صالح ملص | حسام المحمود | لجين مراد
“عرفت أن ابني أيهم استشهد من زميل له اعتقلا معًا من الجامعة، وجرى تعذيبهما في قاعة إدارية بكلية الطب البشري بجامعة (دمشق)، حوّلها شبيحة (اتحاد طلبة سوريا) إلى معتقل يحتوي أدوات تعذيب، وبعد معرفتنا بذلك، أقمنا لابني العزاء. لكن بعدها أُفرج عن شخص أكّد لنا أنه كان مع ابني وأنه بصحة جيدة، وبدأت بعدها مرحلة البحث عن الحقيقة”.
تحاول أم المعتقل أيهم غزول ومديرة “رابطة عائلات قيصر” وإحدى مؤسسيها، مريم الحلاق، خلال حديث مع عنب بلدي، إبراز تجارب أهالي المعتقلين الأليمة في انتظار أي معلومة يقينية قد تصلهم عن مصير أحبائهم المعتقلين في السجون السورية.
أسرة المعتقل نموذج إنساني ينتمي إلى عالم ممتلئ بالهواجس والقلق حول مصير أفراد من الأسرة شاركوا معهم ماضيهم وأحلامهم وشغفهم نحو المستقبل، اُعتقلوا أو اختفوا عمليًا داخل مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، لمجرد أنهم حاولوا، ولو لمرة واحدة، التعبير عن صورة حياة كما أرادوا العيش فيها، بكرامة وحرية واحترام لإنسانيتهم.
خلال الأيام الماضية، ظهرت من دمشق صور لتجمّع مئات الأشخاص في منطقة “جسر الرئيس”، بانتظار وصول حافلات تحمل المزيد من المعتقلين قادمين من سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، بعد إصدار “عفو عام” ضم أحكامًا في قانون “مكافحة الإرهاب” لعام 2012.
تجمّع في ساحات مختلفة بدمشق، منذ بداية أيار الحالي، أناس انقبضت وجوههم وتجهمت، وأنهك التعب أيامهم وأجهدها بعيدًا عن أحبائهم، ولن يُرد عنهم هذا البؤس إلا بمعرفة مصير أبنائهم، فهم لا يحتاجون إلا إلى ذلك.
المعتقلون المفرَج عنهم، الذين شاهدتهم مئات الأعين في لهفة حارة وآهات عميقة، انتهت بالنسبة إليهم تجربة قاسية امتصت بشاعتها من عمرهم ما يحتاجون إليه من قوة من أجل العودة لممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
ولا يزال عدد كبير من الأحداث المرتبطة بملف المعتقلين تحدث في سوريا، خصوصًا خلال الأيام الماضية، إذ أفرجت حكومة النظام عن عدة دفعات من المعتقلين في محافظات سورية مختلفة، أبرزها العاصمة دمشق.
كانت الإفراجات الأولى عشوائية، اتسمت بالفوضى وغياب تام للشفافية، دون توضيح أرقام وأسماء المفرَج عنهم، وسرعان ما ترافقت مع الإفراجات الأخيرة، في 5 من أيار الحالي، قوائم وصور عملية الإفراج بحضور أسر المعتقلين في مباني المحافظات.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف، فهم دوافع النظام من إصدار هذا “العفو”، إذ يعتبر الأول من نوعه الذي يمس الجرائم المصنفة بأنها “إرهابية”، وبحث ما إذا كان لهذا المرسوم أي تبعات حقوقية وسياسية على المستوى الإقليمي والعالمي.
أحلام تقتلها الزنازين
اعتقل ابن السيدة الحلاق مرتين خلال مشاركته في الثورة السورية، الأولى كانت في 16 من شباط 2012، وأُفرج عنه في أيار من نفس العام، وفي المرة الثانية، اُعتقل من على مدرج جامعة “دمشق” بكلية طب الأسنان، حيث كان يحضّر رسالة الماجستير، في 5 من تشرين الثاني من نفس العام، ووصلت إلى العائلة معلومات بأنه قُتل تحت التعذيب بعد خمسة أيام من اعتقاله.
رحلة البحث عن حقيقة مصير أيهم استمرت لمدة 17 شهرًا، قالت الحلاق، “لم أترك فيها بابًا لم أطرقه في سبيل معرفة الحقيقة، حصلت بعدها على شهادة وفاة من مستشفى (تشرين العسكري) بأنه توفي بتوقف قلب وتنفس بعد خمسة أيام فقط من اعتقاله”.
رغم تسلّمها شهادة وفاة ابنها بيدها، بقي لديها أمل في أنه على قيد الحياة، ليحقق الحلم الذي لطالما عمل على تحقيقه، “فأنا لم أتسلّم جثمانه ولا حتى هويته ولا شيئًا كان معه”.
تتحدث الحلاق عن ابنها، “كان لديه حلم بسوريا جديدة خالية من التسلّط الأسدي، وكان له دور كبير بتوعيتي بما يجري في سوريا من خلال قراءاته، فقد كان في الصف العاشر حين أحضر لي قصة (القوقعة) وكتاب (سوريا مزرعة الأسد)”.
شارك أيهم غزول في المظاهرات منذ انطلاقها، وبدأ العمل في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” لتوثيق الانتهاكات، حيث اعتقل من المركز في المرة الأولى، إلا أن حلم أيهم في رحلته نحو التغيير مات عند والدته الحلاق حين ظهرت صور “قيصر” المسربة عام 2014، فـ”حينها تأكدت أنني فقدته ولن أراه مرة ثانية”.
“مجزرة المكرُمة”
روّج النظام السوري للمرسوم والإفراجات على أنها “مكرُمة قدّمها السيد الرئيس للإرهابيين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء”، ورغم ما حملته هذه الخطوة من أمل لأهالي المعتقلين، حوّلتها سياسة النظام إلى سلسلة انتهاكات بحق المعتقلين الذين تركهم في الشوارع العامة، والأهالي المجتمعين في الساحات بحثًا عن أبنائهم في مشهد وصفه سوريون بـ”المجزرة”، كتعبير رمزي عن عدم تنظيم عملية الإفراج عن المعتقلين، وإذلال أهاليهم.
“مهما كان السياق الذي وُضع فيه العفو، ما فعله النظام لإطلاق سراح المعتقلين إذلال للمجتمع السوري بأكمله، أدى إلى كشف انتهاكات النظام وحجم المأساة الحاصلة”، وفق ما قاله مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، مشيرًا إلى التهديدات التي تلقاها الأهالي والطريقة التي اتبعها النظام لفض التجمعات مستخدمًا التهديد الأكثر خطرًا في سوريا، “منبعتك ورا اللي عم تستناه”.
عشوائية في الإفراج.. ما الأسباب؟
لم يعلن النظام خلال الأيام الأولى من عمليات الإفراج عن المعتقلين عن أعداد أو أسماء الأشخاص الذين سيشملهم العفو، كما قال معاون وزير العدل، نزار صدقني، في 2 من أيار الحالي، “لا يوجد حتى الآن رقم معيّن لعدد من تم إطلاق سراحهم، لوجود أكثر من جهة تعمل بالتنفيذ، ولكن مع انتهاء العمل به ستكون هناك إحصائية”، وهو مؤشر على العشوائية التي يتعامل فيها النظام السوري مع قضية المعتقلين.
الأخ الأصغر لأحد المعتقلين الذين أُفرج عنهم، عمر (27 عامًا)، قال لعنب بلدي، إن شقيقه وصل إلى منزله في 3 من أيار الحالي، بعد حوالي عشرة أعوام على اعتقاله، عاشوا أول ثلاثة أعوام منها بين الأمل بعودته واليأس من ذلك، إلى أن تسلّمت عائلته في 2016 شهادة وفاته.
“عشنا لسنوات على أساس استشهاد أخي محمد، تزوج أخي الأكبر زوجته ليحتضن أبناءه، وبكينا جميعًا لليالٍ طويلة يأسًا من عودته”، مشيرًا إلى أنه رغم الفرحة الكبيرة التي عاشتها العائلة عند الإفراج عنه، لم تكتمل الفرحة بسبب عشوائية النظام حتى في توثيق وفاة المعتقلين في سجونه.
ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي أكدت أن سياسة النظام تلاعبت بعواطف عشرات الأهالي حتى الذين وصلتهم أنباء حول وفاة أبنائهم، إذ أضاءت عودة المعتقلين الذين اعتقدت عائلاتهم أنهم قُتلوا تحت التعذيب، شعلة أمل في حياة آخرين كانوا قد فقدوا الأمل وأقاموا العزاء لأبنائهم.
قريب المعتقل عمر، الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، قال إنه “منذ البدء بالإفراج عن المعتقلين، عاد الأمل إلى منزل عائلتي في دمشق رغم مضي عشر سنوات على اعتقال ابن خالتي، ما دفع والدته للانتظار في الطرقات ليومين متتاليين لعلها تصل إلى أي خبر عن ابنها”، مشيرًا إلى أن أي خبر ستحصل عليه اليوم سيعيدها للحظة التي وصلتها فيها أنباء عن وفاته، وأن وجع الفقد سيتكرر بطريقة أكثر قسوة، وفق تعبيره.
الحقوقي محمد العبد الله، قال إن “النظام السوري لديه رغبة بتمييع قضية المعتقلين والمفقودين، وحتى اليوم لم يصدر أي رقم رسمي عن عدد المعتقلين”، مشيرًا إلى أن هذه سياسة النظام الدائمة لسنوات للتعتيم على القضايا وطمس “الجرائم” التي تدينه بما يخص قضية المعتقلين وغيرها من القضايا.
ورغم أن الإفراج عن المعتقلين يصب في مصلحة النظام لتلميع صورته، تعمّد النظام اتباع السياسة العشوائية ذاتها للحفاظ على سرية الحقائق والأرقام التي تظهر عدد المعتقلين في سجونه، وفق ما يعتقده العبد الله.
كما أكّد مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، دياب سرية، في حديث إلى عنب بلدي، أن النظام مستفيد بالدرجة الأولى من غياب الإحصائيات، فهذا الخيار يخدم إنكار النظام لأعداد المعتقلين.
وأضاف سرية أن النظام يحتاج إلى سنوات طويلة لإحصاء عدد المعتقلين في سجن “صيدنايا” وحده، مشيرًا إلى أن سنوات الاعتقال والقتل داخل المعتقلات في سوريا تجعل من الصعب إحصاء الأشخاص الذين قُتلوا تحت التعذيب أو ما زالوا أحياء في المعتقلات، فهذا اليوم أمر معقّد حتى بالنسبة للنظام.
السمسرة.. “بزنس محلي” يديره النظام
منذ بدء حملات الاعتقال في سوريا عام 2011، نشط مئات السماسرة وعصابات الاحتيال التي تستغل عجز الأهالي الذين هم على استعداد دائم لخسارة أي شيء مقابل الحصول على معلومة واحدة تطمئن بها قلوبهم على أحبائهم في ظل تحويل معظم الاعتقالات في سوريا إلى حالات اختفاء قسري.
“النظام مستفيد من انتشار السمسرة ماديًا باعتبارها جزءًا من (البزنس المحلي) الذي تديره أجهزة الأمن”، بحسب ما يراه الحقوقي محمد العبد الله، فعلاقة النظام بالسماسرة يزداد نشاطها تزامنًا مع إصدار مراسيم “العفو العام” أو أنباء عن إفراج عن المعتقلين.
“لو أن الابتزاز الذي يقوم به السماسرة يمكن أن يطمئن الأهالي من خلال تقديم معلومات حقيقية، يمكن لهم تجاهل كافة التحذيرات المقدمة من قبل المنظمات، ودفع كل المبالغ المطلوبة للحصول على معلومة دقيقة واحدة”، بحسب ما أضافه العبد الله.
ويعتقد الحقوقي أن السمسرة تكون بشكل ممنهج من قبل النظام، موضحًا أن من بين كل ألف حالة يمكن أن يفرج النظام عن خمس حالات لخدمة إحدى عصابات الاحتيال من خلال ابتزاز الأهالي عاطفيًا ودفعهم نحو السمسار المسؤول عن عملية الإفراج لمحاولة مساعدة أبنائهم.
من جهته، أوصى مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، دياب سرية، الأهالي بعدم الانجرار وراء العصابات التي نشطت بكثرة خلال الأيام الماضية، مؤكدًا عدم قدرة أي شخص على إضافة أسماء المعتقلين إلى قائمة الأشخاص الذين يشملهم العفو.
وأطلقت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، في 2021، دليلًا للحماية من عمليات الاحتيال والابتزاز المالي لأهالي المعتقلين والمختفين قسرًا.
ويتكوّن الدليل من كتيّب (33 صفحة) يعرض أبرز الطرق والوسائل التي تتبعها عصابات الاحتيال والابتزاز ورجال الأمن، وبعض المحامين والوسطاء داخل سوريا في ابتزاز أهالي المعتقلين والمختفين قسرًا ماليًا مقابل تقديم أو تزوير معلومات ووثائق عن أبنائهم وأحبتهم المعتقلين أو المختفين قسرًا.
كما يحتوي على بعض الأفكار والنصائح التي من الممكن أن تساعد العائلات والعاملين على قضية الاعتقال والاختفاء القسري في كشف عمليات الاحتيال والتزوير والانتباه إليها.
وأطلقت “الرابطة” حملة استجابة طارئة للرد على استفسارات الأهالي والعائلات، وتقديم الدعم النفسي والمساعدة في عملية البحث وتقديم المشورة والنصح والتوجيهات خلال السؤال عن المعتقل أو المختفي قسرًا، ولتجنيبهم عمليات الابتزاز والخداع خلال الظروف الحالية. يمكن لهؤلاء الاتصال بـ”الرابطة” في أي وقت على مدار الـ24 ساعة على الأرقام التالية:
1. مركز “العائلة” للحصول على خدمات الدعم النفسي 00905387240727
2. فريق التوثيق للحصول على دعم وتجنّب عمليات الاحتيال أو الاستفسار عن معتقل 00905389367364
غير مسبوق..
هل يشمل “العفو العام” جميع معتقلي الرأي؟
في الوقت الذي لا يوجد فيه أي دليل على جدية مرسوم “العفو العام” الجديد، تكون خطوة الإفراج عن المعتقلين أمرًا مهمًا ومطلبًا أكيدًا من قبل جميع المنظمات الحقوقية السورية والدولية.
تكمن أهمية هذا المرسوم بأنه يلامس الجرائم المرتكبة بموجب قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19” لعام 2012، وفي العام نفسه صدّق رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على القانون رقم “22” المؤسس لمحكمة “مكافحة الإرهاب” كي تقضي بذلك القانون.
استخدم النظام السوري قانون “مكافحة الإرهاب” ومحكمته الاستثنائية المتخصصة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم من الناشطين السلميين، وفق ما قاله المحامي والناشط الحقوقي السوري المعتصم كيلاني، خلال حديث إلى عنب بلدي، حيث يحاكم المعارضين بتهمة “الترويج للأعمال الإرهابية”.
ولم يشترط المرسوم، مثل مراسيم العفو العام السابقة، تسليم المطلوب نفسه خلال مدة محددة، كما لم يشترط تسديد الغرامات أو التعويضات المحكوم بها للدولة، ولم يشترط صفح الفريق المتضرر.
لكن في نفس الوقت، لم يشمل العفو الجديد جميع معتقلي الرأي أو المعارضين المطلوبين المنفيين في خارج سوريا، كونه لم يتطرق للجرائم الواقعة على أمن الدولة في قانون العقوبات السوري.
ولا ترتكب هذه الجريمة ضد الدولة باعتبارها شخصًا من أشخاص القانون الداخلي، فهي لا تهدف إلى النيل من استقلالها أو الانتقاص من سيادتها أو تهديد سلامة أراضيها، وإنما تهدف إلى الانتفاض على أجهزة الحكم، أو التمرد على مؤسسات السلطة القائمة بموجب الدستور، أو إجراء تغيير في القواعد التي نص عليها الدستور لتحديد شكل الحكم وأصول ممارسته.
وبالنسبة إلى الذين يحاكَمون أمام محكمة “الإرهاب”، فبإمكان ذويهم مراجعة المحكمة، أما بالنسبة إلى الموقوفين أمام المحكمة المدنية والأفرع الأمنية فلا يمكنهم ذلك.
والمحاكم المختصة بالإرهاب مقرها دمشق، ولا تتقيّد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة، وفق ما أوضحه الحقوقي كيلاني، وذلك في جميع أدوار الملاحقة والمحاكمة (لا تتقيّد بالأصول الواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية).
كما تُنقل إليها جميع دعاوى الإرهاب المنظورة أمام كل المحاكم وفق حالتها الراهنة.
الباحث الحقوقي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” منير الفقير، قال لعنب بلدي، إن النظام دائمًا يعمل على إقامة تحركات سيادية مرتبطة بملف المعتقلين خارج نطاق أي حل سياسي توافقي مع أطراف النزاع السوري، كي يرسل رسالة واضحة ومباشرة لجميع الأطراف بأن هذه القضية هي بيد النظام فقط، وليس هناك أي استعداد من قبله للتنازل عنها.
وأوضح الفقير أن المفرَج عنهم (بمعظمهم) معتقلون منذ أعوام قليلة، وأغلبهم هم أبناء مناطق تحت سيطرة النظام السوري، ولا يشكّلون أي خطر عليه سواء سياسيًا أو حقوقيًا أو عسكريًا.
الإفراج عن الجميع أمر مهم، لكن هؤلاء المفرَج عنهم ليس لديهم موقف سياسي معلَن، ولم يشاركوا بنشاط خطير على النظام وأجهزته الأمنية، والذين كانوا مؤثرين بشكل جدي على النظام إلى الآن لم يخرج منهم أحد، أو قُتلوا تحت التعذيب، بحسب الباحث منير الفقير.
وأوضح الباحث أن جزءًا كبيرًا من الناشطين محكومون بموجب المادة “305” من قانون العقوبات السوري، التي تنص على أن القيام بعمل إرهابي أدى إلى قتل إنسان ولو بشكل غير مباشر يستوجب الإعدام، أو السجن مدة 15 إلى 20 عامًا في حال لم يفضِ إلى الموت.
ما الفرق بين الاعتقال والاختفاء
يعرّف الاعتقال بحسب منظمة العفو الدولية على أنه اعتقال أشخاص دون سبب مشروع أو دون إجراء قانوني، وهو عادة يسبق الاختفاء. وتهدف “الاتفاقية الدولية” لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” التابعة للأمم المتحدة إلى منع الاختفاء القسري المحدد في القانون الدولي. وتعرفه المادة “2” من الاتفاقية بأنه الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، ما يحرمه من حماية القانون. ويقع على عاتق الدولة اتخاذ التدابير الملائمة للتحقيق في التصرفات المحددة بالمادة “2”، التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن أو دعم أو موافقة من الدولة، وتقديم المسؤولين إلى المحاكمة. |
أهداف بعيدة وقريبة.. رسائل التوقيت
ترافق مرسوم “العفو العام” عن “الجرائم الإرهابية” بجملة متغيرات إقليمية، أبرزها ارتفاع مستوى الخطاب السياسي الداعي لإعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا، باعتبارها “آمنة”، إلى جانب تذمر متواصل من “أعباء” استقبالهم.
تركيا.. عودة طوعية لمليون لاجئ
في 3 من أيار الحالي، أوضح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مساعي بلاده لإعادة مليون لاجئ سوري إلى 13 منطقة في مدن جرابلس والباب وتل أبيض ورأس العين، بالتعاون مع المجالس المحلية في تلك المناطق.
تصريحات الرئيس التركي التي جاءت خلال مكالمة فيديو ضمن مراسم تسليم مفاتيح منازل “الطوب” في إدلب، بالتنسيق مع إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد)، وبحضور وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، سبقتها انتقادات حادة من قبل سياسيي أحزاب المعارضة التركية، تناولت ذهاب السوريين إلى مناطق الشمال “المحرر” لقضاء إجازات العيد، ثم العودة مجددًا إلى تركيا، ما يعني أن سوريا وفق رؤية هؤلاء السياسيين صارت جاهزة لاستقبال اللاجئين.
بدورها، ألغت إدارة الهجرة التركية إجازات العيد في 20 من نيسان الماضي، وتبع ذلك تصريحات تركية رسمية متواترة تتحدث عن “عودة طوعية” لمليون لاجئ سوري، مع اقتراب الانتخابات التركية المزمع إجراؤها العام المقبل.
ومن أبرز تلك التصريحات، ما جاء، في 5 من أيار الحالي، على لسان وزير الداخلية التركي، الذي أكد استعداد أنقرة لبناء نحو 100 ألف منزل في محافظة إدلب، وتسليمها مع حلول نهاية العام الحالي، موضحًا أن تمويل مشاريع المنازل التي تبلغ مساحة كل منها 40 أو 60 أو 80 مترًا مربعًا، من المنظمات الخيرية الدولية بالكامل.
ويقيم في تركيا ثلاثة ملايين و712 ألفًا و47 لاجئًا سوريًا، بموجب “الحماية المؤقتة”، بحسب إحصائيات المديرية العامة لرئاسة الهجرة التركية الصادرة في 28 من نيسان الماضي.
لبنان غير قادر على تحمّل ملف “النازحين”
في ظل تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي في لبنان، وفي اليوم نفسه الذي صدر به مرسوم “العفو العام”، أعلن وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني، هيكتور حجار، أن بلاده أبلغت الأمم المتحدة بعدم قدرتها على تحمّل ملف “النازحين” السوريين.
وبيّن حجار أنه اجتمع بممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان، أياكي إيتو، لتسليمه الموقف الرسمي للحكومة اللبنانية، إثر اجتماع اللجنة الوزارية المكلّفة ببحث موضوع “النازحين” السوريين.
يوجد في لبنان نحو 900 ألف لاجئ سوري، يعيش 89% منهم تحت خط الفقر المدقع، وفق تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لتقييم أوجه الضعف حول اللاجئين السوريين لعام 2020، ما يكشف ارتفاع النسبة بمقدار 34% عن عام 2019.
تشويش على قضية “مجزرة التضامن”؟
وإلى جانب التململ من حالة اللجوء السوري في بعض دول الجوار، اتخذ مرسوم “العفو العام” من “مجزرة التضامن” خلفية زمنية سبق ظهورها للعلن مرسوم الأسد بثلاثة أيام فقط، إذ كشف تحقيق لصحيفة “الجارديان” معلومات حول مجزرة ارتكبتها قوات النظام السوري في 16 من نيسان 2013، في حي التضامن بدمشق، ما أسفر عن مقتل 41 شخصًا وإحراق جثثهم ودفنهم في مقبرة جماعية.
المجزرة التي تصدّر الحديث عنها نشرات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، انحسر بعض ضوئها أمام انتظار دفعات المعتقلين المفرَج عنهم من سجون ومعتقلات النظام، لكن مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، نفى وجود علاقة بين المجزرة ومرسوم “العفو العام”.
وأوضح أن التحضير للمراسيم يتطلب أسابيع من العمل المسبق، وتحديد عدد من يمكن إخراجهم، والنظر إلى تهمهم، ونقلهم بين معتقلات وسجون، لافتًا إلى عدم اكتراث النظام بتوثيق مصوّر من هذا النوع أمام آلاف التسجيلات والفضائح السابقة لعناصر قواته، بما فيها صور “قيصر”.
تغاضٍ إعلامي وتلاعب بالألفاظ
أمام تجمّع آلاف المواطنين تحت جسر “الرئيس” بدمشق، بانتظار أبنائهم وأقاربهم المعتقلين في سجون النظام، غابت التغطية الإعلامية الرسمية لحدث مؤثر في حياة شريحة واسعة من المواطنين تشرحه الجموع المحتشدة ليس بعيدًا عن مقر الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
واقتصرت التغطية من دمشق على تقرير مصوّر نشرته إذاعة “شام إف إم” المحلية، في 4 من أيار الحالي، قبل أن تحذفه من مختلف معرفاتها الإلكترونية.
واستطلع التقرير آراء مجموعة من المواطنين انطوت على انتقادات لعشوائية إخراج المعتقلين وما سببته من انتظار لساعات طويلة في الطرقات، إضافة إلى غياب وجود نشرات بأسماء من سيخرجون من المعتقلات، ما يعني أن انتظار البعض قد يضيع سدى، وأن الأمل وحده ما يبقيهم في الطرقات.
التقرير الذي امتد لأربع دقائق ونصف تقريبًا، حمل الكثير من الشكوى على لسان ذوي المعتقلين، تلك الشكوى المسبوقة بعبارات “تبرئة ذمة وطنية”، حتى لا يشكّك بولائهم، ولكنها متبوعة باستفسارات وأسئلة متعطشة للأجوبة حول مصير أبناء وإخوة مغيّبين منذ سنوات في أقبية السجون دون معرفة أماكن وجودهم، أو التهم المنسوبة لهم، وما إذا كانوا خضعوا للمحاكمة أصلًا.
تقرير “شام إف إم” الذي اختفى من الفضاء الإلكتروني دون توضيح أسباب حذفه من قبل الإذاعة، يشدد عبره بعض المواطنين بالدموع والرجاء، على أن معتقليهم ليسوا “إرهابيين”، ولم يرتكبوا جريمة أو جنحة ما، لكنهم مختفون منذ مدة تتراوح بين سبعة و11 عامًا، والحديث الطاغي في التقرير يتمحور حول وجود أكثر من معتقل للعائلة، إذ تحدث شاب عن اعتقال والده منذ 11 عامًا، وأخيه منذ ثمانية أعوام، في سجون النظام.
وعلى مستوى التغطية الخبرية، نقلت صحيفة “الوطن” المحلية، ووسائل إعلام وشبكات مقربة من النظام، أنباء إطلاق سراح المعتقلين، مع تغيير “تجميلي” في توصيفهم، واعتبارهم “موقوفين” لا معتقلين.
غياب القرار الأمني بتصوير ما يجري، في الدفعات الأولى من المعتقلين على الأقل، غيّب وسائل الإعلام الرسمية عن مجريات حدث بهذا الحجم، كما أن الصدى الذي حققه تقرير “شام إف إم” جاء فوق المتوقع، إذ تجاوز شكر السلطة إلى المطالبة بالمعتقلين، ما دفع الإذاعة لحذفه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :