إبراهيم العلوش
المرسوم الأخير الذي أصدره بشار الأسد، حول منع التعذيب، يحتكر التعذيب ويجعله في أيدي أجهزة المخابرات فقط، فالتعذيب ثروة كبيرة بيد النظام، ولا يسمح لأحد باستثماره غير أجهزة المخابرات التي لم يشملها مرسوم منع التعذيب، وظلت القوانين تحمي من يمارس القتل والتعذيب في أقبية المخابرات.
التجمعات التي تسبب بها مرسوم العفو تحت جسر “الرئيس” بدمشق خلال الأيام القليلة الماضية، وفي صيدنايا وأمام مختلف المعتقلات، تعبير عملي عن ثروة التعذيب التي يمتلكها النظام في قهر السوريين، والاستمرار بأخذهم رهائن عبر عرض مناظر المعتقلين الذين خرجوا ولم يعد البعض منهم يتذكر أهله ولا مدينته، حتى إن أحد المعتقلين تعرف عليه ابنه الذي كان عمره عشر سنوات عند اعتقال الأب، وصار الابن شابًا وتعرف على أبيه الذي كتب اسمه على يده، في إشارة بليغة إلى الثمن الذي يدفعه من يرفض العبودية لهذا النظام، سواء من المعارضين أو حتى من المؤيدين.
الإفراج عن مئات المعتقلين من أصل 130 ألف معتقل يطالب بهم السوريون ومنظمات حقوق الإنسان، تسبب بإعادة نشر الرعب بين السوريين وفي المجتمع الدولي، عبر سرد قصص التنكيل بأهالي المعتقلين، ناهيك بالوضع المزري الذي رافق ظروف اعتقال أبنائهم.
نشر هذا الرعب لم يقتصر على معارضي النظام، بل وصل إلى أوساط مؤيدي النظام و”شبيحته”، الذين تفاجأ كثير منهم بأعداد ذوي المعتقلين والمفقودين المنتظرين والمصرين على التقصي والبحث عن أبنائهم، بعد أن ظن الفاعلون أن الناس نسوا معتقليهم ومفقوديهم وبدؤوا حياة “جديدة وهانئة” مع الانتصارات التي يروّج لها النظام. فأهالي المعتقلين ظلوا في الساحات، وأمام السجون، لأيام متواصلة، وبعضهم سبق أن تسلّم ورقة من النظام بقتل ابنه، ولكنه لم ييأس وراح يبحث من جديد مع الجموع عن ابنه الذي لم يتسلّم جثته.
ومن المنتظرين شاب اُعتقل أبوه عندما كان طفلًا، وهو يركض من جسر “الرئيس” إلى المرجة يطارد مع الجموع السيارة التي تقل بعض المعتقلين المكبّلين، وعجوز تحمل صورة شخصية لابنها وتطلب من المعتقلين السابقين التمعن في صورته، علّهم رأوه في معتقلات الأسد اللانهائية الاتساع، وهي لا تمل من البحث عن فلذة كبدها.
لعل الأسد أراد عبر مرسوم العفو التغطية على الضجة الدولية التي أثارتها إحدى مجازر حي التضامن التي نشرت صحيفة “الجارديان” تقريرًا مروّعًا عنها قبل عشرة أيام، ولكن الأعداد الهائلة للناس المحتشدين بانتظار أحبتهم أثارت المزيد من الضجة والأسئلة عن الوضع الإنساني للسوريين غير المعتقلين، عدا عن أوضاع المعتقلات التي يروّج النظام نفسه عن أهوالها لتأديب السوريين.
استمرار النظام بالتمسك باعتقال السوريين الذي يجعله يستمر بخنق حياتهم، لن يردعه قانون أو مرسوم أو ضجة دولية، فثروة التعذيب في هذا النظام هي ثروة بنيوية، وقد صرح مسؤولوه أكثر من مرة بأنها في “أيدٍ أمينة”، وهي أهم من الاغتصاب الاقتصادي الذي كانت مارسته عائلة مخلوف لدعم النظام وإثراء أفراده عبر احتكار قطاع الاتصالات، وعبر احتكار إنشاء البنوك الخاصة والشركات المساهمة التي يزيّن قوائمها أفراد النظام، وآخرهم زوجة بشار الأسد، التي حلّت محل رامي مخلوف في إدارة ثروات العائلة.
ثروة التعذيب تغذيها أجهزة المخابرات عبر الحواجز الممتدة على طول البلاد وعرضها، وتمدها بسيل من الأجساد البشرية التي تمارس بها برامج قهر وإذلال السوريين، وقد تطور هذا السلاح على أيدي “الفرقة الرابعة” التي يقودها رجل إيران، ماهر الأسد، باستغلال الحواجز اقتصاديًا عبر “الترفيق” الذي تمارسه قوات فرقته، وهو تعبير عن تشليح التجار جزءًا من بضائعهم، مقابل حمايتها من الحجز الكامل، ولا فرق لدى هذه “الفرقة” مهما كانت البضائع، حتى ولو كانت مخدرات، هذا بالإضافة إلى استمرار تلك الحواجز بالاعتقالات، لتؤدي حصتها في رفد ثروة التعذيب التي تحمي نفوذ جميع الأجهزة وتبعد أصوات أو مجموعات قد تنادي يومًا ما بمحاسبة النظام على جرائمه.
لقد فشلت روسيا والصين في إقناع النظام بالتخفيف من أعداد المعتقلين، ليس لأن النظام متمرد على أسياده، بل لأن أجهزة هذا النظام تراهن عبر التعذيب على استمرارها، فالاعتقال والتهديد بهما يبعد شبح المحاسبة عن أجهزة النظام وأفراده، ويؤمّن استمرارية النظام، فوجود 130 ألف معتقل يتيح للنظام إصدار أكثر من ألف مرسوم عفو مقبل، ما دام المرسوم الواحد يُطلق بضع مئات.