الثأر في الجنوب.. غياب القانون تضبطه العشائر
عنب بلدي – خاص
تشهد محافظة درعا عددًا كبيرًا من محاولات الاغتيال والقتل من قبل مجهولين، بعيدًا عن الأبعاد الأمنية والطبيعة السياسية للمنطقة، يُترجَم بعضها على أنه ثأر عشائري، بحسب ما قاله نائب محافظ درعا، عبدو خشارفة، خلال حديث إلى إذاعة “شام إف إم” المحلية.
ومع غياب القانون، واقتصار دور أجهزة الأمن على عمليات لتحقيق مكاسب ونفوذ في المحافظة، تتكرر حالات اندفاع عائلة أو عشيرة المقتول إلى مهاجمة خصمها من منزل آخر أو عائلة أخرى ثأرًا لقتيلها، ما يؤدي إلى خسائر في الأرواح أو خسائر مادية ناتجة عن إحراق منازل لمدنيين من الطرفين.
أحدث هذه الحالات جرى في 27 من نيسان الماضي، إذ هاجم أقارب الشاب محمد إبراهيم الحسن، الذي قُتل إثر خلاف شخصي، منازل تعود ملكيتها لعائلة اتهموها بقتل ابنهم.
غياب القانون
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لم تعد محاكم القضاء تصل إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، الأمر الذي زاد من حوادث القتل والقضايا الجنائية لغياب العقوبة الرادعة لها.
وفي درعا شُكّل ما يسمى “دار العدل” مع سيطرة المعارضة السورية، بدعم محلي وفصائلي، وقامت بدور في ملاحقة الانتهاكات وفض الخصومات ومحاكمة المتهمين بقضايا جنائية، إلى أن اغتيل رئيسها أسامة اليتيم، ثم الضغوطات التي تعرضت لها في أثناء إدارتها من قبل القاضي عصمت العبسي، إلى أن تراجع دورها نهائيًا مع سيطرة النظام السوري على المحافظة عام 2018.
ومع عودة سيطرة النظام على درعا، تراجع الدور القضائي، فيما يفسر على أنه عدم رغبة من النظام السوري بتحسين الوضع الأمني في المنطقة.
ويرى الأكاديمي والباحث المختص بالسوسيولوجيا السورية الدكتور طلال المصطفى، أن غياب دولة القانون سبب رئيس في حالات الاقتتال والاحتقان العشائري الذي ربما يمتد لأشخاص أبرياء تربطهم علاقة قرابة بالجاني، ممن قد يكونون من أصحاب الأهمية المجتمعية أو العلمية.
وأوضح أن وصول حزب “البعث” إلى السلطة في سوريا عزّز سلطة العشيرة، ولم يسعَ لدولة المواطنة الديمقراطية، بل واستغل العشائرية وقتال الطوائف في “هتك النسيج المجتمعي السوري” لضمان عدم خلق جبهة مجتمعية موحدة ضده، بحسب المصطفى.
ويرى أن من الأسباب الدافعة للاقتتال هو فساد المحاكم، فعندما يشعر ذوو القتيل أن القاتل لم يلقَ جزاءه، يلجؤون لأفعال العنف لأخذ حقهم، وبالتالي فإن وجود محاكم عادلة ربما يحد من وقوع الجريمة أو امتدادها.
واعتبر المصطفى أن تثقيف المجتمع وتوعيته عن طريق منظمات مجتمعية أمر مهم في الحد من الاقتتال، ولكن “البيئة السورية الدكتاتورية غير ملائمة لعمل منظمات كهذه”.
لجان عشائرية تفصل بالقضايا
مع عودة سيطرة النظام على الجنوب السوري نهاية عام 2018، انتهى دور مؤسسة “دار العدل”، التي وجد المجتمع فيها وسيلة لوقف الاقتتال العشائري، وفض النزاعات على طريقة الأعراف العشائرية التي تلقى قبولًا نسبيًا من سكان المحافظة.
أحد وجهاء مدينة طفس بريف درعا، قال لعنب بلدي، إن لشيوخ العشائر حاليًا دورًا في فض النزاعات وتحكيم الخلافات بناء على أحكام الشريعة الإسلامية والأعراف العشائرية المتوارَثة والمتعارَف عليها بين عشائر المنطقة.
وأضاف أن هناك إجراءات تتمثل بداية في “العطوة” (مهلة تُحدد بأيام يُعطى من خلالها أهل القاتل الأمان لحين البدء بمشاورات الصلح وإحقاق الحق وفق قبول من الطرفين)، ثم تكليف أسرة القاتل لوجهاء يكون شيوخ العشائر على رأسهم للبت في القضية، ومن المُشترط هنا أن تكون هذه اللجنة على دراية بالأعراف المتّبعة في هذه الحوادث.
وتبدأ هذه اللجنة المعروفة محليًا باسم “الجاهة” بزيارة الطرفين وتقريب وجهات النظر، في محاولة لوقف الاحتقان وتخفيف الغضب الناجم عن خسارة أحد أفراد العائلة أو الأقارب.
وتحكم اللجنة بالقضية بعد الاطلاع على مجرياتها، ومن الممكن أن يصل الحكم إلى “القصاص من القاتل” (الإعدام)، إلا أن هذا الحكم لم يجرِ تطبيقه سابقًا في درعا، بحسب ما رصدته عنب بلدي خلال السنوات الماضية.
ومن الأحكام السائدة في النزاعات العشائرية حكم “الدية” (دفع مبلغ تعويضًا عن الخسارة) مع طرد القاتل من المنطقة لمدة زمنية تحددها اللجنة، وقد يعفو أهل المقتول عن القاتل دون مقابل، بما يعرف محليًا بـ”الشوم”، وهو صلح بين الطرفين.
الباحث طلال المصطفى أضاف أن غياب القانون دفع بالبنية التقليدية العشائرية إلى حل الإشكاليات من جرائم وخلافات بين السكان عبر الوجهاء، حتى إن الطوائف الدينية في سوريا أوجدت مجالسها الخاصة للحكم في مثل هذا النوع من القضايا، وصار لوجهائها دور إيجابي في مرحلة ما.
ولكن قد يتحول الوجهاء إلى سلطة مُنسِّقة مع أجهزة النظام الأمنية كالشرطة والمحاكم، إلا أن هذا الدور في النهاية يحمل صفة “الحل المرحلي المؤقت” الذي يشكّل إيجابية في حل النزاعات، لكنه يصبح عبئًا في وجه تطبيق القانون على المدى البعيد.
واعتبر المصطفى أن الأعراف العشائرية صارت سلطة تبحث عن مكانها المجتمعي لتطبيق أعرافها، لكن وفي حال عودة سلطة المحاكم في “دولة ديمقراطية يحكمها القانون”، سينتهي دور هذه السلطة تدريجيًا.
الثأر.. حالة متكررة في درعا
في كانون الأول من عام 2021، قُتل ثلاثة أشخاص وجُرح آخرون، إثر تفاقم خلاف عائلي في مدينة طفس بريف درعا الغربي، تحول إلى اشتباكات مسلحة بين عائلتين من كبرى عائلات المدينة، الأمر الذي أسفر عن اشتباكات مسلحة وعمليات إحراق منازل عشوائية من قبل طرفي الخلاف، بحسب ما أفاد به مراسل عنب بلدي في درعا حينها.
ويمتد الخلاف بين العائلتين لنحو عامين، إذ سبق أن تطور الخلاف وامتد لعائلة الزعبي، إحدى كبرى عائلات مدينة طفس، وأسفر عن ظهور كميات كبيرة من السلاح، وحصار قوات النظام للمدينة لاحقًا، طلبًا لتسليم السلاح الذي ظهر خلال الاقتتال.
وفي كانون الثاني من العام نفسه، قُتل خمسة مدنيين في مدينة طفس، غربي درعا، بعد اشتباكات عشائرية استمرت ليوم كامل، مسببة حالة من الذعر بين سكان المدينة، وأضرارًا بممتلكاتهم.
وأفاد مراسل عنب بلدي في درعا حينها، أن الاشتباكات التي نشبت بين عشيرتي “الزعبي” و”كيوان”، أكبر عشائر مدينة طفس، لم تكن الأولى من نوعها، وأسفرت عن إغلاق المدارس وأسواق المدينة.
وأصدر “مجلس عشيرة وأعيان درعا البلد” على خلفية الاقتتال بيانًا ناشد فيه أطراف القتال بالتهدئة.
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في درعا حليم محمد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :