طرح قرار وزارة الخزانة الأمريكية منح التراخيص الأخيرة لمناطق في شمال شرقي وغربي سوريا، أوراقًا تغيّر الكثير من المعطيات الحالية بعد الجمود الأمريكي في التعامل مع الملف السوري منذ تسلّم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الإدارة الحالية.
ولا تزال الأمور أقرب إلى الضبابية فيما يخص أثر هذه الإعفاءات على المنطقة من الناحية السياسية والاقتصادية واستفادة النظام السوري منها، وكيفية استثمارها على الأرض من قبل “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، أو في المناطق الواقعة تحت سيطرة “الحكومة المؤقتة” في الشمال الغربي من سوريا.
تناقش عنب بلدي المتغيرات السياسية والاقتصادية المترتبة على خلفية قرار الاستثناءات مع عدد من الباحثين السياسيين والاقتصاديين المطلعين على الوضع في المنطقة.
قصة الإعفاءات
بدأ العمل على قرار الإعفاءات منذ بداية العام الحالي، وأخبر المسؤولون الأمريكيون المنظمات السورية- الأمريكية ثم “الائتلاف السوري المعارض”، ثم الحكومة التركية، في شباط الماضي، ليتم بعدها إعلام الدول الداعمة لسوريا في مؤتمر “بروكسل” المنعقد مطلع أيار الحالي، ليعلَن بشكل رسمي في الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، في 11 من الشهر الحالي، بحسب ما قاله الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي، في حديث إلى عنب بلدي.
وكان الهدف المعلَن من القرار دعم جهود “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لمحاربة “الإرهاب”، أي أن المنطقة يجب أن تكون مستقرة لتتمكّن القوات من محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، لكن الأمريكيين دعموا الفكرة للاستفادة المالية منها عبر المنظمات، وكانت الغاية منها أن تشمل جزءًا من إدلب أيضًا.
بموافقة روسية؟
ونفى بربندي وجود أي فجوة في التنسيق بين الجانب الأمريكي والروسي في قضية الإعفاءات، لأن روسيا اشترت حصة شركة نفطية بريطانية موجودة في مدينة الحسكة بموافقة أمريكية، دون تسميتها.
ويرى الدبلوماسي أن القرار هو بداية تقسيم جديد لسوريا، بفصل منطقة كاملة عن سوريا وإعطائها جيشًا وعلمًا وحدودًا وامتيازات اقتصادية، ما يفتح الباب أمام “العلويين والدروز والمسيحيين للمطالبة بمناطق خاصة بهم”، بحسب بربندي.
وكان الأولى بالأمريكيين أن يؤسسوا عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين المكوّنات في منطقة الجزيرة من عرب وكرد ومسلمين ومسيحيين، يكون في إطار نموذج ديمقراطي حي يعكس شكل سوريا المستقبلي الذي لطالما طالب به السوريون، تحت غطاء أمني عسكري اقتصادي.
ملامح تقارب تركي- أمريكي
الباحث السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن السياسة الأمريكية ساعدت في مكان ما بترسيخ سيناريو “تمترس الجغرافيا في سوريا”.
وينعكس الاستثناء على دعم المنظمات الدولية والإقليمية، بعدما كانت أمريكا تعتبرها جزءًا من التغيير الديموغرافي الذي تسعى إليه تركيا، في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
وتشمل المناطق المشمولة بالإعفاء، محافظات تقع تحت سيطرة “قسد” المدعومة أمريكيًا، ومناطق تخضع لسيطرة “الجيش الوطني” المدعوم تركيًا، باستثناء عفرين ومنطقة إدلب.
ويرى طلاع أن ضم مناطق عمليات “نبع السلام” (مدينتا رأس العين شمال غربي الحسكة وتل أبيض شمال الرقة) في المناطق المشمولة بالإعفاءات، هي “بادرة حسن نية” من قبل واشنطن تجاه أنقرة، التي تقول بموقفها الرسمي إنها ضد الاستثناءات الأمريكية، ولكن تركيا عمليًا اليوم انفتحت على منطقة عمليات “درع الفرات” كاملة من جرابلس لحدود الراعي واعزاز.
كما توجد ملامح تتهيأ لتقارب ما غير مكتمل بين واشنطن وأنقرة في الملف السوري، يفرضها الجو العام ولا سيما في الملف الأوكراني.
ويُقرأ ملف الإعفاءات ضمن سيناريو التجميد على أنه تعزيز “للا مركزية”، في ظل تعثّر العملية الدستورية بجولتها السابعة وغياب أثر سياسي وقانوني لهذه العملية، إلى جانب عدم توافق سياسي في المنطقة، وتراجع الملف السوري عن الساحة الدولية في حين تصدّر الملف الأوكراني، بحسب طلاع.
وبالتالي سيؤدي إلى الانتقال من فكرة الحدود الإدارية والأمنية إلى الحدود السياسية، لأن كل المنظمات ستصب جهودها في هذه المنطقة، ما سيؤدي بطريقة أو بأخرى إلى وقف إطلاق للنار.
وإذا تم التوافق بين الموقف الأمريكي والموقف التركي، إلى جانب تفاوض كل من تركيا والاتحاد الأوروبي بضم كل من فنلندا والسويد إلى “الناتو” مقابل منطقة آمنة في سوريا، فسيتفق الفاعلون الرئيسون في المنطقة، ليبقى الفاعل الروسي الذي ليست لديه قدرة على خلق مساحات أكبر طالما يحفظ مناطق نفوذه الاستراتيجية، ولاطمئنانه بأن تركيا لا تزال تأخذ دور الوسيط بقضية أوكرانيا بين الطرفين الأمريكي والروسي.
تحولات في العلاقة بين النظام و”الإدارة”
لفهم طبيعة العلاقة بين “الإدارة الذاتية” والنظام السوري، يجب العودة إلى نقطة البداية عام 2012، بحسب ما قاله الباحث في شؤون شرق الفرات بدر ملا رشيد، في حديث سابق إلى عنب بلدي، الذي أشار إلى انسحاب النظام من المنطقة حينها لمصلحة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، ضمن اتفاق وصفه بأنه “يمكن تتبُع جوانبه دون الوصول إلى بنوده المباشرة”، وهو الاتفاق الذي حكم العلاقة بين الطرفين وصولًا إلى دخول قوات التحالف الدولي إلى سوريا، وتشكيلها “قسد” نهاية عام 2015، واستمرار التحالف بدعمها إلى الآن، وهو ما غيّر من طبيعة حزب “الاتحاد الديمقراطي” والمنظومات المرتبطة به، ليتحول إلى منافس محلي للسلطة المركزية في دمشق، ما يفسر التوتر في العلاقة بين الطرفين (النظام والحزب).
واعتبر الباحث أنه رغم اتفاق النظام السوري و”الإدارة الذاتية” على نقاط كثيرة، منح الدعم الذي حصل عليه حزب “الاتحاد الديمقراطي” سلطة وسيطرة لا يرغب الحزب اليوم بالتنازل عنها، كما لا يرغب النظام السوري بالدخول ضمن أي اتفاق يؤكد سيطرة الحزب بالشكل الحالي، المتمثّل بذراع عسكرية قوية ومنظمة هي “قسد”، بالإضافة إلى سيطرة على الموارد الطبيعية.
شد اللحاف صوبه
نددت وزارة الخارجية والمغتربين في حكومة النظام باستثناء واشنطن مناطق في شمال شرقي وغربي سوريا من عقوبات قانون “قيصر” المفروضة عليها.
وقالت الوزارة في بيان لها، في 13 من أيار الحالي، “لم تفاجَأ الجمهورية العربية السورية بالبيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول منح ترخيص بالقيام بأنشطة اقتصادية في شمال شرقي وغربي سوريا، لأن الإدارات المتعاقبة كانت خلف الحرب (الإرهابية) التي تعرضت لها منذ عشر سنوات وحتى الآن”.
واتهمت الوزارة واشنطن بأنها تقدم مساعدات لـ”التنظيمات الإرهابية” المسلحة في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، الأمر الذي أدى إلى تدمير إمكانيات الاقتصاد السوري ونهب ثرواته من قطن ونفط وقمح وآثار، بحسب قولها.
يرى طلاع أن هنالك أرضية كافية لتهرب النظام والتفافه والاستفادة من هذه الاستثناءات، عبر شبكات، سواء كانت وسيطة تقوم فيها بعض الأحزاب السياسية “المستقلة” التابعة للنظام، تتصدّرها بعض الشخصيات العشائرية، أو من خلال السوق السوداء بإدخال شخصيات جديدة إلى المنطقة وعقد اتفاقيات معها.
ولكن ذلك كان يرتبط بطبيعة العلاقة سابقًا بين النظام و”الإدارة الذاتية”، بينما تجعل التحولات الأخيرة هذه المقاربة تعترضها مسيرة من التحديات.
كانت هنالك علاقة ما سواء بتسليم بعض المناطق أو بتبادل بعض الأدوار أو حتى بتعريف “الإدارة الذاتية” بأنها طرف ثالث، ليست نظامًا وهي ليست معارضة.
ومع تغيّر الاستراتيجية الأمريكية وزيادة منسوب الدعم لـ”الإدارة” وتوجهها نحو الفيدرالية، تغيّرت شروط العلاقة، الأمر الذي انعكس حتى على منسوب الزيارات المتبادلة لقاعدة “حميميم” العسكرية.
وأصبحت العلاقة المتبدلة تزيد من تحديات قدرة استغلال النظام للإعفاءات، ولكن لا تنفيها، فحجم الاستفادة التي سيحصل عليها النظام وفق هذه المتغيرات موجودة، ولكن ليس كما كان متخيلًا.
استعصاء النظام
لا تفكر واشنطن بتطبيع العلاقة مع النظام، ولا تشجع على ذلك، وحتى العلاقة مع الإمارات التي اعتُبرت نصرًا سياسيًا كبيرًا للأسد، إلا أنها تدرك أنها تحتاج إلى بحث عن مسارات نوعية لا تتعارض مع قانون “قيصر”.
وحتى ملف إعادة النظام إلى الجامعة العربية مرتبط بالعملية السياسية، فأعادت هذه الاستثناءات من جديد استعصاء النظام على الصعيد السياسي، وعلى صعيد إدارة أزماته الاقتصادية الخانقة، بحسب طلاع.
ويرى الباحث معن طلاع أن النظام السوري أمام خيارين، إما المرونة عبر إعادة فتح باب المفاوضات مع “الإدارة الذاتية” وإعطائها ميزات أكثر في مفهوم “اللا مركزية الإدارية”، وإما الضغط باتجاه السيناريو الثاني، عبر استغلال بعض العناصر الرخوة في هذه المناطق سواء من العشائر أو بعض المكوّنات المجتمعية الموجودة هناك، أو من خلال بعض الخلايا المرتبطة بإيران أو بتنظيم “الدولة الإسلامية”، بإشغال المنطقة واستعراض فكرة عودته سواء من خلال المعنى العسكري أو عبر خلق مفاوضات مع تركيا في هذا السياق.
ويرجح طلاع أن النظام ينتظر مفاعيل القرار الأمريكي، كحجمه وتكلفته، ليبدأ باستراتيجيته التي تبدأ بالمرونة، عبر تعزيز مبدأ المفاوضات، ولكن ذلك يرتبط بحجم الاستفادة العائدة عليه.
مركزية القرار
أي استثمار أو تحسين مشهد اقتصادي لا يرتبط فقط بالمواد المادية المتوفرة، بل يحتاج إلى جانبه أجسام الحكم المحلي، فيما إذا كان يتمتع بآليات الشفافية والرقابة وتنظيم العمل المدني وعدم مركزية القرار التي تعزز من شبكات الفساد.
ولكن العلاقة بين حزب “العمال الكردستاني” و”الإدارة الذاتية” هي علاقة “تابع ومتبوع”، بحسب طلاع.
فعلى سبيل المثال، هل يمكن أن يكون لأي جهة لا تعترف بـ”الإدارة الذاتية” أو لديها موقف سياسي منها، الحق في تقديم رؤية لأبناء الرقة، ما سيخدم الجهة السياسية في مكان ما.
ويعزز ذلك من قوة المكوّن السياسي الذي قد يخضع شقه السوري لحوار بطبيعة الحال، أو تفاوض مع حكومة تعتبر “حكومة ظل”، بحسب طلاع.
قوانين جديدة بحاجة إلى خريطة سياسية جديدة
الباحث في الشؤون الكردية والمقيم في مدينة القامشلي شفان إبراهيم، يرى أن قرار الإعفاءات غير موجه للمستثمرين غير المحليين بل لشركات دولية عابرة للقارات، وهي التي سترسم السياسات الدولية.
ولا يستطيع أحد أن يقف بوجه قرار الإعفاءات، ولا سيما في ظل وجود بعض المؤشرات التي تعتبر القرار جزءًا من تسوية سياسية لنقل الغاز القطري وغاز إقليم كردستان العراق والغاز الموجود في شمال شرقي سوريا إلى تركيا ثم إلى أوروبا، للخلاص من الابتزاز الروسي في قضية الغاز، بحسب ابراهيم.
ويتوقف نجاح هذا المشروع على مدى تغيير بنية “الإدارة الذاتية” وإعادة هيكلتها وإبعاد أي سطوة أو فصل تام بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وعدم وجود فرصة أو وجود لتسلّط من قبل شخصيات سياسية أو عسكرية.
بمعنى أنه لا يمكن أن يكون هناك شخصية عسكرية أو سياسية أو إدارية تتحكم بكل الملفات، فهذا سيسبب تضاربًا في المصالح وسيؤدي إلى إفشال المشروع.
وجود شركات أمريكية في المنطقة يعني ضرورة وجود قانون ونظام سياسي يحمي هذه الشركات، بينما أغلب القوانين في شمال شرقي وغربي سوريا قابلة للتعديل والتغيير في أي لحظة، ولذلك فإن الشركات التي تملك رأس مال ضخمًا بملايين ومليارات الدولارات، لن تدخل في منطقة دون تغيير جذري في بنيتها السياسية والإدارية، ما سيعني حكمًا تغيير النمطية والقوانين والعقل الاجتماعي في كامل الشمال السوري وإيجاد قوانين تحمي هذه الشركات.
كما سيتطلّب الأمر استقرارًا سياسيًا ومصالحة داخلية على الصعيد السياسي، بمعنى وجوب حدوث اتفاق كردي- كردي ثم اتفاق كردي مع بقية المكوّنات، التي يجب أن تكون على علاقة جيدة مع تركيا ومع إقليم كردستان العراق.
واعتبر الباحث شفان إبراهيم أنه ليس من المنطق استثناء معبر “سيمالكا” أو المعابر الأخرى مع تركيا، فأكثر الدول التي تدخل لإعادة الإعمار بعد الصراع، هي الدول الحدودية (دول الجوار).
والشركات الأمريكية حين تدخل ستدخل عبر تركيا وعبر إقليم كردستان العراق، الأمر الذي سيستدعي مصالحة وإجراء تسويات سياسية حتى مع “الحكومة السورية” نفسها، لأن روسيا لن تقبل بهذا الوضع ما لم يكن هناك بند يحمي مصالحها.
ولذلك يعتقد شفان إبراهيم أن استثناء النفط والغاز من الموضوع سيمد دمشق ومناطق سيطرة “الحكومة السورية” بجزء من احتياجاتها من مشتقات الطاقة.
وأكد أنه حين يكون هناك استقرار اقتصادي وتوافق محلي في شمال شرقي سوريا وبتوافق كردي- كردي، ثم توافق كردي مع بقية المكوّنات في المنطقة ومع شمال غربي سوريا أيضًا، سيتشكّل نوع من أنواع الأنظمة السياسية الجديدة.
قانون استثمار
ربما نشهد ولادة لشيء جديد مخالف للفيدراليات ومخالف للامركزيات السياسية، ربما تبقى دمشق مركزية، ولربما الشمال السوري سيكون له وضع جديد، فتطبيق هذا القانون سيعني حكمًا نقل المنطقة إلى طور سياسي جديد.
الباحث في الشؤون الكردية شفان إبراهيم |
وكانت هيئة الاقتصاد في “الإدارة الذاتية” بشمال شرقي سوريا، أعلنت عن نيتها إصدار قانون جديد للاستثمار بعد استثناء المنطقة من العقوبات الأمريكية المفروضة بموجب قانون “قيصر”.
وقال الرئيس المشارك لـ”هيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا”، سلمان بارودو، في حديث إلى وكالة “نورث برس“، في 15 من أيار الحالي، إن “الإدارة” تنوي إصدار قانون جديد للاستثمار، وإن القانون في حال إصداره سيخلق جوًا من الثقة للمستثمرين بعد أن أصبح من الممكن إنشاء المشاريع في المنطقة، مؤكدًا أن الاستثناء من عقوبات “قيصر” سيسهم في إنعاش المنطقة اقتصاديًا.
وبحسب بارودو، ستركّز “الإدارة الذاتية” في الطرح الاستثماري على المشاريع الزراعية ومشاريع الاكتفاء الذاتي لـ”تحسين الوضع المعيشي للسكان، وتحقيق الأمن الغذائي في المنطقة”.
وكانت الخزانة الأمريكية أوضحت أنها لم تسمح بأي معاملات مع حكومة النظام أو تلك المصنفة بموجب العقوبات الأمريكية خلال الحرب التي استمرت 11 عامًا.
أثر اقتصادي محدود
هل يستفيد النظام؟
كانت الخارجية الأمريكية أوضحت موقفها من التراخيص المتعلقة بالإعفاء من عقوبات قانون “قيصر” في مناطق من شمال شرقي وغربي سوريا.
وقال المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية، ساميويل وربيرغ، في حديث إلى عنب بلدي عبر مراسلة إلكترونية، في 16 من أيار الحالي، إن الترخيص العام رقم “22” في سوريا ليس استثناء من العقوبات.
ويفوّض الترخيص أنشطة اقتصادية محددة في بعض المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام في شمال شرقي وغربي سوريا، بحسب وربيرغ.
الدكتور السوري في الاقتصاد ومدير الأبحاث في مركز “السياسات وبحوث العمليات”، كرم شعار، يرى أن الأثر الإيجابي المتوقع من الإعفاءات محدود في الأساس على المناطق المستهدفة أي المستثناة في الدرجة الأولى.
ولكن قد يستفيد النظام بسبب التداخل بين المناطق المستثناة والمناطق غير المستثناة، فمثلًا توجد أجزاء من مدينة القامشلي تحت سيطرة النظام، إلى جانب العديد من المناطق المهمة التي تعد عصب المدينة وتقع تحت سيطرته أيضًا، كالمطار الذي يعتبر خارج مناطق سيطرة “قسد”.
وقد تستفيد هذه المناطق من الاستثناءات المرتبطة بالعقوبات، ولكن لكون الأثر الإجمالي محدودًا للغاية، فستكون الاستفادة غير المباشرة للنظام محدودة بشكل أكبر.
ولفت شعار إلى أن المصاعب التي يواجهها المستثمرون حاليًا من القطاع الخاص أو حتى من المؤسسات الدولية العاملة في مجال التنمية كالبنك الدولي أو غيره، هي العقوبات بشكل أساسي، ولكن إلى جانب مشكلات أخرى لم تُحل بعد، إذ لا يوجد وضوح في القوانين الناظمة للاستثمار، فـ”الإدارة الذاتية” تقول إنها تعمل على الموضوع، ولكن لا يوجد حتى الآن أي وضوح.
وإذا بدأت شركة ما بالعمل في مجال الكهرباء على سبيل المثال، واستخدمت النفط الذي تستخدمه “الإدارة الذاتية”، وتبدل الوضع السياسي في المنطقة، وعادت سوريا تحت ظل حكومة واحدة، فضمن أي قانون ستعمل الشركة، وما الذي سيضمن لهذه الشركة أن القوانين التي ستفرض عليها، لن تكون قوانين مجحفة وستحفظ لها حقوقها.
كما يرى الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، أن الاستثناءات من العقوبات الأمريكية لن تنعكس آثارها الاقتصادية على المدى القريب، وفي هذه الجزئية يجدر التمييز بين كل من منطقتي النفوذ لـ”الإدارة الذاتية” وتركيا من حيث الأثر المتوقع على كل منهما.
لا تغيير كبيرًا في الشمال الشرقي
في المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي، بريف حلب وأجزاء من الرقة والحسكة، لن يحدث تغيير كبير على ما هو قائم، بحسب الباحث محمد العبد الله، فهذه المناطق بالأصل تنتشر فيها الاستثمارات من قبل الشركات التركية والمحلية، وفقًا للقوانين المعمول بها حاليًا، ومن غير المتوقع قدوم شركات أجنبية للاستثمار داخلها لأسباب سياسية.
إلى جانب أن البيئة الأمنية لا تزال دون المستوى المطلوب للتأسيس لمشروعات استثمارية كبيرة تسهم في التخفيف من معدلات البطالة وتحسين المستوى المعيشي للسكان.
ولا يتوقع العبد الله عودة الحركة التجارية مع النظام السوري، لوجود رفض محلي لإعادة فتح المعابر الداخلية معه.
ولكن ذلك لا ينفي وجود علاقات مالية وتجارية بين هذه المناطق ومناطق سيطرة النظام التي من المحتمل أن تتطور مستقبلًا.
عقبات في الشمال الشرقي
في مناطق “الإدارة الذاتية” التي يأتي النفط كأبرز مواردها، لا تزال هذه المناطق غير مؤهلة بعد لاستقطاب الاستثمارات الضخمة، لأسباب ترتبط بقلة الفرص الاستثمارية المتاحة في القطاعات الاقتصادية التي تمركزت أغلبيتها بعد عام 2014 في التجارة والعقارات.
ولم يسجل القطاع الخاص في شمال شرقي سوريا تطورًا ملحوظًا منذ تسلّم “الإدارة الذاتية”، وظل موجهًا نحو الإنتاج الغذائي بالمجمل، بحسب العبد الله.
غياب القطاع المصرفي
كما لفت الباحث الاقتصادي إلى غياب قوانين فاعلة ناظمة للاستثمار الأجنبي المباشر، إلى جانب التخلف والتمايز الضريبي وعدم الشفافية من قبل الإدارة الاقتصادية لدى السلطة الحاكمة.
ومن جانب آخر، لا يزال للنظام السوري موطئ قدم داخلها عبر بعض المؤسسات الحكومية، واعتمادها على مصارف حكومة النظام لتأمين السيولة في السوق، من دون أن يكون لهذه المصارف أي دور في الأنشطة الاقتصادية.
وبالتالي فإن الغياب شبه التام للقطاع المصرفي، والذي يمثّل أحد الأساسات المهمة لانطلاق الاستثمارات يشكّل تحديًا كبيرًا في هذا الصدد، في ظل حظر التعامل مع المؤسسات المالية للنظام السوري.
إلى جانب ما تقدم، يمثّل النفوذ الكبير للشبكات الاقتصادية المرتبطة بـ”الإدارة الذاتية”، التي تهيمن على أغلبية الاستثمارات المربحة عقبة أساسية أمام الاستثمارات المستقبلية في هذه المنطقة، نظرًا إلى الامتيازات المقدمة لها، وجل هذه الشبكات هي من رجال الأعمال المحليين ذوي الصلة بمسؤولين نافذين في حزب “الاتحاد الديمقراطي” والذين تجذر نفوذهم خلال الأعوام الماضية، وباتوا يسيطرون بشكل شبه كامل على الصفقات التجارية مع إقليم كردستان والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية ومناطق سيطرة النظام.
في حين تعوّل بعض المصادر المحلية على الاستفادة من هذه الاعفاءات في تنشيط قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، نظرًا إلى المساحات الزراعية المتوفرة والخبرة المحلية في هذا القطاع.
النفط
الاستثمار الأجنبي في قطاع النفط أمر غير مشجع، لأسباب ترتبط بإحجام الشركات النفطية الكبرى عن الدخول إلى هذه المنطقة التي تشهد استقطابًا حادًا بين مجموعة من الفاعلين الموجودين في الشمال الشرقي، وبين بيئة أمنية واقتصادية مضطربة لا تشجع الشركات على الاستثمار ضمنها.
كما أن المخزون النفطي وجودته وتكلفة استخراجه وتسويقه ليس بذاك العائد المغري للمخاطرة والعمل ضمن هذه المناطق، بحسب الباحث محمد العبد الله، وبالتالي انخفاض الجدوى الاقتصادية للشروع نحو هذا الاستثمار.
تحتاج عودة بعض الشركات النفطية الدولية والممولين الضامنين لها وإتاحة المجال للإنتاج والبيع والتسويق من خلال القنوات الدولية المشروعة إلى توافقات إقليمية ودولية.
ويجب النظر إلى وجود أي شركة أجنبية مستقبلًا في هذه المنطقة في إطار الرمزية السياسية التي تحاول من خلالها واشنطن شرعنة “الإدارة الذاتية” كسلطة محلية، بحسب العبد الله، إلا أن العقبات المرتبطة بالتخوف من الموقف التركي المعارض لرفع العقوبات عن هذه المناطق قد يشكّل تحديًا لدى الشركات الأجنبية على الإقدام على مثل هذه الخطوة.
وبالتالي لا يمكن المقارنة بين إقليم كردستان العراق وبين مناطق “الإدارة الذاتية”، نظرًا إلى فقدان الأخيرة السلطة الشرعية المعترف بها إقليميًا ودوليًا، وعدم التوصل بعد إلى حل سياسي مستدام في سوريا.
ويرى العبد الله أن واشنطن تركّز على انتشال المنطقة من الفقر لحمايتها من التنظيم، أكثر من تركيزها على محاولة محاصرة النظام السوري، وهي تدرك تمامًا استحالة قطع الاتصالات التجارية والمالية مع مناطق سيطرة النظام.
وسيستفيد النظام من هذه الخطوة، حيث لا يمكن الجزم بإمكانية فصل مناطق السيطرة في سوريا عن بعضها اقتصاديًا بسبب التداخل الكبير، وبالتالي أي انتعاش اقتصادي محتمل ضمن المناطق التي رُفع الحظر عنها ستنتقل آثارها مستقبلًا إلى مناطق سيطرة النظام.
–