ماذا يعني وما هي وظيفته ؟ هل هو موضة فكرية ؟
حول المفهوم
مفهوم المجتمع المدني مفهوم له سيرة وتاريخ,نصفه الأول هو(المجتمع) واضح وربما يكون راسخ عند الكثيرين, أما نصفه الثاني فصفته (المدني) غامضة وملتبسة على الغالبية العظمى من شعوبنا.
صفة المدني لها دلالات كثيرة، فهي صفة ضد العسكري, حيث يُشار إلى العلاقات المدنية-العسكرية, وهي صفة تتعلق بالمدِينة ومتطلباتها (ضمن مفهوم الحضارة) وترتبط بالسياسة والتحديث، وهي كذلك ذات صلة بمفهوم (المواطنة ومجتمع المواطنين المترفعين عن الانتماء الطائفي والعرقي), وربما قبل ذلك تتقابل مع (الديني), حيث المجتمع نتاج علاقات كل الناس على أرض الدولة، بغض النظر عن انتمائهم الديني،كما أنها تشير إلى أحد المفاهيم الذي شاع استخدامه في علم الاجتماع السياسي والتنمية السياسية وهو (الثقافة المدَنية).
من الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني: الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والنقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية. وقد علمتنا تجربة المجتمعات الأوربية المعاصرة أن الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية، كانت السند المتين لقوى المجتمع المدني، وكان دورها يمثل دوما جنود الخفاء للتحركات السياسية الكبرى، وخاصة أيام الأزمات المهدِدِة لمكاسب المجتمع المدني الديمقراطي.
علينا وضع ميزة فارقة مهمة على صعيد مجتمعاتنا العربية، فالأسرة بوصفها مؤسسة حاضنة وقوية، لا نستطيع إلا أن نعتبرها ضمن الفعاليات المجتمعية والأهلية، وكذلك المؤسسات الدينية الجامعة مثل المسجد والكنيسة، تعبر عن فعاليات أهلية وأدوار مجتمعية، لا يمكن أن تخطئها عين. إنها من أهم الفعاليات التي تحرك أصول المجتمع، وتحفظ وتحمي قواعد الشبكة الاجتماعية وعناصر النسيج الاجتماعي.
المجتمع المدني والدولة
المجتمع المدني والدولة ليسا مفهومين متضادين في نظرنا، بل هما مفهومان متلازمان ومتكاملان، فلا يمكن أن ينهض المجتمع المدني، ويؤدي رسالته في المناعة والتقدم بدون دولة قوية، تقوم على مؤسسات دستورية ممثَّلة، وتعمل على فرض القانون، كما أنه من الصعب أن نتصور دولة قوية وطنية يلتف حولها أغلبية المواطنين بدون مجتمع مدني يسندها، وإلا فإنها تتحول إلى دولة معزولة قد تؤدي دورها من خلال أجهزتها البيروقراطية، ولكنها تنهار في نهاية المطاف فينهار معها المجتمع، ويقدم لنا التاريخ المعاصر أمثلة متعددة على ذلك، كسقوط دول المعسكر في أوربة الشرقية في التسعينات من القرن الماضي، والحالة البائسة للمجتمعات العربية تحت حكم الأنظمة الدكتاتورية.
إن الدولة الحرة الديمقراطية، هي التي يستطيع المجتمع المدني أن يلجمها حين تحاول الخروج عن مسار دولة القانون والمؤسسات، وتتنكر لقيم المجتمع المدني، وأبرز مثال على ذلك، تلك الموجة التي قادتها مؤسسات المجتمع المدني الفرنسي بقيادة النخبة المثقفة ضد قانون الهجرة الذي قدمته حكومة أحزاب اليمين، وهو قانون يتناقض مع كثير من تقاليد المجتمع الفرنسي المدني، مثل التسامح والاعتراف بالآخر واحترام حق التواصل بين الشعوب، وقد أكدت جميع التحاليل السياسية للانتخابات التشريعية الفرنسية في نهاية ربيع 1996 أن قوى المجتمع المدني، قد أدانت عبر صناديق الاقتراع محاولة احتكار السلطة من قوى سياسية معينة، فهذا مثال يصور قدرة المجتمع على كبح جماح الدولة حين تنحرف عن رسالتها وتتجاهل قواه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي صبغة هذه الدولة؟ فإذا كانت دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ الشفافية واحترام القانون والمؤسسات الدستورية، فإنه يتم التعاون والتكامل بينها وبين قوى المجتمع المدني، أما إذا كانت دولة قامعة، فان قوى المجتمع المدني تتحول بالضرورة إلى قوى معارضة، ويصبح مفهوم الدولة يعني السلطة القائمة، ونقد السلطة يصبح تهديدا للدولة، والبون شاسع في المجتمعات الديمقراطية بين الدولة والسلطة القائمة، فالدولة باقية ومستمرة، والنظم السياسية تتغير وتتهاوى.
سمات المجتمع المدني
انه مجتمع مستقل إلى حد بعيد عن إشراف الدولة المباشر، فهو يتميز بالاستقلالية والتنظيم التلقائي، وروح المبادرة الفردية والجماعية، والعمل الطوعي، والحماسة من أجل خدمة المصلحة العامة والدفاع عن حقوق الفئات الضعيفة، إنه مجتمع التضامن عبر شبكة واسعة من التنظيم المهني والجمعياتي، وهو مجتمع التسامح والحوار والاعتراف بالآخر واحترام الرأي المخالف، والعلاقات في المجتمع المدني أفقية وليست رأسية أو عمودية، فليست كالعلاقة بين الأجير والمؤجر، أو بين السلطة والمواطن، أو بين الكهنوت الديني والأتباع، وهو بالتالي مجتمع يشجع الإبداع والتواصل المنتِج في أرحب معانيه.
هل تُعبِّر جمعياتنا الخيرية عن وجود المجتمع المدني في بلادنا؟
لا مناص من التمييز الواضح بين صنفين من جمعيات القطاع الأهلي العربي، جمعيات تُعد فعلا سندا قويا للمجتمع والتقدم، كجمعيات حقوق الإنسان المستقلة فعلا عن سلطة ورقابة الدولة، وجمعيات أخرى ذات طابع خيري أو ترفيهي، يشكو المنتسبون إليها من فقدان أية رؤية للمجتمع أو أية نظرة عامة لشؤون البلاد. لذا فإنّ ارتفاع رقم الجمعيات الأهلية المرخص لها في هذا البلد العربي أو ذاك، لا يعني شيئا كثيرا، ولا يجوز اتخاذه مؤشرا على قوة المجتمع المدني، ويكفي أن تبرز من بينها جمعية واحدة تملك رؤية وموقفا نقديا مستقلا بقضايا المجتمع، كي تقض مضجع السلطة وتحتل حيّزا بارزا بين مشاغل أجهزة الدولة الأمنية.
هناك خلط كبير في الساحة العربية بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، فكل مجتمع مدني هو مجتمع أهلي والعكس ليس صحيح. إنّ قوى المجتمع المدني تدرك جيدا، أنه ليس أخطر على المجتمع والوطن من ابتعاد الناس عن السياسة وعدم اهتمامهم بقضايا العامة، ومن هنا فإن قوى المجتمع المدني لا تستطيع أن تؤدي رسالتها إذا بعدت عن العمل السياسي، فهو سمة أساسية من سماته. لذلك لابد من إيجاد أسس وقواعد الاتصال بين مؤسسات المجتمع المدني-الأهلي، بما يوفر لها الاستقلالية عن السلطة من جانب، كما تعضد تضامنها وتماسكها من جانب آخر.
في سوريا قبل عام 1970، كان هناك نشاط سياسي بارز منتشر على كل أرض الوطن، أحزاب وجمعيات سياسية وثقافية ومجلات وجرائد مستقلة، أي أنه كان يوجد حراك مجتمع مدني فاعل، مهمته الأولى كانت نقد السلطة الحاكمة وتقليص نفوذها، وبناء الإنسان السوري السياسي. ومن يومها لم تشهد سوريا هذا النشاط السياسي على مستوى المجتمع، إلا في حالة ربيع دمشق في بداية الألفية الجديدة، وكان هدفها الأساسي كبح جماح سلطة النظام القائم، وإصلاح أخطائه، ومكافحة الفساد المستشري في كل أجهزته. كلنا يعلم كيف انتهى الكثير ممن قاموا على إحياء ذلك المشروع، انتهوا إمّا في السجون أو في المنفى، وعادت سلطة النظام الأمنية لتجهض أي محاولة تسعى لخلق مجتمع مدني حر وفاعل.
أهم وظائف المجتمع المدني
أول القضايا التي تستحق الاهتمام، هي صناعة الإنسان (المواطن)، فهو أصل القضية، وما عداها فرع عليها، وللإنسان في منطقة العرب، وفق ميراث طويل من الممارسات والانتهاكات، حقوق مهدورة وواجبات واهنة.
تقف قوى المجتمع المدني بالمرصاد لكل شخص يحاول احتكار السلطة العليا، رافعا لافتة كتب عليها (أنا الدولة بستاني الخاص)، كما هو الحال في كثير من المجتمعات النامية، ولذا فإنه من الخطأ عزل المجتمع المدني عن الصراع السياسي الذي يدور في مجتمع ما، فمن أبرز أهدافه، إلجام السلطة التي تحاول تجاوز الحدود، وتجاهل المصلحة العامة للمجتمع، فهو الذي يستبدل صراع أصحاب المصالح، وأجنحة البلاط من أجل السلطة وامتيازاتها، بالصراع من اجل الذود عن الحق والقانون والمؤسسات.
المجتمع المدني لا يقتصر دوره على إدارة جمعيات وقفية خيرية، أو الإشراف على صناديق جمع الزكاة أو توزيع الصدقة الجارية، مع أن مؤسسة الأوقاف يجب أن تُراعى ضمن نشاطات المجتمع و تأخذ حقها التاريخي من الاهتمام، بل وظيفة المجتمع المدني هي أساسا تنظيم الجماهير للدفاع عن قيم الحداثة والتقدم، والتصدي لجميع أشكال الاستبداد والاستغلال والفساد، فلا قيمة ولا تأثير لمجتمع مدني لا يتبنى رؤية سياسية مجتمعية ذات بعد مستقبلي.
المجتمع المدني هو مصنع الإنسان (المواطن) الذي ينتمي أولا وأخيرا للوطن، وهو مصنع التجمعات والتيارات التي تتشكل من أناس مسلمين ومسيحيين، عرب وأكراد وتركمان وغيرهم، كلهم يجتمعون تحت قبة واحدة، ويجلسون على طاولة واحدة، عنوانها وهدفها الأول والأخير مصلحة الوطن والمواطن.
إن القوى العربية المؤمنة بالتقدم لا تناضل من أجل مجتمع مدني لأن المفهوم موضة، بل لأن المجتمع المدني يمثل نصلا ناجعا في مقاومة شتى أنواع التطرف الطائفي والمذهبي و الإثني، وكذلك مقاومة النظم الاستبدادية الشمولية التي تدوس أبسط حقوق المواطنة. إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم غربي دخيل على البيئة العربية والإسلامية، وهو واضح في سياقه التاريخي الغربي، كما هي مفاهيم الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والنظم البرلمانية المنتخبة انتخابا مباشرا من الشعب، وحرية المرأة.
نحن نؤمن بحتمية النضال في سبيل نشر الوعي، بأن هذه المفاهيم تجاوزت بيئة النشأة والتطور لتصبح كونية وعالمية، فإذا وجدنا في تراث المجتمع العربي والإسلامي من جهة وفي تجربته التاريخية من جهة أخرى ما يدعم هذه المفاهيم ويرسخها في بيئتنا فذلك أمر محمود، ويندرج في نظرنا ضمن إستراتيجية توظيف الجوانب المضيئة في هذا التراث من اجل معركة اليو