إبراهيم العلوش
التقرير الاستقصائي الذي نشرته صحيفة “الجارديان” اللندنية، الأربعاء الماضي، حول مجزرة في حي التضامن الدمشقي، أعاد تسليط الأضواء على جرائم نظام الأسد، وأخرج عيّنة من جرائمه أمام الإعلام العالمي، وحرّك موقد ذكريات السوريين عن أحبتهم المختفين، واستعادوا ما وقع عليهم من جرائم نظام الأسد.
الصحفية السورية أنصار شحود وشريكها في التقرير الاستقصائي أور أوميت أونغر، عملا خلال ثلاث سنوات (2019- 2022) من أجل التحقق من صحة عدد من الفيديوهات عن مجزرة حي التضامن التي قادها في العام 2013 صف ضابط في الأمن العسكري الفرع “227”، أو ما يدعى فرع المنطقة، وكان صف الضابط أمجد يوسف قائد العمليات للفرع المذكور في حي التضامن.
يوثّق التقرير قتل 41 مدنيًا سوريًا تم اقتيادهم من الحواجز ورميهم في حفرة كان قد أنشأها الفرع المذكور في شارع جانبي بحي التضامن جنوب دمشق، بين حي الميدان ويلدا، والذي كان يحوي الكثير من أبناء الطوائف السورية، في نسيج غني من التنوع بكل ما يحتويه الطيف السوري.
يرمي المجرم أمجد يوسف مع مساعده نجيب الحلبي المعتقل المدني المعصوب العينين بعد إيهامه بالقفز لوجود قناص في الشارع، وعندما يقفز يرتمي في الحفرة، ويطلق العنصر الآخر عليه النار. وقد وثّقت الفيديوهات حتى عملية حفر المقبرة الجماعية، وحرق الجثث بالدواليب والمازوت وردم الحفرة التي تثبّت الصحفيان من وجودها عبر دلالات الكتابة على الجدران، وعبر مرشدين محليين تعاملا معهما بسرية.
استطاعت الصحفية شحود الإيقاع بالمجرم الرئيس عبر عقد صداقة معه في “فيسبوك” باسم وهمي، وتمكّنت من إجراء لقاءات مطولة معه، وتوثيق أقواله التي يفتخر فيها بالقتل وهو يقرّ علنًا أنه قتل الكثيرين. وبيّنت المقابلات حتى تفاصيل المكتب الذي كان يحتله في فرع الأمن العسكري المذكور، وأورد التقرير اسم رئيسه المباشر، ورئيس الفرع الذي كان يدير تلك العمليات، وأسماء المجرمين المساعدين من أصحاب السوابق، حتى إن التقرير سمّى مجرمًا معروفًا بعدد من جرائم الاغتصاب في حي التضامن، وقد تم إخراج أمثاله من السجن عبر إعفاءات الأسد الخاصة للمجرمين الذين من الممكن أن يستفيد منهم في الجرائم ضد المدنيين السوريين والتبرؤ من مسؤولية أجهزته عنها.
ما يلفت في التقرير هو التفاصيل الكثيرة الموثقة والملاحظات العميقة، مثل الحقد الذي يتم خلاله تنفيذ القتل، وصوت الضحك الذي كان أكثر إيلامًا من صوت الرصاص، كما قال أحد الصحفيين، والتحقير الذي يناله المدنيون الذين لا يدرون ما المصير الذي يساقون إليه وهم غير مسلحين ولا محترفين، بل وصلوا إلى المجزرة بثيابهم العادية كأنهم ذاهبون لشراء ربطة خبز أو طبق بيض من “البقالية” المجاورة لبيتهم، وكذلك الإهانات الشديدة للنساء واستعمال الألفاظ الجنسية المقذعة ضدهن بشكل مضاعف عن الرجال الذين نالهم الكثير من الشتم الحقود إلى درجة مذهلة.
يفتخر أمجد يوسف بعمله، ويوجه عبر الكاميرا تحية إلى رئيسه في العمل، وهو يصوّر عمليات القتل التي يقوم بها، وبدا محترفًا، خاصة أنه ورث مهنة الجلاد عن أبيه الذي كان أيضًا مساعدًا أول في المخابرات أيام الأسد الأب.
ملاحظات وأسئلة مهمة يثيرها التقرير، مثل لماذا يصوّر جلادو الأسد أنفسهم في أثناء ارتكاب هذه الجرائم ويعصبون أعين ضحاياهم، بينما جرائم “داعش” تتم بالعكس، إذ يغطي المجرم “الداعشي” وجهه ويظهر وجه الضحية، فالمجرم هنا يفتخر بجريمته ويعلنها كما تشير إلى ذلك الفيديوهات المنشورة حول المجزرة حتى الآن. وينتظر الجمهور المزيد من الفيديوهات التي كشفها عنصر صغير من المخابرات بالمصادفة وهو يتسلّم حاسوبًا على أحد الحواجز لـ”تفييش” المارين، ووجد عليه 27 فيديو قام بتسريبها إلى خارج البلاد بكل شجاعة.
وتجدر ملاحظة مدى النفاق والتذلل من قبل أمجد يوسف لمعلمه الذي يبدو أنه ذو رتبة عالية في جهاز المخابرات، أو في أجهزة القصر الجمهوري التي تشرف على مثل هذه الجرائم، التي انتشرت بشكل كثيف ضد السوريين اعتبارًا من مجازر عين البيضا والحولة ومئات المجازر التي سيستغرق الشعب السوري والمحاكم و”الميديا” العالمية عقودًا في البحث والتحري لكشف تفاصيلها.
صعق المشاركون بالجريمة من انكشاف أمرهم بعد اطلاع الصحفية على أرشيف أمجد يوسف واستطاعتها أخذ التفاصيل منه، فقد وجدته يائسًا بعد أن طُرد من المنصب الذي كان يشغله، وخاب أمله من النصر الذي تحقق، واكتفى باستثمار حوالي 30 بيتًا استولى عليها من بيوت المهجّرين من حي التضامن. ولكن شحود استطاعت ببراعة اجتذابهم أيضًا إلى المزيد من الاعترافات التي تدينهم وتدين المؤسسة التي يتبعون لها في بلد “المؤسسات”، كما يقول بشار الأسد ويردد دائمًا.
هذه المجزرة وأمثالها هي التي صنعت النصر لنظام الأسد، وهي التي ساقت السوريين إلى المنافي، وجعلت سوريا بلدًا فاقدًا لاستقلاله لمصلحة الاحتلال الإيراني والروسي.
وإذا كان أمجد يوسف يستثمر جريمته في الاستيلاء على بيوت الغائبين وتأجيرها، فإن غيره يستثمر مع الروس أو مع الإيرانيين، ويساعدهم في توطيد احتلال البلاد واستنزافها وإضفاء الشرعية على احتلالها، ولعل العضو السوري في جائزة المجرم قاسم سليماني العالمية “حسن م يوسف” مجرد مثال من أمثلة كثيرة ممن يتهافتون على كسب المراتب والحظوة عند المحتلين ورعاة المجازر.
التقرير الاستقصائي فيه الكثير من الحرفية ومن العمل الصبور والمتواصل حتى كشف الحقيقة، وهذا درس للناشطين والصحفيين السوريين لمضاعفة الجهد وامتلاك الصبر الذي يؤدي إلى النجاح، وما فعله الصحفيان يوازي فعل دول أو أجهزة دولية في تحريها، فالإيمان بحقوق الإنسان وبكرامة السوريين جديرة بالتضحية.
وفي يوم العيد الحزين هذا، لا نملك إلا أن نوجه الشكر للصحفيين أور أوميت أونغر وأنصار شحود، ولمركز دراسات “الهولوكوست” في جامعة “أمستردام”، ولصحيفة “الجارديان” البريطانية على هذا العمل الشجاع في كشف بعض تفاصيل “الهولوكوست” السوري.
ورغم كل الحزن، كل عام وأنتم جميعًا بخير.