عنب بلدي- صالح ملص
“بعدما صارت المجزرة الأولى في داريا هربنا من بيتنا إلى ركن الدين، كنت خائفة أنا وأولادي وزوجي، بقينا هناك لفترة طويلة، اعتقلوا خلالها زوجي لمدة شهر، ومن بعدها قررنا اللجوء إلى أوروبا كما فعل الكثير من الناس”.
تسرد سمر الفرا، البالغة من العمر 48 عامًا، لعنب بلدي، قصة لجوئها من مدينة داريا الملاصقة للعاصمة دمشق من الجهة الجنوبية الغربية عام 2012، حين اقتحمتها قوات النظام السوري وارتكبت أولى المجازر فيها.
كانت سمر وأولادها الأربعة وزوجها يسكنون في منطقة المحكمة بداريا القبلية، بجانب جامع “أبو سليمان الداراني“، حيث شهد هذا الحي انتهاء حياة أشخاص من سكانه بدم بارد على يد الجناة في آب 2012، حينها أُعدم كثيرون من سكان المنطقة رميًا بالرصاص من مسافة قريبة خلال مداهمة البيوت من قبل قوات النظام.
تحدثت سمر عن معاناة عائلتها باللجوء إلى أوروبا في عام 2015 عن طريق البحر، حيث تقيم الآن في الدنمارك، البلد الذي التصق اسمه في أذهان آلاف اللاجئين السوريين بسبب إصداره قرارات ترحيل العشرات منهم بعد أن صارت “دمشق مدينة آمنة” ضمن تقارير السلطات الدنماركية عام 2019.
سجلت مدينة داريا حضورها المبكر في الثورة السورية عام 2011، حيث “شاركت أغلبية الأهالي بالمظاهرات ضد النظام، وشاركتُ معهم تلك المظاهرات، مع مرور الوقت صارت المظاهرات تخرج بشكل منتظم، وشاركتُ بتوزيع الأدوية للمصابين الذين تعرضوا للقصف في المستشفيات الميدانية”، وفق ما ذكرته السيدة الأربعينية.
تعرضت أسرة سمر الفرا لعدة انتهاكات ضد حقوقها بالحرية، إلا أنها نجحت بالنجاة منها ومغادرة سوريا بهدف الاستقرار في أوروبا.
من الدنمارك.. هنا “دمشق الآمنة”
في 2020، تقدمت سمر الفرا بطلب من “هيئة تظلم اللاجئين الدنماركية” للحصول على اللجوء السياسي، وسط مخاوف آلاف اللاجئين في البلاد من قرارات الترحيل بحجة أن “دمشق مدينة آمنة”.
وفي 29 من تموز 2021، وصل طلب سمر الفرا بالرفض.
“طلبوا مني مغادرة الدنمارك خلال 15 يومًا، وقدموا لي مبلغًا من أجل تسلّمه وقت الترحيل، لكنني رفضت المال ورفضت الترحيل، وأنا الآن أخوض معركة بقائي في الدنمارك من خلال توكيل محامية كي تتابع قضيتي”، بحسب سمر، التي اعتبرت أن العودة إلى دمشق تعني مخاطرة كبيرة على مستقبل استقرار أسرتها بسبب تضرر بيتها في داريا وخطر سلب حقها في العودة إليه بموجب قوانين عقارية.
إلى أين العودة؟
بينما يعاني سوريون من صعوبة تأمين استقرارهم الجغرافي خارج سوريا، وميل بعض الحكومات الإقليمية والعالمية لإعادة اللاجئين إليها، يعمل النظام السوري على تعقيد ذلك من خلال سلب ممتلكاتهم العقارية، عبر إقامة مخططات تنظيمية تمحو معالم مناطقهم الأصلية بمشاريع استثمارية لا يستطيعون أن يكونوا جزءًا منها، ومن الأمثلة على ذلك حالة سمر الفرا، ومثلها حالة أغلب السكان الذي فرّوا هربًا من القتل أو الاعتقال.
في 24 من نيسان 2018، نشرت وزارة الأشغال العامة والإسكان السورية عبر صفحتها الرسمية في “فيس بوك“، ما أسمته حينها بـ“مبادرة مديرية التخطيط العمراني ورؤيتها لإعادة تخطيط وإعمار مناطق متضررة في مدينة داريا”.
ونشرت حينها مخططًا تنظيميًا جديدًا للمدينة، بمنزلة اقتراح التدخل في أربع مناطق نسبة الأضرار العمرانية فيها عالية، ولمعالجة مشكلة السكن العشوائي في تلك المناطق، وهي: منطقة مركز المدينة، المنطقة الجنوبية، المنطقة الجنوبية الغربية، المنطقة الشمالية.
المخطط التنظيمي لمدينة داريا مصدّق منذ 2004، لكنه غير مملوء، وفق ما قاله المهندس محمد مظهر شربجي، الذي شغل سابقًا رئيس شعبة المهندسين بريف دمشق، في حديث إلى عنب بلدي.
وأوضح المهندس، وهو من أبناء مدينة داريا، أن “إعداد المخططات التنظيمية يكون عند وجود حاجة لتوسعة وإعادة عمران وإقامة مناطق جديدة نتيجة احتياجات عدد السكان الزائد، وهذا يكون ضمن مدة زمنية محددة، فكل ثلاث سنوات يحق لمجلس المدينة أن يعدّل على المخطط التنظيمي، ويحق له كل خمس سنوات إعادة فتح مخطط تنظيمي جديد، إذا كانت هناك حاجة”.
وفي 2011، كان المخطط التنظيمي للمدينة جديدًا وغير مملوء، أي أن مساحة المدينة ليست بكاملها مبنية وفق المخطط التنظيمي.
تكمن المخاطرة الرئيسة في هذا المخطط، وفق المهندس شربجي، في أنه لم يعالج مشكلة العشوائيات بناء على أسس دقيقة ومدروسة، إذ شمل المخطط المناطق المدمرة بالكامل، مثل المنطقة الشمالية الشرقية (تُعرف باسم الخليج) المحاذية لمطار “المزة العسكري”، وهذه المنطقة “صفحة بيضاء”، لا يوجد فيها لا مناطق سكنية نظامية ولا حتى عشوائية، إنما تم تجريفها بالكامل، بعد تدميرها من قبل قوات النظام.
أما منطقة مركز المدينة، في محيط مقام “السيدة سكينة” الذي بدأ إنشاؤه عام 2003، فهي غير عشوائية، بل تملك ضابطة بناء بمساحة وجائب منظمة، ومساحاتها العقارية منسقة القوانين والقرارات الإدارية، ولا داعي لإدخالها ضمن المخطط التنظيمي الجديد.
وفي هذه النقطة أشار المهندس إلى وجود احتمالية كبيرة بالاعتداء على ملكيات الناس عن طريق مسح المنطقة بأكملها، بحجة معالجة مشكلة العشوائيات، وتطبيق المخطط التنظيمي الجديد، وتحوّل الملكية العقارية المترية إلى ملكية عقارية سهمية فقط.
ولا يعد من اختصاص وزارة الأشغال العامة والإسكان إصدار مثل هذه المخططات التنظيمية، وإنما من اختصاص وزارة الإدارة المحلية، وفق ما أوضحه المهندس.
بعض المناطق داخل داريا وصلت فيها نسبة الأضرار العمرانية إلى 100%، وفي منطقة مركز المدينة بلغت نسبة الأضرار حوالي 85%، بينما بعض المناطق المدمرة بالكامل لم يشملها التنظيم، بحسب ما أشار إليه المهندس، في الوقت نفسه هناك مقترح بأن يكون مركز المدينة وسطًا تجاريًا استثماريًا سياحيًا بأسلوب حضاري وعصري، ما يؤثر على المساحة السكانية الأصلية في المدينة.
“واضح بالنسبة لنا أن المقصود هنا بجعل مركز المدينة وسطًا سياحيًا، هو السياحة الدينية المرتبطة بمقام (السيدة سكينة) لا أكثر”، بحسب ما قاله المهندس شربجي، وهذا الأمر له أبعاد سياسية وأمنية (مقام السيدة سكينة أنشأته إيران عام 2003، وسط تشكيك السكان بوجود مقام في الأصل).
أصحاب المصلحة في هذا الموضوع هم “المجلس المحلي البلدي، هو المختص باعتماد المخطط التنظيمي، ونسبة المساحة السكانية، ونسبة مساحة المراكز التجارية، ومساحة الخضار”.
تشتهر داريا بصناعة الأخشاب والموبيليا والمفروشات المنزلية، ولا يتعارض ذلك مع إقامة مراكز تجارية من شأنها خلق فرص عمل لمجموعة واسعة من المجتمع المحلي في المدينة، إلا أن هذا التطور العمراني لا يكون ككتلة واحدة تحافظ على ممتلكات أصحاب العقارات.
ولا يعتمد هذا المخطط على أسس عمرانية تشبه ما كانت عليه المدينة من الناحية الاجتماعية، إذ يتمثّل الطابع العمراني في المخطط التنظيمي بأبنية سكنية طابقية عالية، تصل إلى 14 طابقًا، غنية وعصرية وفاخرة، للطبقة الثرية من المجتمع، بدلًا من منازل ومتاجر وأماكن عمل كانت مخصصة للأهالي الذين أنهكهم النزاع وتبعاته من لجوء وتدمير بيوتهم وضياع حقوقهم.