته جسمًا سياسيًا حاز على اعتراف 120 دولة، لكن تقصيره بهذا الأمر حال دون وجود مرجعية شرعية”.

المحامي عبد الناصر حوشان

من جانب آخر، يؤكد خبراء أنّ من أخطر سلبيات الهيئات الشرعية، هي “ازدواجية الأحكام”، إذ لا يوجد مرجعية قانونية ثابتة لها، فكل محكمة تصدر حكمًا استنادًا للشريعة الإسلامية، ولكن كل باجتهاده وفهمه لنصوص القرآن والسنة، بحيث من الممكن أن يحصل المتهم الواحد على حكمين مختلفين في المدينة نفسها أو ربما في الحي الواحد، وفي كثير من الأحيان يكون الحكم مخالفًا تمامًا لحكم المحكمة الأخرى “لأسباب كيدية بحتة”، بل تعدى الأمر في بعض الحالات إلى ما هو أبعد من ذلك، “إذ عاين عدد من المحامين حالات لمتهمين اختلف القضاة على أحكامهم في المحكمة نفسها”، وفق محامين عملوا في الداخل.

كما يؤخذ على هذه المحاكم أيضًا، ملاحقة المواطنين من أجل تأدية فروض يومية ومحاسبتهم، مقابل عدم ملاحقة مجرمين وقطاع طرق، (فقائد الكتيبة مثلًا لا يحاسب)، بما يجسد مفهوم “التجاوز عن القوي ومحاسبة الضعيف”.

محاكم الشعب في مناطق الإدارة الذاتية

الشعب يشارك باتخاذ القرار القضائي وينتزعه من الدولة

تفردت الإدارة الذاتية الديموقراطية (حزب PYD) بالسيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية في سوريا، فكل مدينة كانت تتحرر من سيطرة نظام الأسدابتداءً من صيف 2012 كانت تخضع مباشرة لحكم الحزب، ويقيم فيها محكمة إدارية، حتى فرض سيطرته على كل مدن محافظة الحسكة وتل أبيض وعين العرب.

المحامي مسعود سليمان

أدخل الحزب مفهومًا جديدًا على العدالة والقضاء في مناطق سيطرته، ما هو وكيف قيّمه الحقوقيون؟

يوضح المحامي مسعود سليمان لعنب بلدي، آلية عمل القضاء بقوله “تهدف محاكم الشعب لإشراك المجتمع بالقرار حتى لا تتفرد به الدولة، التي قد تضع قوانين لا تؤدي إلى حل المشاكل، فيكون لرأي المجتمع تأثيره على الحكم”، بحسب رؤية الإدارة الذاتية.

يبدأ إشراك الشعب بالقرار من تعيين القضاة، فلا يشترط أن يكونوا حقوقيين، إنما تتسع الدائرة للسماح بالاختصاصات المختلفة تقلد منصب القضاة، بمن فيهم غير الجامعيين، لضم شريحة كبيرة من المجتمع. في هذا الصدد يوضح سليمان “يشترط بهؤلاء القضاة أن يكونوا منتخبين من مجالس المدينة، ثم نقوم نحن كمحامين برفع أهليتهم القانونية بعد انتخابهم، ويتركز تأهيلهم على القضايا الاجتماعية، ويكون هؤلاء المنتخبون بمثابة هيئة محلفين”.

ولا تقع مسؤولية القضاء على عاتق المحاكم وحدها في مناطق الإدارة الذاتية، وإنما يبدأ حل أي مشكلة من دار الشعب، أما المشاكل التي تخص المرأة مثل المشاكل الزوجية فتبدأ بدار المرأة، يوجد في هذه الدور كوادر تحاول حل الأمر بالصلح، وإن فشلت تحال القضية إلى المحاكم.

كيف تسير المحاكمات في محاكم الشعب السورية الكردية؟

في مناطق الإدارة الذاتية تسع محاكم في تسع مدن، في حين توجد أربع محاكم استئناف ومحكمة نقض في القامشلي.

ويتنوع الحكم في القضايا المتعلقة بالمبالغ النقدية ما بين قطعي أو قابل للطعن، وذلك بحسب قيمة المبلغ، أما الدعاوى الشرعية فكلها قابلة للطعن وكذلك الدعاوى الجزائية.

في حين يتم البت بالجنايات بشكل قطعي في محاكم خاصة انفردت بها مناطق الإدارة الذاتية، تعرف بمحاكم “بلاتفورم”، وهي محاكم مؤلفة من جميع أطياف المجتمع تكون نموذجًا أوسع من المحاكم العادية، وتقام في الدعاوى الجنائية التي تعتبرها الإدارة تمس الرأي العام، ويشارك فيها الادعاء والدفاع وعدد من أعضاء المحاكم وأعضاء من مؤسسات المجتمع المدني وجمهور من المدنيين، وتهدف المحاكمة على هذا الشكل إلى التشهير بالمجرم، حتى ينال عقوبة الفضيحة أمام الناس إلى جانب الحكم الذي سيشارك فيه شريحة واسعة من المجتمع، ويخرج عنهم حكمًا قطعيًا.

العدالة الاجتماعية كمرجعية لمحاكم الشعب

تطبق القوانين التي يسنها المجلس القضائي لدى الإدارة الذاتية الديموقراطية في القضايا المدنية، فمثلًا قوانين المرأة والأسرة تتبع للقوانين الخاصة بهذا الحزب، وكذلك منع تعدد الزوجات وغيرها، أما في حال وجود نقص في قوانين معينة يطبق القانون السوري.

بينما لا يوجد قانون مطبق في القضايا الجنائية التي يراها الحزب قضايا رأي عام، وإنما تطبق العدالة الاجتماعية، التي تعني رأي الناس والقضاة، وتُبت في محاكم البلاتفورم.

حقوقيون ينتقدون سير عمل محاكم الشعب

ما يتم في محاكم الشعب من تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية أثار انتقادات واسعة عند مجمل الحقوقيين، فقد اعتبر قضاة ونخب حقوقية لعنب بلدي أن “ما يجري في هذه المحاكم هو طامة كبرى بحق القضاء، إذ لا يوجد قانون مطبق، فالقانون المعتمد هو (معيار العدالة الاجتماعية)، الذي يتمثل بضمير القاضي والشعب ورؤيتهم فحسب، فلا نصوص ولا قوانين تضبط الأحكام وإن كانت بعض هذه المحاكم، التي يكون من بين قضاتها عدد من المحامين، تلجأ لتطبيق نصوص من القوانين السورية أحيانًا، فإن ذلك ينحصر في أصول المرافعات”.

ويردف آخرون “الهيئات الشرعية، بالرغم من أخطائها، إلا أنها تعيّن قضاة تضبطهم ضوابط شرعية ولو كانوا غير مختصين، في حين أن المؤهل الوحيد الذي يحتاجه المرء ليصبح قاضيًا في محاكم الشعب هو اختيار العسكر له بغض النظر عن مؤهله العلمي أو مهنته الأساسية”، كما يرى المنتقدون بأن الإبقاء على المحاكم التي يسيطر عليها النظام مفتوحة في معظم مناطق الإدارة الذاتية يخلق مشكلات تتعلق بازدواجية المرجعية وتناقض الأحكام، إضافة لعدم قبول مؤسسات الدولة، التي يسيطر النظام على جميعها، بأحكام محاكم الشعب والوثائق الصادرة عنها.

يقول حقوقي (طلب عدم ذكر اسمه) إن “الأخطاء التي ترتكب في محاكم الشعب باسم القانون والقضاء قد تكون أكبر مما يحصل في الهيئات الشرعية، ولكن الإعلام يبدو وكأنه لا يسلط الضوء إلا على من يدعي أنه يطبق الشريعة ويتفنن بإبراز جرائمهم للعالم”.

مجلس القضاء السوري الحر يضم 85 قاضيًا يسعون للتغيير

تأسس مجلس القضاء الحر المستقل في أيلول 2012، بعد انشقاق أربعة قضاة عن النظام، هم أنور مجني (حلب)، وطلال حوشان (حماة)، وجمعة دبيس (الرقة)، وخالد شهاب الدين (حلب)، وبدأ المجلس بطرح مبادرات وهيكليات للجسم القضائي، فتشكلت أجسام استطاعت العمل مطلع 2013 وكان لها دور ملموس، لكن سرعان ما تقلص دورها بسبب الفصائل العسكرية التي ساهمت جميعها “دون استثناء” بإفشال وجود قضاء مستقل يُخضعها للمحاسبة القانونية، كما يقول مصدر حقوقي متابع لعمل المجلس منذ تأسيسه.

كيف ترى الفصائل العسكرية مجلس القضاء المستقل؟

انقسمت مواقف الفصائل العسكرية حول مجلس القضاء المشكّل، الذي يرى وجوب تطبيق القانون السوري بشكل مؤقت حتى انتهاء الثورة، إلى قسمين:

الأول، رافض لتطبيق القانون، ويتمثل في الكتائب “المتشددة”، والتي تبنت موقف رفض القانون بالمطلق ومحاربة القضاة والمحامين وأي مشروع قضائي، لأنها ترى أن القانون هو “صنع السلاطين ومطبق في البلدان الكافرة”، وترى أيضًا أن الشريعة الإسلامية لا تُقونن. وعليه قامت بتطبيق الشريعة الإسلامية غير المقوننة في المحاكم. في حين يرى حقوقيون وشرعيون أن الهدف وراء التستر بهذه الشعارات، هو الرغبة في”إحكام النفوذ والسلطة”.

والملفت أن الكتائب التي تتبنى هذا الفكر لا تعترف بمحاكم بعضها البعض، لأن كلًا منها يخالف الآخر بالمنهج والفكر، ويرى أن تطبيق الآخر للشريعة خاطئ.

القسم الثاني يقر بتطبيق القانون، ولكنه يرفض القانون السوري ويعتبره علمانيًا. ويمثّل هذا القسم الكتائب “المعتدلة”، التي تختلف بالمنهجية عن رافضي تطبيق القانون بالمطلق. ويرى هؤلاء ضرورة استبدال القانون السوري بقانون مستمد من الشريعة الإسلامية.

القاضي إبراهيم حسين: الائتلاف مسؤول عن فشل مجلس القضاء

إبراهيم حسين، قاضي سوري في مجلس القضاء السوري الحر المستقل

اعترض عمل مجلس القضاء الحر عائقين أساسيين يكشفهما لعنب بلدي أحد أعضاء المجلس والمتحدث الرسمي باسمه، القاضي إبراهيم حسين.

أولًا، عدم وجود سلطة قضائية. وتتحمل المعارضة السياسية (الائتلاف) المسؤولية تجاهه، لأنه لم يأخذ القضاء على محمل الجد ولم يبادر بإنشاء سلطة قضائية على غرار إنشائه سلطة تنفيذية متمثلة بالحكومة المؤقتة، وطالب مجلس القضاء مرارًا الائتلاف بإنشاء هذه السلطة، دون تجاوب الأخير، ما دفع المجلس لإصدار بيان رسمي بوقف التعامل مع الائتلاف.

وبهذا الصدد يعقّب معاون وزير العدل في الحكومة السورية المؤقتة، خالد الحلو، لعنب بلدي “بالرغم من تقصير الائتلاف، إلا أن الفضل ينسب له في إبقاء القضاة المنشقين عن النظام ودعمهم ماديًا، بحيث ساهموا بالحفاظ على القوانين السورية، كما قاموا بتوثيق جرائم النظام”. وهناك مساع بالتعاون مع الحكومة لإقامة مشروع لإدارة المناطق المحررة.

خالد الحلو، معاون وزير العدل في الحكومة السورية المؤقتة.

ثانيًا، غياب سلطة تنفيذية تطبّق قرارات المحكمة، وتتحمل الفصائل والكتائب المقاتلة مسؤولية ذلك “بالمطلق”، إذ لم توفر قوة عسكرية مستقلة تعمل بشكل مستقل في مرفق القضاء، إنما التفتت إلى تأسيس الهيئات الشرعية التي تتبع كل منها لفصيل عسكري.

واللافت أنّ مجلس القضاء السوري الحر المستقل موجود حتى اللحظة، واتسع ليضم 85 قاضيًا، ويرى القاضي حسين أنهم، كرجال قانون، يجمعون على رفض عمل كل المحاكم في الداخل، الشرعية منها ومحاكم الشعب، على وضعها الحالي، ويقول “إن كنا نقر بأنها أحيانًا محاكم ضرورة لكن هذا لا يعني الإقرار بأخطائها”.

ويضيف “نحن بدورنا نرى أن إحداث هذه المحاكم بهذا الشكل وبهذه الآليات وفي ظل هذه الظروف يؤدي أحيانًا كثيرة إلى التورط في جرائم حرب بحسب نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية”، مشيرًا إلى أن بعض الجهات، وإن رغبت بأخذ شرعية عملها من القوة العسكرية، فيجب ألا تستمد شرعيتها إلا من الشعب ومن الدولة، “وعليه نحن نتمسك بمبادئنا ونسعى كرجال قانون للخروج برؤية واحدة تحدد كيف ننظر لمستقبل سوريا، ونطرح فكرنا على الشعب، وعلى المنظمات المدنية، ونحشد جميعنا كمؤسسات سورية لنوصل فكرنا للكتائب ونرفض وجود القضاء على هذه الشاكلة”.

مستقبل القانون السوري في سوريا الجديدة

للقضاة رؤى تخص القانون السوري وإمكانية تطبيقه في سوريا المستقبل تتلخص، وفق حوارات ونقاشات أجرتها عنب بلدي مع عدد من المحامين والقضاة، بالتالي:

يحتوي القانون السوري على أخطاء طالب القضاة والمحامون مرارًا تصويبها وتعديلها، لأن القانون السوري من وجهة نظرهم كان رهينة للاستبداد، فقد كان يصدر رئيس النظام باستمرار تشريعات استثنائية محاولًا زيادة سلطته من خلالها، كما أن هناك نصوصًا تخالف الدستور السوري، كالقوانين الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية، والمحاكم الميدانية التي أنشئت بهدف تصفية الخصوم.

وكان القانون ينافي مبدأ فصل السلطات وبذلك يخالف الدستور السوري، وعليه طالبوا بإلغاء القوانين الاستثنائية وتعديل بعض النصوص من كتلة التشريعات السورية، لكنهم يتمسكون بالقانون كمنظومة قضائية، أي أن يكون هناك محكمة صلح وبداية واستئناف ونقض، ومجلس قضاء أعلى وقاض يعيّن بمرسوم، وقوانين تصدر عن مجلس شعب.. وغيره.

ووفق رأي القضاة كانت هناك أيضًا قضايا تعيب القضاء السوري، بآلية التطبيق وليس بالنصوص، ويتحمل مسؤوليتها النظام السوري، الذي يهدف إلى “إذلال” القضاء والسلطة القضائية، كتعيين عدد قليل من القضاة، ما يؤدي إلى تكديس الدعاوي وإدخال المراجعين في دوامة الروتين، فضلًا عن منحهم رواتب منخفضة لفتح باب الرشاوي، وكل هذه الأمور اقترح القضاة تلافيها بزيادة عدد القضاة وزيادة رواتبهم لتحقيق نزاهة القضاء والاستقلال في عمله.

 

 

المرجعيات القضائية في سوريا.. تعدد ينذر بتقسيم البلاد

القانون السوري.. هل يحفظ تطبيقه وحدة الأراضي السورية؟

تطبق المحاكم في المناطق السورية المحررة ثلاث مرجعيات قضائية تقسم البلد قانونيًا، ما يدفع حقوقيون إلى المطالبة بتوحيدها جميعًا تحت ظل القانون السوري، وإلا سيكون هذا التشرذم ممهدًا للتقسيم السياسي.يكون استصدار واعتماد قانون وتطبيقه في أي مجال داخل حدود دولة من صلاحيات البرلمان، ويقره رئيس الدولة ليصبح نافذًا، لكن في الحالة السورية الراهنة وفي ظل الحرب لا توجد جهة سياسية تتوافق عليها جميع الأطراف لتمتلك الشرعية بإقرار القانون المطبق في البلاد.

لهذا يرى القضاة المنشقون عن النظام أنّ “القانون السوري هو الوحيد الذي حاز على شرعية مسبقة من الدولة السورية ومن الشعب السوري، وعليه يجب الإجماع حاليًا على تطبيقه للحفاظ على وحدة الأراضي السورية، المهددة بالتقسيم، والتي بحال اعتمدت على مرجعيات قانونية مختلفة سيؤدي ذلك إلى تقسيمها قانونيًا، كخطوة تسبق التقسيم السياسي”.

لكن، ووفق رأي القضاة، يظهر على الساحة السورية اليوم من يرفض تطبيق القانون معتبرًا إياه “صنيعة النظام”، بالرغم من أنه وضع بين عامي 1945 و 1951، أي قبل مجيء حزب البعث إلى الحكم.

من يطالب بتطبيق القانون السوري حاليًا؟

يطالب مجلس القضاء السوري الحر المستقل والقضاة المنشقون عن النظام، بالإضافة إلى عدد كبير من الحقوقيين السوريين بالإبقاء على القانون السوري في المرحلة الحالية، لأنه القانون الوحيد الذي اكتسب الشرعية من الشعب السوري والدولة السورية، وبسبب معرفة الناس له، فقيمة القانون تكمن بالعلم به بين الناس ونشره، وطالما أن الوضع السياسي متغير باستمرار في سوريا، والقوى المسيطرة تتغير، فلا يمكن تغيير القانون كلما سيطر فصيل جديد على المنطقة، أو استردها النظام مثلًا أو سيطر عليها تنظيم الدولة.

لكن طرفًا آخر يرى في القانون الحالي مخالفته للشريعة الإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق الحدود الواردة في قانون العقوبات، مع العلم أن قانون العقوبات لا يشكل إلا 2% من كتلة التشريعات السورية، كما يؤكد القاضي أنور مجني، وعليه؛ فإن من يطالب بإلغاء القانون السوري تحت هذه الذريعة فهو يطلب “إلغاء البلد بالكامل من أجل هذه الجزئية”.

يقول مجني إن “إقامة الحدود تُعطل بالمفهوم الشرعي في حالة الحروب، ويحتاج لتطبيقها ولي الأمر، إذن من يعترض على القانون يقر بأن قانون العقوبات لن يكون سببًا للخلاف في المرحلة الحالية”.

ويعقّب القاضي إبراهيم حسين “في حال وجود مخالفة صريحة في بعض نصوص القانون السوري للشرع الإسلامي، يتم توقيف العمل بها، استنادًا للدستور السوري الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”.

أما القانون المدني فهو بالمجمل لا يخالف الشريعة الإسلامية، ويوضح ذلك القاضي خالد الحلو، معاون وزير العدل، بقوله “إن القانون المدني السوري هو تطور لفهم عميق للشريعة الإسلامية، بحيث جاء نتاجًا للتطور البشري وخلاصة لأهم ما جاء في أمهات الكتب للمذاهب الإسلامية الأربعة”.

هيثم المالح، رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف الوطني السوري.

وعلى رأس من يطالب بالتمسك بالقانون السوري، الحقوقي هيثم المالح، ويقول لعنب بلدي “لا يجوز إقرار قانون جديد في الدولة السورية ونحن في حالة حرب، ولا يحق لأي جهة عسكرية كانت أو سياسية أن تقر قانونًا في هذه المرحلة، لأن من يحدد قانون الدولة هو البرلمان أو المجلس النيابي، ولو تركنا لكل جهة أن تشرّع لنفسها لوجدنا فوضى وخليطًا من القوانين”، وبرأي المالح يجب الانتظار حتى يأتي مجلس منتخب وهو يصدر القوانين المناسبة.

ويؤكد المالح أن “العاملين في حقل التشريع لو رغبوا بالعمل الجاد والنافع لبلدهم، عليهم تشكيل لجان لدراسة جميع القوانين وتعديلها بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، والتنسيق في العمل مع الحقوقيين وذوي الخبرات لتحقيق شرعية اللجان، وتحضيرها للمستقبل بحيث تعرض على أول برلمان منتخب فإذا أُقرت تصبح نافذة”.

أصل القانون السوري:

أصول القوانين السورية كلها غربية، وضعت ما بين عامي 1945-1951 بما فيها القوانين المدنية وقوانين العقوبات وقانون الإجراءات، ما يعني أنها جميعًا وضعت قبل مجيء حزب البعث، والقانون المدني السوري يطبّق أيضًا في لبنان ومصر.

الشريعة الإسلامية.. بعض الفصائل العسكرية ترفض المرجعيات وتصرّ على اعتمادها

ترفض فئة من الفصائل الموجودة في سوريا وجود مرجعية قانونية للقضاء، منادية بالاحتكام إلى الشريعة الإسلامية فقط دون سواها، كما ترفض وجود نصوص ودواوين يرجع لها القضاة، وهو ما يدرجونه تحت مسمى “الشريعة لا تُقونن”، وإنما برأيهم يُصدر كل شرعي الأحكام وفق رؤيته وبحسب قراءته للشريعة، ويقوم بالاستنباط في الأمور التي تحتاج اجتهادًا.

وهذا ما يعتبره شرعيون “جهل وترفّع كبير وفوقية مبالغ بها”، إذ إن أولئك يرفضون بذلك علم وجهود كل علماء الأمة وفقهائها على مر التاريخ، في هذا الصدد يقول لعنب بلدي الدكتور زكريا ملاحفجي،  الباحث المتخصص في التاريخ والفكر، إن الأصل في القوننة هو “تدوين الناس الأكفاء لخلاصة خبراتهم في الاجتهاد ليتركوا إرثًا (لمن بعدهم من طلاب ومتدربين غير أكفاء للاجتهاد) من نصوص وتجارب تشكل مرجعية لهم”.

أما عن تاريخ القضاء في ظل الدولة الإسلامية فيوضح الملاحفجي “على مر التاريخ الإسلامي كان (الاجتهاد) في القضاء يفوّض له من هو بمقام أبي حنيفة أو من هو مكافئ له بالمستوى العلمي، وليس أي طالب علم مؤهلًا للاجتهاد والاستنباط من الشريعة، ولاحقًا في عصر الدولة العثمانية صدرت (مجلة الأحكام العدلية) في عصر السلطان عبد المجيد، شارك في كتابتها كبار العلماء، واعتمدتها الكثير من الدول العربية الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت مرجعًا قضائيًا لها، وذلك لا يعتبر تعدٍّ على الشريعة الإسلامية، وإنما هو تدوين وقوننة من أجل ضبط من قلّت كفاءته، وحتى تكون كل الأحكام واضحة أمام القاضي.

 

يعلّق على هذه الجزئية خالد الحلو، معاون وزير العدل في الحكومة المؤقتة “إنّ الأصل في القانون معرفة الناس له، وقيمته تكمن في نشره بين الناس، ولا يصح تطبيقه على الناس قبل أن يُنشر في وسائل الإعلام المتاحة في البلد، بحيث لا يمكن أن يُحكم أي إنسان بحكم لا علم له بعقوبته مسبقًا، فقد قال تعالى “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا”.

عضو المجلس الإسلامي السوري: لا يوجد في الساحة السورية اليوم علماء مؤهلون للإفتاء

ويرى عبد الله العثمان، عضو مجلس الأمناء في المجلس الإسلامي السوري، ضرورة الالتزام بقانون موحد، لأن تعدد الفتاوى وأحكام العلماء والمذاهب الأربعة توجب توحيد النصوص القضائية لإحقاق العدل وعدم تناقض أو تعدد الأحكام.

كما يرى المجلس جواز قوننة الشريعة الإسلامية بأحكام وفتاوى كانت خلاصة لعلوم الفقهاء واجتهاداتهم على مر التاريخ، ولا يوجد في الساحة السورية اليوم علماء مؤهلون للإفتاء. وما كانت مجلة الأحكام العدلية التي أنتجتها نخبة من العلماء في العهد العثماني إلا نموذجًا للتقنين الذي نؤيد جوازه.

ويُجمع علماء المجلس الإسلامي السوري وغالبية القضاة والشرعيين في الداخل على اعتماد القانون العربي الموحد، المستمد من الشريعة الإسلامية بنسبة 90% ولا يخالفها في النسبة المتبقية وإن كانت غير مستمدة من الشريعة، ويكون تطبيق هذا القانون تحت مظلة جامعة الدول العربية.

القانون العربي الموحد.. مطالب بتطبيقه كحل وسط بين القانون السوري والشريعة

من اجتماعات الجامعة العربية (إنترنت)

يرى مؤيدو تطبيق القانون العربي الموحد (أمثال المستشار خالد شبيب والقاضي أسامة اليتيم والشيخ خالد السيد) أنه مخرج ذكي لمشكلة اختلاف الجميع في الداخل السوري على المرجعية القانونية ورفضهم للقانون السوري، وهم جميعًا يرون أن تطبيقه يرضي من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية من جهة، ومن يطالب بتطبيق قانون عصري من جهة أخرى، كما يرون أن المحاكم التي ستطبقه لن توصف بالإرهاب، لأنه معتمد في جامعة الدول العربية.

في حين يرد من يرفض تطبيق هذا القانون بأنه ليس قانونًا جاهزًا للتطبيق، وإنما هو مشروع قانون تم إعداده في الجامعة العربية، الهدف منه قوننة قواعد الشريعة الإسلامية، لتكون مصدرًا يحوي قواعد عامة، بمثابة مرجعية تُسن منها القوانين مستقبلًا، ولم تجر المصادقة عليه أو تطبيقه في أي دولة عربية حتى الآن، وهو عبارة عن أربعة كتب تتكلم فقط عن 5% من كتلة التشريعات الموجودة في القانون السوري، وحتى الجزئية التي شملها القانون العربي الموحد لا تتضارب مع الأخير.

ويرى الحقوقي هيثم المالح أنه “لا يوجد في سوريا اليوم من يمتلك الشرعية لإصدار قانون جديد واعتماده، ومن يصدر أحكامًا جديدة غير معمول بها سابقًا، في ظل هذه الظروف التي تعيشها سوريا من عدم استقرار وعدم وجود برلمان منتخب أو أركان دولة، سيكون عرضة للمساءلة القانونية”.

نماذج القضاء وشكل القوانين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري

درعا.. نموذج القضاء وشكل القوانين فيها بعد التحرير

بدأت دُور القضاء في حوران على شكل هيئات شرعية مصغرة في القرى والمدن والقطاعات، فكانت باكورة تلك الهيئات: الهيئة الشرعية في القطاع الأوسط، ومحكمة الطيبة، ثم محكمة الجيزة والمسيفرة، ثم استقر الأمر على وجود ثلاث محاكم في وقت واحد (محكمة غرز، ومحكمة الكوبرا التابعة لجبهة النصرة، ومحكمة جلين التابعة لحركة المثنى الإسلامية)، وشكلت هذه المحاكم مجتمعة فيما بعد، مع غيرها من الفصائل المستقلة، “محكمة دار العدل”، وهي المحكمة الوحيدة حاليًا في حوران.

وبحسب رئيس المحكمة، القاضي أسامة اليتيم، “كان أداء المحاكم آنذاك يتسم بالضعف القضائي والازدواجية في القضاء، نتيجة تعدد المحاكم، واتسم في الوقت ذاته بالقوة في تنفيذ الأحكام بسبب تبعية كل محكمة لفصيل قوي، إلى أن انطلقت دار العدل في 10 تشرين الثاني 2014، ويقوم عليها شرعيون وحقوقيون وإداريون مستقلون لا يتبعون لأي جهة داخلية أو خارجية، وتعتمد في تمويلها على التبرعات من بعض الفصائل، ولا يوجد أي تواصل بينها وبين الحكومة المؤقتة”.

مرجعية دار العدل القضائية في حوران

في بداية تأسيس دار العدل لم يكن هناك قانون معتمد، وإنّما مذكرات قضائية اتُفق عليها، ومواثيق المحاكم التي تم اعتمادها، أما حاليًا فقد تم اعتماد القانون العربي الموحد كأهم مرجع للتقاضي، وسيتم العمل عليه قريبًا وفق اليتيم.

الكتائب العسكرية تحاول إفشال دار العدل بعد تحرير درعا

سعت دار العدل لأن تكون مستقلة بشكل كامل عن هيمنة الكتائب المقاتلة، ولكنها اضطرت لمراعاة هذه الكتائب، لأن “إقامة العدل ورد المظالم” يعتبر قضية تشاركية بين المحاكم والفصائل في حال غياب مؤسسات الدولة. وبقي حتى الآن دور الفصائل سلبيًا في عمل دار العدل، ويتمثل بعدم تعاونهم معها في تنفيذ قرارات الحكم، وفي ضعف الاستجابة للقرارات، وفي عدم تمويل القضاء الذي يحتاج إلى تكاليف باهظة ليقوم برسالته على أكمل وجه، وفق شهادة القاضي أسامة اليتيم.

وفي مجال التوقيف والإحضارات، أكد اليتيم أن المسؤول رسميًا عن ذلك هي دار العدل، إذ لا يتم الإحضار إلا بمذكرة رسمية، ويوجد لدى المحكمة قوة تنفيذية متخصصة بالإحضارات. لكن بعض التجاوزات تحصل من قبل بعض الفصائل بسبب الاضطرابات الحاصلة فتقوم بالاعتقال من تلقاء نفسها.

دار العدل في حوران من أنجح التجارب في القضاء على مستوى سوريا

تعد حداثة التجربة القضائية في جميع المناطق المحررة من أهم العقبات التي تواجه المحاكم، بالإضافة إلى كثرة “النوازل” التي تحتاج إلى قضاة أكفاء، وهو الأمر الذي يحتاج إلى فترة طويلة من الاستقرار والتأهيل المستمر، إضافة إلى عدم وجود القوة الشرطية الكافية لضبط الأمن وتنفيذ قرارات الحكم، إلى جانب ضعف التمويل الذي يقتصر بمجمله على بعض التبرعات.

ووفقًا لشهادة الكثير من الحقوقيين، تعتبر دار العدل في حوران من أنجح التجارب في القضاء حتى اللحظة على مستوى سوريا، ويقوم العاملون عليها بمأسسة القضاء حتى يكون نواة لوزارة العدل في سوريا المستقبل.

وقد حازت دار العدل على المركز الأول بالتشارك مع القضاء الموحد في الغوطة الشرقية، في مؤتمر الهيئات القضائية الذي جرى مؤخرًا في مدينة الريحانية التركية، وتم تكريم الدار بالموافقة على إنشاء معهد لإعداد القضاة، والذي يجري الإعداد له حاليًا.

القضاء في حلب يعجز عن التحرر من هيمنة العسكر

تداعى لتشكيل مجلس القضاء الموحد مجموعة من المحامين الأحرار والقضاة المنشقين عن النظام والشرعيين من الكتائب الموجودة في حلب بداية تحرير المدينة في العاشر من تشرين الأول 2012، وكان الهدف من المجلس توحيد المرجعية القضائية ومنع تعدد المحاكم وتطبيق قانون واضح ودقيق لا تضيع فيه الحقوق، وبإجراءات سريعة تتجنب الروتين في قضاء النظام وتراعي الواقع وتبتعد عن الفساد والبيروقراطية.

وضمّ المجلس في ذلك الوقت أغلب المحاكم الموجودة في ريفي حلب وإدلب، واقترح القائمون عليه عند تأسيسه تطبيق القانون السوري بما لا يخالف الشريعة الإسلامية، ومن ثمّ اتفق المجلس الأعلى في القضاء الموّحد، وبعد التشاور مع كل القوى والمختصين على تطبيق القانون العربي الموحد المستمد من الشريعة الإسلامية.

وضمّ مجلس القضاء الموحّد المحاكم التالية: المحاكم الشرعية التي تختص بالأمور الشرعية (الزواج، الطلاق، النّسب، النفقة،..) والمحاكم المدنية الخاصة بأمور البيع، الإيجار، الرهن، المنازعات التجارية، ….)، والقضاء الجزائي الخاص بالنظر في الجرائم، سواء بين المدنيين أنفسهم أو بين المدنيين والعسكريين أو بين العسكريين أنفسهم.

“العلمانية” تهمة لاصقت المجلس وكانت سببًا لحله

حاربت أغلب التشكيلات العسكرية “المتشددة” المجلس، بالرغم من وجودها في المشاورات الأولى لتشكيله، كونه يطبق قانونًا محددًا، إذ كانت تلك الكتائب ترى أن الشريعة لا تقونن، وكانت تعتبر المجلس “علمانيًا”، وكان هذا لُب الخلاف بين المجلس والكتائب، في حين يرى حقوقيون وشرعيون أن الهدف الحقيقي وراء محاربة الكتائب لعمل المجلس هو دافع النفوذ والسلطة من حيث الاستحواذ على القضاء، وأوّل من انسحب من المجلس يوم التشكيل كان لواء التوحيد ولواء الفتح، القوتان الأكبر عسكريًا في حلب حينها، وفق شهادة أحد العاملين بالمجلس. وعندما تدخّلت بعض الكتل السياسية أو العسكرية التابعة لها، بعمل مجلس القضاء الموحّد، بدأ الفساد والمحسوبيات يتغلغلان في عمل المحاكم والقضاء، في هذا الوقت اعتبر الشرفاء أن المجلس بدأ بالانهيار.

وساهم أيضًا بانهيار المجلس تدخل الشرعيين في العمل القضائي، وخاصة الإجراءات القضائية التي لا يملكون الخبرة فيها، ما أدى إلى عدم ثقة الناس بالمجلس ومحاربة أغلب الكتائب له، وتمّ إطلاق رصاصة الرحمة عليه في تشرين الأول عام 2013 من قبل تجمع “فاستقم كما أمرت”.

هيئة محامو حلب الأحرار ومهمة إنقاذ الأضابير القديمة

تأسست الهيئة في تشرين الأول 2012، وهي منظمة ثورية حقوقية تضم المحامين الأحرار، وتُعنى بالدفاع أمام المحاكم عن المتداعين. وكان لهذه الهيئة بصمة واضحة بكل تشكيلات حلب ونشاطاتها. كما كان لها الفضل بالاحتفاظ ما أمكن إنقاذه من الدعاوى والأضابير القديمة وأرشفتها إلكترونيًا.

وعندما تأسس مجلس القضاء الأعلى في تموز 2015 في حلب، وقّع محامو حلب وثيقة أساسية ناظمة للعمل معه تقضي بتفعيل عمل المحامين كوكلاء في المحاكم التابعة للمجلس، بحيث تحوي كل محكمة مكتبًا للمحامين الراغبين بالمرافعة أمام المحاكم.

الفساد وانسحاب الفصائل القوية ينهي عمل الهيئة الشرعية

بعد انسحاب لواء التوحيد ولواء الفتح والتشكيلات “المتشددة” من مجلس القضاء الموحّد، شكلوا ما يُعرف بالهيئة الرباعية، وهي الهيئة الشرعية في 15 كانون الأول 2012، وضمت أيضًا أقوى الفصائل حينها من حركة أحرار الشام وحركة الفجر الإسلامية وجبهة النصرة ولواء التوحيد، وبدأ عملها بالتوسع فافتُتحت أفرعًا لها في كل من حي الفردوس والسكري وحريتان والباب واعزاز وعندان، وامتدت أيضًا إلى ريف إدلب، في بنش وباب الهوى وسرمدا، وكانت تعتبر الهيئة الشرعية في حلب الهيئة الأم وباقي الهيئات أفرع تابعة.

تعتبر الأشهر السبعة الأولى هي الأفضل بالنسبة لعمل الهيئة الشرعية وفق شرعيين عملوا بها، وبعد ذلك بدأت تسوء وتشربت الفساد، وبالأخص عندما انسحبت فصائل قوية منها.

ما أهم أسباب ضعف الهيئة الأم؟

تناوُب الفصائل العسكرية على رئاستها لفترات زمنية محددة، كان أهم أسباب ضعف الهيئة الشرعية. ويرى حقوقيون أن تشكيل مجلس شورى من جميع الفصائل كان أضمن لعمل الهيئة بشكل مؤسساتي، ولتسيير أمورها بمسار واحد متوازن.

تولّي الشرعيين مناصب القضاة في أغلب الأحيان بدلًا من الحقوقيين، وعدم امتلاكهم الخبرة في الإجراءات القضائية، كان سببًا آخر، بالإضافة إلى فساد بعض “المحامين الأحرار” ممن كانوا يعملون داخل الهيئة، ما أثّر على سمعتها وهيبتها بين الناس، ودفع العديد من الكتائب لمحاربتها.

استشراء الفساد في الهيئة وتغيير اسمها لم ينقذاها

انهار تشكيل الهيئة الشرعية في تشرين الثاني 2014، وتغير اسمها ليصبح المحكمة الشرعية، وحاول رئيسها الجديد، عبد القادر الفلاس، تخصيص عملها في مجال القضاء فقط، في حين نقل باقي المكاتب الخدمية منها (التموين، البنى التحتية، التعليم، التخطيط، الصيانة، وغيرها من الأمور الخدمية ) إلى مجلس محافظة حلب، لكن أداء المحكمة لم يتحسن من ناحية الفساد، وإنّما ازداد سوءًا بسبب سيطرة الكتيبة الأمنية التابعة للجبهة الشامية على عملها، وتدخل الأمنيين في أعمال القضاء، وفق قاضٍ عمل مع الهيئة الشرعية ورفض الكشف عن اسمه.

مجلس القضاء الأعلى ومهمة رفع سوية القضاء في حلب

أُعلن عن تشكيل مجلس القضاء الأعلى في حلب 30 تموز 2015، ما دفع الكثير من الحقوقيين للتفاؤل به كخطوة جديّة تسعى لرفع سويّة القضاء وتوحيد مرجعية قانونية له، وتحقيق استقلاليته ونزاهته.

وتشكل مجلس القضاء من عدد من المحاكم، بحيث يكون نواةً مركزيةً تجمع هذه المحاكم، وتُنظّم العمل فيما بينها. يتحدث الشيخ خالد السيد، المتحدث الرسمي باسم المجلس، لعنب بلدي عن بنيته بالقول “هو شخصية مستقلة بذاته، يُشرف على تنظيم أعمال القضاء، وتنظيم أعمال المحاكم القضائية والإدارية، ويكون مرجعية قانونية لهذه المحاكم ويضع قوانين الإجراءات التي تلتزم فيها”.

لكن مواطنين يرون أن المجلس بالإجمال يتبع لحركة نور الدين الزنكي، كونها من أقوى الفصائل العسكرية في حلب، ومع ذلك هو “خطوة متقدمة للأمام” في سير القضاء بالمناطق المحررة، وفق رأي عدد من الحقوقيين، وأفضل من أداء الهيئة الشرعية السابقة.

واعتمد مجلس القضاء الأعلى، القانون العربي الموحّد كمرجعية للقضاء، كما اعتمد قانون الإجراءات الذي اعتمده القانون العربي الموحّد.

وفيما يخص هيكلية المجلس فتتحدد العلاقة بين المحاكم ومجلس القضاء في آلية التمثيل، ويوضح الشيخ السيد هذه الآلية، “يكون رئيس محكمة الاستئناف من كل محكمة مركزية عضوًا بمجلس القضاء الأعلى، وهذا الشكل في التمثيل يجعل كل محكمة تتواصل مع مجلس القضاء بشكل مباشر، بالإضافة إلى مكاتب المجلس التي تتمثل في: مكتب الرئيس، ومكتب نائب الرئيس، ومكتب التفتيش القضائي، ومكتب الدراسات ومكتب النائب العام”.

ويعقب السيد قائلًا “مسؤولية مكتب التفتيش القضائي هي مراقبة أعمال المحاكم من خلال الجولات عليها، واستقبال شكاوى المتظلمين، أما مكتب الدراسات فيبحث في القضايا المستجدة، ويعالجها وفق الرؤيا الشرعية والقانونية، ويصدر تعاميم على المحاكم لتوحيد العمل بها”.

ويسعى مجلس القضاء بالدرجة الأولى لتحقيق “استقلالية مالية” عن الفصائل والكتائب والداعمين في الداخل ممن يتحكم في القرار، بغية الوصول لجسم قضائي مستقل بذاته” وفق خالد السيد، الذي يعقّب “يبقى التمويل هو من أهم العقبات التي تواجه المجلس”.

موقف الجيش الحر من مجلس القضاء الأعلى في حلب

أبدت غالبية كتائب الجيش الحر، ممن تتوافق منهجيًا مع فكرة توحيد القضاء تحت راية قانون موحّد، تعاونها مع مجلس القضاء الموحد، وكذلك انضمت غالبية المحاكم إلى المجلس، إلا من عارضته منهجيًا، مثل محكمة حريتان التابعة لدور القضاء الخاص بجبهة النصرة، أو من رفضت التنسيق بسبب ضعف الموارد والدعم له.

وتستمر مساعي القضاء الموحّد للحد من ممارسات الكتائب وانتهاكاتها من عمليات الاعتقال والتحقيق والتعذيب، كما يوضح خالد السيد:

برنامج إصلاحي للسجناء في حلب

يطبق القضاء الشرعي في حلب برنامجًا إصلاحيًا للسجناء، يشرف من خلاله على كافة السجناء، بهدف توعيتهم و إصلاحهم.يتحدث عن هذه التجربة القاضي مضر رضوان، رئيس محكمة الاستئناف، في تصريح لجريدة عنب بلدي، موضحًا أن ” هذا البرنامج يشمل كافة السجناء دون استثناء، وأهمية الإشراف تزداد لأصحاب العقوبات الأشد”.

بدأ تطبيق برنامج إصلاح السجناء منذ سنة بإشراف الشيخ حازم أبو الجود، والهدف وفق  القاضي رضوان، “الإصلاح.. والغاية من العقوبة الزجر وإصلاح النفس والاجتهاد على المجرمين ليكونوا أفرادًا صالحين في المستقبل”.

ويتولى الإشراف على البرنامج الإصلاحي مجموعة من طلبة العلم والدعاة، إذ يوجد في القضاء الشرعي “مجموعة من المشرفين، تخصص كل منهم ببرنامج في القرآن والفقه والحديث، وتبيان الجرم الذي ارتكبه، وتوضيح حرمته، والعقوبة التي أعدها الله لجرمه”، يقول رضوان.

كما يتضمن البرنامج تقييمًا لسلوك السجين يؤثر على مدة حكمه، يوضح القاضي رضوان “هناك من يعتني بالقرآن خاصة، والأخلاق، كي يتحسن سلوك المجرم، ويشهد عليه رفاقه والسجانون لتؤخذ سيرته الحسنة بعين الاعتبار فتخفف عنه مدة محكوميته”.

تتيح إدارة السجن للسجناء التعلم، فمن كان جاهلًا تُجرى له دورة محو أمية، مع وجود خطة مستقبلية لتعليمه مهنة أو حرفة، تسعى إدارة السجن لتطبيقها كخطوة تالية إن توفرت الإمكانيات، وفق القاضي، الذي يعقّب “يحظى السجين بساعة أو ساعتين من الترفيه يحتوي السجن صالة رياضية فيها طاولة بينغ بونغ وطاولة بلياردو، كمكافأة لمن يلتزم بدروسه”.

يؤكد القاضي رضوان في نهاية حديثه، أن فكرة الإصلاح للسجين كانت من بنات أفكار قضاة المحكمة، وأنهم يرونها فكرة ناجحة، لأن الحد من الجريمة لا يكون إلا بالتوعية والثقافة.

 

الغوطة الشرقية وبداية التأسيس لقضاء مستقل بعد التحرير

قبل تحرير الغوطة الشرقية، انتشرت الفوضى وعمليات الخطف والاغتيالات، بسبب تراخي سيطرة النظام وانسحابه من بعض المدن، إثر ذلك بدأت المرحلة الأولى للقضاء في منتصف 2012، وكانت عبارة عن مجموعة من القضاة والمحامين يذهبون إلى مقرات الثوار ويطالعون الضبوط ويستجوبون المتهمين لمحاكمتهم، وهذه الفترة اعتراها الكثير من الفوضى في العمل، بسبب كثرة أسماء الفصائل وخلافاتها، وقيام بعض العسكريين بمحاكمة الموقوفين ارتجالًا دون عرضهم على القضاء، وقد يصل الحكم إلى إعدام المتهم.

يصف حقوقيون هذه الفترة بالعصيبة في مسيرة القضاء، إذ تعددت مرجعيات السلطة، الأمر الذي تمّ تداركه لاحقًا بتشكيل القضاء الموحّد والقيادة العسكرية الموحّدة.

وبالرغم من مساوئ المرحلة بسبب الفوضى، إلا أن عمل القضاة فيها حدّ الكثير من عمليات الخطف والاغتيال، والإعدامات دون محاكمة.

وبعد التحرير، تشكلت الهيئة القضائية لمجلس الشورى، أواخر 2012، وتمّ تقسيم المحاكم حسب الاختصاص وأصبح القضاء أكثر مهنيّةً، وعُيّن عدد من المحامين الخريجين كقضاة، وفق قاض متخصص في الغوطة الشرقية يدعى “أبو يوسف”.

ويقول أبو يوسف “واجه القضاة في تلك الفترة صعوبة التنظيم، بحيث لم يكن بينهم قاض سابق، فكانوا يرتجلون الإجراءات بشكل يتماشى مع المرحلة وضروراتها، أما الأحكام فكانت تمر على القانونيين والشرعيين قبل إصدارها لاستيثاق انطباقها على الشريعة، فيصدرها القاضي الحقوقي باسمه ولو خالفت رأي أحد المشايخ، وفي حال دار خلاف علمي بين المعنيين في المسألة يُعيّن قاض ثالث ليفصل في المسألة المختلف فيها”.

مصير الأضابير والدعاوى في الغوطة على وقع القصف

قبل التحرير بستة أشهر، نقل النظام محاكم دوما والغوطة وجميع الدواوين إلى مدينة التل، وبالتالي نقلت أغلب الأضابير الحديثة وبقي في مستودعات المحاكم الأرشيف فقط، وهو كمّ هائل من الأضابير القديمة، تعرّض جزء منها للتلف بسبب القصف والدمار وبعضها أصابه البلل.

لكن مجلس الشورى كلف بعض الإداريين الخبراء بالعمل على تنظيفها وأرشفتها مجددًا، ونُقلت لمكان آمن، ووضعت تحت سيطرة الهيئة القضائية.

القضاء الموحّد في الغوطة والاستقلال عن الكتائب العسكرية

تأسس القضاء الموحّد في منتصف 2013 وتم تفعيله بإيقاف جميع المحاكم الأخرى في الشهر العاشر من العام نفسه. يُعتبر القضاء الموحّد، وفق القاضي أبو يوسف، “مستقلًا عن هيمنة أي من الكتائب، وتُعتبر عدم تبعيته لأحد أصلًا من أصوله، حيث استفاد عند تأسيسه فقط من تفويض العسكريين مجتمعين لهذا القضاء. أما التبعية الإدارية فهي (ككل دول العالم تتبع مباشرة للسلطة الحاكمة)، ممثلةً هنا بمؤسسة القيادة العسكرية الموحدة التي تشكلت من اجتماع الفصائل ضمن غرفة واحدة موسّعة وفيها ممثل عن ثلاثة فصائل وحيدة موجودة في الغوطة، وهي جيش الإسلام وفيلق الرحمن والاتحاد الإسلامي”.

ويشير أبو يوسف إلى أنّ “القضاء اليوم لا يهتم بصفة العسكري، فعند القاضي؛ الخصوم متساوون، لكن يوجد استثناء وحيد للعسكري في قانون الإجراءات وهو التبليغ والإحضار، الذي يُعطَل بسبب ضرورة العمل على الجبهات واشتداد القتال مع العدو في أغلب الأوقات، بحيث يُبلّغ الفصيل بدلًا من المجاهد”.

ما مؤهلات قضاة الغوطة؟

يُعيّن القاضي في حال حصوله على شهادة حقوق على الأقل، واستثني من ذلك عدد قليل من دارسي السنوات الأخيرة في الحقوق وغير الخريجين بسبب ضغوط العمل، ولا يُقبل الشرعي في منصب القضاء أبدًا، بعكس ما حاولت الضغط به بعض الكتائب قديمًا، “لتختبئ وراء الخلاف في مناهج الشرعيين”، كما يقول أبو يوسف لعنب بلدي.

القانون السوري مرجعية قضائية مع بعض التحفظات

يشير أبو يوسف إلى أن “المرجعية القانونية في القضاء الموحد هي القانون السوري”، مع حذف كل ما يتعارض صراحة مع تشريع إسلامي أصيل، أما “إن عارض اجتهادًا فقهيًا وإن كان راجحًا فلا يُحذف بل يُؤخذ بما بني عليه من الدليل وإن كان ليس رأي الجمهور”.

وتختلف التعديلات بين أقسام المحاكم، فمثلًا “المحاكم المدنية والشرعية لا تخالف أحكام القانون السوري كثيرًا لأنها في الأصل مستقاة من الشريعة الإسلامية بشكل كبير”.

ووفق أبو يوسف “بالنسبة للقانون الجزائي فالأمر مختلف، لأن توصيف بعض الجرائم لم يكن صحيحًا في القانون السوري، كجرائم اللواط والزنا وبعض أنواع السرقات وعقوباتها، مع الأخذ بعين الاعتبار الدراسات التي قدمتها الهيئات الشرعية في الداخل ومراكز البحث العلمي الإسلامي في الخارج لجهة إيقاف الحدود الشرعية في حالة الحرب، وعدم تطبيقها على الجرائم وهذا أصبح من النظام العام الذي لا يمكن مخالفته”.

ويضيف “في حال وقوع أي خلل في الحكم، أو ارتباك من ناحية التأصيل والتسبيب القانوني والشرعي، فإن القضاء الموحد يحيل الموضوع إلى المختصين الباحثين في قسم الدراسات في الهيئة الشرعية العامة، وهي تقوم بتقديم بحث خاص في المسألة المختلف عليها، ويعود الرأي أخيرًا للقاضي حسبما يرجح عنده من الأقوال وقناعته هي التي تحكم في النهاية”.

ولضمان عدم وقوع القاضي في أخطاء لجهة الحكم الصحيح، يؤكد أبو يوسف أنه “تم تشكيل آلية الطعن وفيها يتاح للمتخاصمين الطعن في قرار القاضي لجهة تسبيبه أو عدم إعطاء حق كامل للدفاع أو مخالفة الإجراءات الضامنة لحسن سير القضاء”، مشيرًا إلى أن قانون الإجراءات السوري معتمد أيضًا مع بعض التعديلات التي تحكمها ظروف الحرب”.

آلية متطورة للاعتقال والإحضار في الغوطة

تتولى قيادة شرطة الغوطة الشرقية مهمة الاعتقال والإحضار، وقبل تشكيلها كانت هناك مديريات المناطق، ويُمنع على العسكريين تنفيذ أي اعتقال أو تبليغ باستثناء القضايا الأمنية، فللمكتب الأمني الحق في متابعتها، بشرط الحصول على مذكرة قضائية قبل أي اعتقال.

القضاء يغيب عن الغوطة الغربية واعتماد الشريعة في القلمون

لا يوجد قضاء قادر على استلام زمام الأمور في الغوطة الغربية، حيث شهدت المحاولات فيها عدة مشكلات، منها اشتباكات مسلحة بين الفصائل واعتقالات تعسفية للنشطاء دون وضع حد لذلك.

كانت بعض المشاكل تُحل عن طريق وسطاء من وجهاء وقادة فصائل، لكن في المجمل لا وجود للقضاء. لا سيما أن الوضع في الغوطة الغربية يختلف عن باقي المدن من حيث قلة الخلافات والمشاكل التي سرعان ما تُحل.

تنقسم الفصائل في الغوطة ما بين “متشدد” ومعتدل، ويعتبر قضاء “تحالف الراية الواحدة” التابع لجبهة النصرة هو الأقوى نسبيًا من بين الأجسام القضائية المتعددة والصغيرة والمتهالكة بالضعف، وفق ناشط بارز في معضمية الشام.

محاكم متشرذمة وضعيفة في القلمون

عندما أُعلن عن تحرير القلمون نهاية 2011 تشكل المجلس المحلي في القلمون الغربي، وشكل المجلس المحكمة الشرعية في بداية 2012، لكن وبعد ظهور تنظيم الدولة تشكلت محاكم لجبهة النصرة مع الجيش الحر، أما القانون المطبق فكان يعتمد الشريعة الإسلامية مع رفض تطبيق أي قانون آخر، كما يقول ناشط في يبرود رفض نشر اسمه.

وبقي الوضع على حاله، فصائل متفرقة، خاصة بعد استعادة النظام لأغلب القرى والبلدات، إذ لم يبق محررًا سوى الزبداني وبعض جرود القلمون.

وفي القلمون الشرقي، تشكل المجلس المحلي منتصف 2012، وشكلت فصائل المنطقة بعد ذلك المحكمة الشرعية، وكانت جميع المحاكم تخضع لحكم العسكر، ولا تطبق قانونًا معينًا، وإنما تعتمد على تطبيق الشريعة الإسلامية، وفق ناشط بارز.

وعود من جيش الفتح في إدلب لتوحيد المرجعية القضائية

أنشئت في سراقب أول محكمة شرعية بعد تحريرها مباشرة لسد الفراغ القضائي، وتشكلت بجهود محامين وعلماء دين في المنطقة، في حين استمرت المحكمة التي تتبع للنظام بعملها في المدينة بعد التحرير، لكن دورها ضعف وفقدت قوتها التنفيذية واقتصر عملها على تسيير الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وغيرها من الأمور المدنية، وهذه المحكمة مستمرة بالعمل حتى اللحظة وهي الوحيدة في ريف إدلب التي استمرت بالعمل والتابعة للجهاز القضائي في النظام السوري.يشهد حقوقيون التقتهم عنب بلدي للمحكمة الشرعية الجديدة في سراقب ولكل المحاكم التي تأسست على شاكلتها في الريف الإدلبي المحرر تباعًا، بأنها سدت فراغًا كان سيحل محله حكم السلاح والقوة، واستطاعت أن تُسيّر أمور المواطنين الشخصية وتفصل في النزاعات وتسترد الحقوق.

أما مساوئها فكانت عدم وجود مرجعية قانونية، لأن كل قاض يحكم برؤيته في تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعتمد بشكل كبير على اجتهاد القضاة، وكانت الأحكام تأخذ صفة الاجتهادية أكثر منها الحقوقية، وكانت أيضًا هذه المحاكم ضعيفة وغير موحدة وغير مركزية، بالإضافة إلى أنها تتبع لحكم العسكر بحيث ينشئ كل فصيل محكمة له في منطقة حكمه.

وقد حافظت هذه المحاكم على الأضابير والدعاوى منذ أيام النظام، إذ قامت بترتيبها والمحافظة عليها.

ومع بداية الثورة تأسست في جبل الزاوية محكمة تعتمد على الشريعة الإسلامية، تتبع لفصيل عسكري يقوده جمال معروف، وكانت وفق شهادة حقوقيين متشربة بالفساد، وانتهى عملها في أيلول 2014 عندما انتهى الفصيل العسكري بقيادة جمال معروف.

ويوجد حاليًا في عدد من مدن وبلدات إدلب محاكم تابعة للفصيل الذي يحكمها، ففي سراقب محكمة توافقية لعدة فصائل، أما محكمة بنش فتتبع لأحرار الشام، في حين توجد دار القضاء التي تتبع لجبهة النصرة في كل من معرة مصرين ودركوش وسلقين، وفي سرمين دار للقضاء تابعة لجند الأقصى.

يوجه حقوقيون ومراقبون في حديثهم لعنب بلدي انتقادًا لعمل المحاكم في إدلب، ويقولون إنها “غير محايدة” ولها تبعية “مطلقة” للكتائب المقاتلة، والقضاة فيها “غير أكفاء وليسوا أصحاب اختصاص”، ولا يوجد فيها أي قانون أو أصول متبعة تصون الحقوق للمتداعين، ولا دور للمحامين فيها.

ومؤخرًا شارك المحامي أمين تريسي بإنشاء نقابة المحامين الأحرار المركزية على مستوى سوريا، التي تمارس عملها في تركيا، وتأسست في وقت لاحق نقابة المحامين الأحرار في إدلب تحت إشراف النقابة الأم المركزية، وذلك في 19 نيسان 2015 ومقرها مدينة كفرنبل، وهي قائمة حتى اليوم.

عندما حرر جيش الفتح إدلب في 29 آذار2015 مع جسر الشغور وأريحا، أنشأ محاكم خاصة به، تعتمد الشريعة الإسلامية دون وجود مرجعية قانونية لها، حالها كحال باقي محاكم الريف الإدلبي.

وعد جيش الفتح بالتنسيق مع مجلس القضاء الموحد بتشكيل مركزية موحدة تتبع لها جميع المحاكم في إدلب على غرار المحاكم في حلب، على أن تعتمد القانون العربي الموحد كمرجعية للقضاء، مع قيام جيش الفتح بتشكيل لجنة علمية للتعديل في بعض نصوص القانون بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية ليتم اعتماده بالكامل، في حين ستعتمد هذه المحاكم قانون الإجراءات المطبّق في القانون السوري لكونه لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، لأنه يتعلق فقط بسير الجلسات وأصول الترافع والتقاضي، وغيرها من الإجراءات القضائية.

ويبرز في القضاء العسكري تحت ظل جيش القتح دور الدكتور عبدالله المحيسني، الذي يصفه مؤيدوه بأنه الرجل القضائي والعسكري، واعتُمد كشخصية توافقية في التحكيم أجمعت عليه كل الكتائب لحل النزاعات بين الفصائل ووأد الفتن ووقف الاقتتال.

الداعية السعودي عبد الله المحيسني

في حين ينتقد بعض العلماء، أمثال حسن الدغيم من جرجناز في ريف إدلب، عبر تسجيل صوتي منشور على الإنترنت، تولي المحيسني كافة المناصب العليا في جيش الفتح من قاضي القضاة وقائد القادات، ورئيس أركان الحرب ورئيس معهد دعاة الجهاد ورئيس لجان التفاوض، في إشارة إلى تفرده بالقرار وعدم إتاحة الفرصة للكفاءات من حوله في تقلد المناصب الحساسة، مستدلًا بقول رسول الله (ص) “إنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.

جبهة النصرة تهيمن على القضاء في ريف اللاذقية

اتسمت مرحلة بداية تحرير ريف اللاذقية بغياب دور الدولة مع تلاشي مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، فتداعى شرعيون لملء الفراغ واهتموا بالأمور الشرعية، وبدأوا بالتنسيق مع مجلس القضاء الموحد في حلب، الذي كان له الدور الريادي بالتجربة القضائية في المناطق المحررة بسبب الكثافة السكانية، فزار مجموعة من الحقوقيين والشرعيين حلب، وأرسلوا قضاة شرعيين للتدرّب مدة أسبوع وللاطلاع على كيفية عمل المحاكم في حلب، قبل الإعلان عن تأسيس الهيئة الشرعية في الساحل، نقلًا عن الشيخ خالد كمال، أحد الشرعيين العاملين بالهيئة.

هجرة القضاة من ريف اللاذقية

تأسست الهيئة الشرعية في بداما نهاية 2012، وضمت في تشكيلتها 30% من الحقوقيين و70% من الشرعيين، بسبب قلة أعداد القضاة المنشقين عن النظام أو الموجودين في المناطق المحررة، يقول الشيخ خالد كمال أنه “في بداية 2013، عندما نشط المستشار خالد شبيب في مجال إقامة الدورات القضائية التي أجراها في مدينة غازي عنتاب التركية لتأهيل قضاة ومنحهم شهادات تؤهلهم لمزاولة القضاء في المناطق المحررة، أرسلت الهيئة الشرعية في بداما قضاة ليلتحقوا بهذه الدورات، وكانت الهيئة الشرعية تهتم فقط بأمور الأحوال الشخصية (زواج، طلاق، وفاة …) ولم تدخل في مجال العقوبات (جنايات، قتل، جرائم ..)، وإنما عملها كان يتجه ليكون إصلاحيًا، ويقتصر على التعذير قدر الإمكان”.

وبحسب كمال “في تلك الفترة وبعد تأسيس الهيئة الشرعية، بدأت تنتشر ظاهرة المحاكم الخاصة في الفصائل، حيث أسس كل فصيل محكمته الخاصة، وتتقاضى فيها الفصائل فيما بينها”.

مشيرًا إلى أن “الهيئة الشرعية طالبت الكتائب بأن يكون لها قوة تنفيذية تمكنها من مزاولة عملها وفرض هيبتها بين الناس، ووفرت حينها الكتائب القوة المستقلة للهيئة، لكنها بقيت بنظر الناس تابعة للعسكر”، وكانت تعتبرها “متحيزة”.

محاولات إجهاض تنظيم الدولة لعمل الهيئة الشرعية في ريف اللاذقية

استمر عمل الهيئة حتى منتصف 2013، وخلال هذه الفترة بدأ عملها يتعارض مع قضاء تنظيم الدولة الإسلامية، ونشب خلاف بين الطرفين بسبب إحدى القضايا، وعلى إثره اغتال التنظيم أحد القضاة وهدد البقية، فانحلت في منتصف 2013، وفق شهادة الشيخ خالد كمال.

يضيف أحد المحامين رفض الكشف عن اسمه “بعد ذلك انتشرت في الساحل المحاكم الإسلامية التي أشرفت عليها الفصائل المتشددة، وكان غالبية قضاتها غير سوريين، لا تُعرف أسماؤهم ولا مؤهلاتهم العلمية”.

لكن في نهاية 2013 اجتمعت الكتائب وقررت إنشاء دار قضاء مدعومة بقوة تنفيذية فعالة، وتأسست في بداية 2014 بمنطقة الناجيّة، وهي فعليًا تخضع لسيطرة جبهة النصرة، يقول حقوقي معلقًا على تلك المرحلة ”حملت الجبهة على عاتقها مرفق القضاء عندما رأت أن باقي الكتائب أهملته، وخاصة بعد انسحاب تنظيم الدولة من الساحل”، ويشهد “بأن قضاة جبهة النصرة كانوا على مستوى عال من العلم الشرعي”، في حين غاب دور الحقوقيين عن هذه المحكمة.

بينما تأسست هيئة شرعية أخرى في مدينة بداما وعمل فيها قضاة وحقوقيون، قامت برعاية عدة كتائب، ولكن القوة المسيطرة عليها كانت أحرار الشام، واعتنت بالشؤون المدنية فقط، وطبّقت الشريعة الإسلامية.

غياب القضاء عن ريف حماة والاعتماد على محكمة خان شيخون

بدأ ريف حماة بالتحرر مطلع العام 2012 بتحرير كفر زيتا، وكانت أول تجربة للقضاء في ريف حماة محكمة ترملا بريف إدلب وكانت خاصة بريف حماة.

تأسست المحكمة في كانون الأول 2012، وكانت واحدة من مجموعة محاكم تأسست حينها كتجربة لإنشاء قضاء مستقل، تحت إشراف مجلس القضاء السوري الحر المستقل، ولكن عملها انتهى منتصف 2013 مع قريناتها من المحاكم، بسبب ضعف التمويل وعدم مساندة أي جهة لعملها وبروز دور الهيئات الشرعية من جهة، و “الفصائل المتشددة” التي حاربت عمل كل القضاة والحقوقيين من جهة أخرى.

استمر عملها لمدة خمسة أشهر تقريبًا من قبل محامين متطوعين، وطبقت القانون السوري كمرجعية للقضاء، وكان لها دور في فض النزاعات بين الناس بالتراضي وتسيير الأعمال المدنية للناس من عقود زواج وتوثيق عقود بيع وشراء.

في الفترة التي انحلت فيها محكمة ترملا، شكلت جبهة النصرة محكمة دار العدل بريف إدلب في مدينة خان شيخون، وكانت تحتكم لها كتائب ريف حماة، حيث إن غالبيتها تتواجد مقراتها بريف إدلب.

محكمة الوعر وحل الخصومات بالتراضي في حمص

لم تتبع المحاكم التي تأسست منتصف 2013 في مدينة حمص لهيمنة أي فصيل عسكري، وإنما كانت هيئة متفق عليها يحكمها بعض رجال الدين والحقوقيين، وهي تابعة للمجلس المحلي.

يرجع فيها القضاة في أحكامهم للقضاء المدني السوري، وفق المحامي جواد سالم، وهو ما يطبقه قضاة اختصاصيون، أما القضايا الشرعية والفقهية فيحكم بها شرعيون، وكثيرًا ما كانت تحل الخصومات بالتراضي بحيث يفصل فيها شرعيون، ومازالت محكمة الوعر قائمة حتى الآن في مدينة حمص.

ويرى مواطنون أن النظام القضائي غير نزيه يحاسب الضعيف ويتجاوز عن القوي:

محاولات لتأسيس قضاء في الرقة أنهاها تنظيم الدولة

في 4 آذار 2013 تحررت مدينة الرقة بالكامل، ووفق شهادة أحد المحامين، فضّل عدم كشف اسمه لأسباب أمنية، كان للمحامين الدور الأكبر في تشكيل المجالس المحلية لإدارة المحافظة، وعيّن المحامي عبد الله الخليل رئيسًا لمجلس محافظة الرقة الحرة، وكان من أبرز من قاد المظاهرات خلال الحراك السلمي.

وتم تأسيس المحكمة الشرعية بالرقة بعد تحرير المدينة مباشرة، وشاركت في تأسيسها كل الفصائل العسكرية الموجودة في المدينة، بمن فيهم جبهة النصرة وأحرار الشام والجيش الحر، عدا تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي أسس محكمة خاصة به سمّاها “المحكمة الإسلامية”.

واعتمدت المحكمة الشرعية القانون العربي الموحد كمرجعية للقضاء، وكان للمحامين دور محدود فيها، إذ عمل قلة منهم كقضاة في الدعاوى المدنية، وبعد سيطرة التنظيم على المدينة بالكامل في نهاية عام 2013 وطرد باقي الكتائب منها، حُلّت الهيئة الشرعية واستمرت المحكمة الإسلامية بالرقة.

الأضابير والملفات القضائية بيد تنظيم الدولة

تم الاحتفاظ بجميع الدعاوى الموجودة في محاكم الرقة بعد تحرير المدينة، وأغلب الدعاوى غير المنتهية تمت إحالتها إلى المحاكم الشرعية، خصوصًا المدني منها، أما فيما يخص الدعاوى الجزائية فلم تتم متابعتها بسبب فرار أغلب المتهمين من المحافظة إلى مناطق سيطرة النظام في المحافظات الأخرى. إلا أن النظام قصف المحكمة والأرشيف القضائي فاحترق الكثير من الأضابير، وما تبقى منها استولى عليه التنظيم.

قضاء دير الزور “الوليد” تنهيه سيطرة تنظيم الدولة على المحافظة

بعد تحرير البوكمال وريفها بشكل كامل من قوات النظام بتاريخ 18 تشرين الثاني 2012، عمت المدينة فوضى عارمة بسبب غياب كامل لمؤسسات الدولة عنها، ما دفع أهالي المنطقة لتأسيس المجلس المحلي، فتبعهم عددٌ من المشايخ وطلاب العلم والشريعة بتأسيس “الهيئة الشرعية الأولى”، وكانت على تنسيق مع المجلس، ويقتصر دورها على فض الخصومات، والأحوال الشخصية من إرث وزواج وطلاق وغيرها.

توافقت الفصائل في تلك الفترة على إدارة هذه الهيئة، ولم تتدخل حينها في الجوانب الخدمية، وإنما اقتصر دورها على الجانب القضائي حتى تموز 2013، كما يؤكد عضو الشبكة السورية لحقوق الإنسان محمد خليف.

الناشط الحقوقي محمد الخليف

منذ منتصف 2013 تم الاتفاق على تشكيل هيئة شرعية جديدة موسعة تضم كل الفصائل في البوكمال وريفها، وكانت الهيئة تضم عدة دواوين، منها ديوان المحاكم وديوان إصلاح ذات البين والديوان العقاري، وقوتها التنفيذية شكّلها “جيش الله أكبر” وجبهة النصرة.

استطاعت الهيئة الشرعية في البوكمال لاحقًا السيطرة على القرار، والسيادة الشرعية عندما تفردت جبهة النصرة بحكمها داخليًا.

حكمت الهيئة الشرعية في القضايا الجنائية، وشهدت حالات إقامة حدود من قتل للقاتل عمدًا، أو قطع يد للسارق.

يذكر أن تنظيم الدولة شنَّ هجومًا على مدينة البوكمال بتاريخ 11 نيسان 2014، وهاجم التنظيم مبنى الهيئة الشرعية وأطلق سراح المسجونين، بعد ذلك فرض التنظيم سيطرته على المدينة بالكامل في 27 حزيران 2014.

الهيئة الشرعية في ريف دير الزور الغربي

تأسست الهيئة الشرعية في الريف الغربي لدير الزور بتاريخ 9 تشرين الأول 2013 واتخذت من بلدة الخريطة مقرًا لها، وكانت تضم عددًا من المكاتب، هي مكتب للشكاوى وآخر لفض الخصومات، وقوتها التنفيذية تشكلت من جميع الفصائل، وتميزت حينها بمحاسبتها للمسيئين من عناصر الجيش الحر.

وكان أغلب القائمين على الهيئة شرعيين مع وجود محام، وكان لها دور في التحريض على قتال تنظيم الدولة. ونتيجة لكثرة المحاكم وتعدد مرجعياتها، تم تشكيل هيئة مركزية موحدة لدير الزور.

الهيئة الشرعية المركزية في المنطقة الشرقية

انضم إلى الهيئة ما يقارب 60% من الهيئات الموجودة في قرى ومدن دير الزور، على رأسها الهيئة الشرعية القضائية بمدينة دير الزور، والهيئة الشرعية بريف دير الزور الغربي، والهيئة الشرعية في كل من البوكمال، والشدادي في ريف الحسكة، ومدينة العشارة في ريف دير الزور االشرقي، والهيئة الشرعية العليا في ريف دير الزور.. وغيرها.

شُكلت هذه الهيئة منتصف العام 2013، وكان لها صدى واسع، وتوالت الانضمامات إليها من قبل الفصائل، وعلى رأسها جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وجيش مؤتة الإسلامي، والعديد من ألوية وكتائب الجيش الحر في المنطقة، حتى أصبحت القوة الضاربة في المنطقة، واتخذت من مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي مقرًا لها.

وكانت الشريعة الإسلامية هي المرجعية الوحيدة للهيئة، ولم تكن تتبع لفصيل محدد أو جماعة معينة، إذ كانت مؤلفة من أفراد مستقلين وآخرين تابعين لبعض الجماعات ولكن بصفتهم الشرعية أو العلمية أو العسكرية، مع العلم أن كافة القائمين عليها شرعيون من حملة الشهادات.

وكان للهيئة دور كبير في المنطقة على جميع الأصعدة القضائي والخدمي والدعوي، وكان يقصدها آلاف الأشخاص من المناطق في دير الزور والحسكة والرقة، وفتحت باب الانضمام للجميع وتم تفعيل كافة مكاتبها في إدارة المنطقة، لكن دورها انتهى كليًا بعد سيطرة تنظيم الدولة على دير الزور في الخامس من تموز 2014.

(تمت الاستعانة بدراسة لم تنشر بعد، أعدها عضو الشبكة السورية لحقوق الإنسان محمد خليف).

 

القضاء في ظل البعث

في انقلاب عسكري عام 1963 استلم حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سوريا، وبمجرد استلام الضباط المنقلبين زمام الحكم أصدروا أمرًا عسكريًا بفرض حالة طوارئ وأحكام عرفية، عاشت سوريا تحت وطأتها لعقود.

وفي نفس العام 1963 أُعلنت حالة الطوارئ وسيطرت السلطة التنفيذية على صلاحيات القضاء وفق الأحكام العرفية، وأصبح رئيس القضاء هو الحاكم الأعلى الذي يملك حق تجريد القضاة المدنيين من صلاحياتهم، وعلى إثرها بدأ حزب البعث بإحكام سلطته على المجتمع.

في عام 1973 قاد حافظ الأسد انقلابًا آخر على رفاقه الضباط من حزب البعث، وكان الانقلاب الأخير في تاريخ سوريا، تفرد بعده الأسد في الحكم، وصاغ دستورًا يمنحه صلاحيات شبه مطلقة لا سابق لها، وفي 12 آذار 1973 أجرى الأسد استفتاءً على الدستور الذي خوّله السيطرة على أركان الدولة الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكان أساسًا لصدور قوانين استثنائية غيّرت وجه سوريا لعقود.

أعطى دستور 1973 الكثير من الصلاحيات لرئيس الدولة، وساهم جنبًا إلى جنب مع قانون الطوارئ بتوسيع نفوذ نظام الأسد، في حين أن قانون الطوارئ أعلن عام 1963 بسبب الأوضاع الداخلية والانقلاب العسكري.

لم يكتف الأسد بتنصيب نفسه القائد العام للجيش والقوات المسلحة، والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، بل نصّب نفسه أيضًا رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى وهيمن على المحكمة الدستورية ليبعد نفسه عن أي مساءلة قانونية، وعليه توقف عمل المحكمة الدستورية لعشرات السنين، مع أنّ عملها في أي بلد في العالم هو أكبر دليل على تحقيق العدالة.

أنشأ الأسد محاكم أمنية وعسكرية استثنائية موازية، كانت مسؤولة عن إخفاء وتعذيب عشرات آلاف المدنيين دون محاكمة، مع الإشارة إلى أن محاكم الميدان العسكري تسمى “محاكم نائمة” لا تعمل إلا في حالة الحرب، ولم تعلن حالة حرب في سوريا حتى يكون عمل تلك المحاكم قانونيًا وجائزًا.

القضاء في عهد بشار الأسد

عندما تقلد بشار الأسد الحكم، ورث عن أبيه دولة أمنية، يحكمها قانون الطوارئ، ويُعفى فيها رجال الأمن من أي مساءلة قانونية، ويجمع دستورها كافة الصلاحيات بيد الرئيس، ويرى قانونيون، أمثال هيثم المالح، أن السلطة التي تسنّ قوانين من أجل أن تحمي نفسها من أي مساءلة قانونية، هي دولة تُبيّت مسبقًا نيتها ارتكاب الجرائم.

بعد اندلاع الثورة، أصدر بشار الأسد دستورًا جديدًا للبلاد في شباط 2012، ألغى بموجبه المادة التي تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، ورفع حالة الطوارئ، واستبدلها بمادة لمكافحة الإرهاب.

أبقى دستور عام 2012 على الصلاحيات المطلقة للرئيس وأبقاه فوق المحاسبة، ولم يتم تسليم حكم البلاد لجهة مدنية كما ينبغي أن يكون في حال إلغاء قانون الطوارئ، وإنما بقيت البلاد تحت حكم الجيش وأجهزة المخابرات.

كيف يقيّم السوريون أداء المحاكم والقضاء في مناطقهم المحررة؟

يلخص مجموعة من الحقوقيين، التقتهم عنب بلدي واقع القضاء السوري خلال السنوات الأربع الماضية في المناطق المحررة ويحاولون وضع تصورات ونصائح لقضاء حر مستقل، بالإفادة من تجارب دولية، ومشابهة لما تمر به سوريا بغية التحول إلى الديموقراطية، مع تخوف من تشابه السيناريو الصومالي مع نظيره السوري وخاصة في مجال القضاء.

إذ ساهم طول فترة الصراع في الصومال دون إيجاد حل يرضي جميع الأطراف في ترسيخ نموذجي حكم؛ الأول يتبع لمتشددين لهم محاكمهم وقانونهم الخاص كحركة الشباب المجاهدين، والثاني الحكومة الرسمية المعترف بها من الأطراف الدولية. أي هناك قضاءان في دولة واحدة، وهذا ما يخشى من حدوثه في سوريا إن لم يتفق الأطراف على حل يرضي الجميع. كما يقول محام بارز في مجلس القضاء السوري الحر.

إبعاد المفسدين وإحقاق العدالة 

يؤكد من استطلعت عنب بلدي أراءهم من السوريين على ضرورة وجود محاكم وقضاة مهنيين، يطالبون بإحقاق العدالة وإبعاد المحسوبيات عن المحاكم، فالثورة السورية خرجت ومن أهم أسبابها الفساد والظلم.

وبالتوازي مع ذلك، يجمع الحقوقيون على أن هذه المحاكم على وضعها الحالي في سوريا غير قادرة على أن تصبح أجهزة تمثل دولة حديثة وعصرية، ولا ترقى لتحقيق أهم مطلب من مطالب الثورة وهو العدالة الاجتماعية.

ورغم تأييد السوريين لتطبيق الشريعة إلا أنهم يرون في بعض هذه المحاكم أنها “غير نزيهة” و “غير محايدة”، لا سيما مع سيطرة الجهات العسكرية المطلقة على عدد كبير منها، حيث يتم فيها إقصاء المتخصصين، وهذا ما يؤكده استطلاع على موقع عنب بلدي أونلاين شارك فيه 179 وأظهرت النتائج أن 62% لا يثقون بالهيئات القضائية في مناطقهم مقابل 38%.

لكن في المقابل ترى شريحة من السوريين أن هذه المحاكم سدت ثغرة، خاصة في مجال تسيير الأحوال الشخصية.

محاكم لا تتمتع بالنزاهة والمصداقية 

يرى ناشطون ومدنيون في دير الزور أن جميع الفصائل فشلت بإنشاء هيئة قضائية مدنية أو شرعية ذات مصداقية، وبقي الأهالي يلجؤون للمحاكم التي استمرت بممارسة أعمالها في أماكن جديدة خصصت لها داخل مناطق سيطرة النظام في دير الزور.

في حين يرى حقوقيون أن الهيئات الشرعية لم تتمتع بأقل معايير النزاهة والمصداقية، بسبب تبعيتها للفصائل العسكرية، بحيث هيمنت على عملها المحسوبيات والولاءات، كما لعب “سيطرة شرعيين ليسوا أصحاب اختصاص على الأعمال فيها” دورًا كبيرًا في إفشالها، مع وجود أعداد محدودة من السلك القضائي القديم الذين اقتصرت مهمتهم على تزيين الدار القضائية، وفق الحقوقيين.

قضاء دون جدوى 

يرى أبو سلمى، رئيس مجلس المدينة السابق في حلب، أن أداء القضاء “ليس إيجابيًا”، وهو أكثر فرقةً عن بدايات التحرير وأقل جدوى، ولعل السبب الأساسي عدم استقلاله وضعف الإمكانيات وكفاءات الكوادر، وقلة القضاة، مع وجود عدة أسماء على قدر من العلم والقبول، تحتكم لها الناس كلجان قضائية خارج هذه المحاكم.

ويرى مواطنون أن “استبعاد أهل الاختصاص ومحاربة العلم والعلماء، بالإضافة إلى هيمنة العسكر” من أسباب تراجع القضاء.

قضاء يخشى العسكر 

يُقيّم أهالي درعا، أمثال الناشط البارز على المصاروة، عمل دار العدل من منظورين، على الصعيد المدني نجحت في متابعة قضايا الأحوال الشخصية والعلاقات الاجتماعية، وساهمت أيضًا في ضبط الكثير من قضايا السرقات ومحاسبة المسيئين، ويشهد لها نجاحها تنظيميًا بتوحيد المرجعية لكل محاكم درعا والقنيطرة، حيث يتوجه يوميًا مئات المراجعين إلى دار العدل لتسيير قضاياهم وتقديم الشكاوى.

أما على الصعيد العسكري، وبالرغم من كثرة الشكاوى على العسكر وممارساتهم، إلا أن دار العدل لم ترق بعد إلى محاسبة هذه الفئة.

ويرجع السبب الأساسي في فشلها، كما يوضح ناشط بارز رفض الكشف عن اسمه، إلى “عمل الفصائل العسكرية على إفشالها عمدًا، بحيث لم تملك دار العدل القوة التنفيذية القادرة على ضبط العسكر، بل تركتها هذه الفصائل هشة كي تسقط تلقائيًا، مع العلم أن الكثير من الفصائل العسكرية وعلى رأسها جبهة النصرة حاولت بداية احتواء دار العدل وفرض هيمنتها عليها”.

الاستقواء على المدنيين 

يرى مواطنون في الغوطة الشرقية استطلعت عنب بلدي آراءهم في تصريحات مسجّلة، أن القضاء في وضعه الحالي “فاشل”، ولا يستقوي إلا على المدنيين، وأنه يتبع بشكل كبير لجيش الإسلام. في حين يُقيّم حقوقيون عمله بأنه كان ناجحًا ومن أفضل النماذج في سوريا قبل هيمنة جيش الإسلام عليه.

ويؤكد مواطنون من حمص أنّ “القضاء لم يتحسن أداؤه عما كان عليه أيام النظام، وذلك لم يكن بسبب الفساد وإنما لعدم وجود قوة تنفيذية تدعم القضاء وترسخ عمل المحاكم، إذ يطبق القانون على الفقير والبسطاء، ويتجاوز القوي أو المدعوم من قبل بعض الفصائل أو العشيرة”.

معهد القضاء العالي في حلب: أول خطوة لتخريج قضاة في المناطق المحررة

عندما أصبحت الهيئات الشرعية واقعًا على الأرض، وخاصة في حلب وريفها، وبعدما تولى الشرعيون مناصب قضائية، رأى حقوقيون، وعلى رأسهم المستشار خالد شبيب، أنه من الضروري تأسيس معهد متخصص يجري دورات تدريبية تعلم مبادئ القضاء وتؤهل المتدربين لمزاولة مهنة “قاضي” في تلك المحاكم. فأسسوا أول معهد لتخريج قضاة سوريين في المناطق المحررة، وتم تسجيله رسميًا في بريطانيا وباشر عمله.

قضاء الضرورة

المستشار القانوني خالد شبيب

باتت ولادة  “قضاة الضرورة”، كما يطلق عليهم، أمرًا ليس سهلًا، فتم وضع المنهاج التدريبي بعد الاطلاع على المعاهد القضائية في كل من قطر والكويت والبحرين والأردن، بحيث يعلّم المعهد بعض المبادئ الخاصة بالقضاء مثل: أصول كتابة الضبط، وأصول كتابة المحضر والأحكام، ويؤهل القضاة لإدارة المحاكم.

وعندما لاحظ المعهد أن من يعمل في القضاء حاليًا داخل سوريا هم من حملة شهادات شرعية، أو شرعيون غير حاملين شهادة شرعية، أو حقوقيون بخبرات غير كافية، اشترط المعهد لمن سيخضع للتدريب أن يكون حاملًا لإجازة جامعية، ومن لا يحمل شهادة عليه أن يخضع لدورة مساعد قاض.

وبحسب شبيب، تم تدريب القضاة في تركيا على إدارة المحاكم، ثم أجريت لهم دورة تخصصية مبدئية في قطر، وعلى إثرها منحت قطر شهادة تدريب قضائي، وتم تخريج 800 قاض.

لماذا القانون العربي الموحد؟

تبنى معهد القضاء فكرة تطبيق القانون العربي الموحد، لأنه “قانون معتمد من جامعة الدول العربية ومطبّق من قبل عدد من الحكومات العربية”، وفق خالد شبيب، ويمثل تطلعات كل من في الداخل السوري، كونه مستمدًا من الشريعة الإسلامية.

ويضيف شبيب “الشعب بالمطلق يقبل بتطبيق الشريعة لأنها ستحفظ حقوق الناس، وأغلب الفصائل من غير المتشددين يقبلون بها لذات السبب”.

ويرى شبيب أن الفصائل العسكرية التي أقامت قضاء خاصًا بها ومحاكم تابعة لها، هي خارجة عن القانون، لا سيما تلك التي ترفض تطبيق القانون وتدّعي تطبيق الشريعة، ويصفها بأنها ”محاكم ميدانية”، ويرى أنه لا يصح شرعًا ولا قانونًا أن تدار البلاد دون قانون، حتى من يدّعي تحريم القانون، يلاحظ أن لديه تعميمات ونصوصًا خاصة به، أي أنه فعليًا بدأ يصنع قانونًا بيده.

كما أن للشبيب رأيًا في إقامة الحدود، “يجب أن يتوقف في ظل الحرب، وحتى لو حوكم المتهم وصدر بحقه حكم معين، يجب أن يؤجل تنفيذه إلى أن يصبح لدينا دولة وينظر في حكمه، أما حاليًا يجب أن يعطى هذا المتهم فرصة لإصلاحه في السجن”.

تجاوب وعوائق

نسّق معهد القضاء كخطوة أولى، كما يقول مديره شبيب، مع مجلس القضاء الموحد في حلب، لكونها المدينة السباقة في تجربة القضاء في ظل الثورة، وحينها تم اعتماد القانون العربي الموحد كمرجعية للقضاء، وتم تعميم التجربة على عدة مدن سورية، منها منبج وحارم ودركوش وغيرها، ولاقى المعهد العالي للقضاء تجاوبًا من الكتائب في الداخل عندما عرض عليها تدريب قضاتها، وكان ذلك في بدايات العام 2013، وقدمت له بعض الكتائب القوة التنفيذية التي تخدم القضاء، لكن سرعان ما تقلص دور هذه المحاكم عندما ظهر تنظيم “الدولة الإسلامية”، وقوي دور جبهة النصرة أواسط 2013، ورفض كلا التنظيمين التعاون مع أي جهة تدعو لتطبيق القانون في سوريا.

مآخذ على المعهد

يأخذ حقوقيون وقضاة على عمل المعهد عددًا من القضايا، أبرزها تأهيله قضاة في فترة زمنية قصيرة جدًا، لا تتجاوز العشرة أيام، وقبول حملة شهادات أخرى غير الحقوق في دخول الدورة التأهيلية، ويرى الحقوقيون أنّ المعهد أعطى شرعية لهؤلاء المتدربين من غير المختصين لمزاولة مهنة القضاء، مع استنكارهم لأي شهادة ممكن أن تعطيها دولة لدولة أخرى فيما يتعلق بتأهيل القضاة.

وفي هذا الصدد يقول القاضي أنور مجني، عضو مجلس القضاء السوري الحر المستقل، “كان من باب أولى بنا نحن كمجلس قضاء أن نؤهل وننصّب قضاة للحكم، لكن منصب القضاء هو سلطة، ونحن لا ندعي أننا نملك هذه الشرعية، وإنما نؤسس فقط نواة لسلطة قضائية في المستقبل”.

وأد العدل شمال سوريا

فراس العلي:

غابت العدالة في سوريا، نعم غابت واختفى معها معظم القضاة والمحامين والخبراء القانونيين، بعد تقليص دورهم عمدًا من قبل شيوخ فضّلوا تطبيق الشريعة الإسلامية في الوقت الراهن، باعتبار أنه لا يوجد بديل مناسب للقانون السوري المعتبر لديهم قانون الأسد.

تشكلت العديد من المحاكم المدنية في المدن التي خرجت عن سيطرة النظام في سوريا بادئ الأمر، وقام على إدارتها مختصون في القانون، ودعمتهم أجهزة الشرطة الحرة بالعمل والتعاون معهم فيما يخص التبليغات القانونية لأطراف الدعوى وحجز من تثبت إدانته وما إلى ذلك من أعمال أخرى.

كانت الأمور تسير على خير ما يرام، وانتشرت المظاهر المدنية في جميع المدن الخاضعة لسيطرة الثوار، لكن لم تلبث طويلًا حتى بدأنا نسمع بأجهزة الشرطة الإسلامية والمحاكم الشرعية التي امتنعت عن التنسيق مع المحاكم المدنية، ما أدى إلى إثارة فوضى في الاختصاص.

في ذاك الوقت كان المدّعي يعرض دعواه في المحاكم المدنية، فإن لم يعجبه الحكم يذهب بها إلى المحاكم الشرعية، ثم يقارن بين الحكمين ليختار أفضلهما. ظلّ الأمر على ما هو عليه فترة قصيرة إلى أن تشكّل مجلس القضاء الموحد في حلب، حيث اعتمد في مراجعه القانونية على القانون العربي الموحد المقر في العام 1981 بعد اجتماع وزراء عدل الدول العربية بمدينة صنعاء اليمنية، وإقرارهم “خطة صنعاء لتوحيد التشريعات العربية”.

بدأ المجلس بعمله وضمّ أكثر من قاض منشق عن النظام، لديهم خبرة كافية في إدارة جلسات المحاكم ومتابعة إجراءات الدعوى من مرحلة التحضير لها حتى التنفيذ، كانت التجربة ناجحة بما تعنيه الكلمة، لا سيما بعد إدخالهم قرارات جديدة، كإصلاح الجاني بدل الانتقام منه، فتم تشغيل الموقوفين ضمن أعمال مهنية لكسب قوتهم اليومي وهم داخل السجن، أما من لا يعرف مهنة معينة فجرى تدريبه ليتقنها لاحقًا.

لم يدم الأمر طويلًا حتى اقتحم فصيل عسكري منتصف تشرين الثاني من عام 2013 مقر المجلس في حي الأنصاري بحلب، معلنًا تغيير اسمه إلى القضاء الشرعي في محافظة حلب، وأدان أعضاء مجلس القضاء الموحد هذا العمل، متهمين الفصيل العسكري بسرقة الأسلحة الموجودة فيه وتهريب بعض السجناء إضافة للاعتداء على أحد القضاة.

ترك القضاة المنشقون عملهم واستلم مكانهم “مشايخ” لا يعرفون بتفاصيل الدعاوى المدنية، لتنتشر الفوضى في المجلس الذي أصبح اسمه “القضاء الشرعي”، وتنتشر الأحكام القانونية غير المدروسة بشكل كاف.

في الجانب الآخر تنتشر المحاكم الإسلامية في الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش، ويقوم على إدارتها هواة كانوا يحلمون يومًا ما أن يصبحوا قضاة وجاءت فرصتهم.

في هذه المناطق يمكن لأي شخص أن يدّعي على آخر ويزوّر أي وثيقة ليُحكم له بالدعوى، ويمكن لأي امرأة أن تدّعي على مواطن ما وتتهمه بأي تهمة ليُحكم لها أيضًا، كما يمكن لأي شخص أن يلجأ إلى محاكم داعش ويعرض دعواه ليتم البت بها خلال وقت قصير.

الكثير من الأحكام التي تصدر عن قضاة داعش الشرعيين ليس لها أصل، وحصلت عدة مرات وهناك أكثر من مثال، كالقاضي أبو علي الشرعي، الذي عزله التنظيم وفرض عليه الإقامة الجبرية بعد ثبوت وجود 125 حكم إعدام قد أقرهم القاضي ظلمًا.

أبو علي الذي لا يملك أي شهادة علمية، كان من خريجي سجن صيدنايا، وبايع التنظيم بعد انشقاقه من جبهة النصرة، ليصبح أخيرًا قاضي القضاة في المحكمة الإسلامية بالرقة منتصف العام 2013، ويعتبر هذا الرجل صاحب أكبر سجل في إطلاق أحكام الإعدام في تنظيم داعش.

في المقابل تم إهمال أكثر من 75 قاضيًا حتى الآن؛ كانت المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار بأمسّ الحاجة لهم أكثر من المشايخ، الذين انتشروا بشكل كبير، فمن درس الشريعة الإسلامية مدة سنتين أصبح شيخًا، ومن حفظ بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أيضًا أصبح شيخًا، وباشر البت بأمور يجهلها.

أخيرًا في القانون هناك إجراءات روتينية لا يعرفها إلا المختصّون والمتعمقون بدراسة القانون بتفاصيله، وهناك من الشروط القانونية التي لابد أن تتوفر في الدعوى وإلا سترفض شكلًا أو مضمونًا.

لكن التساؤلات التي تُطرح حاليًا، من الذي سيقود سلك القضاء الحر في المناطق الخاضعة للثوار بعدما هاجر معظم القضاة والمحامين، ومن سيبت بأمور المدنيين ومشاكلهم بعد انسحاب التنظيم يومًا ما من المدن الخاضعة لسيطرته حاليًا؟!.

مقالات متعلقة

تحقيقات

المزيد من تحقيقات