يصعب في سوريا الحصول على أرقام وبيانات رسمية من المؤسسات الحكومية، يمكن الاعتماد عليها في صنع القرار أو التغطيات الصحفية والدراسات العلمية، وسط انتقادات تُوجه للمكتب المركزي للإحصاء، من حيث عدم قدرته على تقديم بيانات دقيقة وحديثة خاصة في جميع القطاعات.
وعزا مدير المكتب المركزي للإحصاء، عدنان حميدان، الأخطاء الموجودة في العمليات الإحصائية إلى الحرب وخروج العديد من المناطق عن سيطرة النظام السوري ومكاتب الإحصاء التابعة له.
وقال حميدان لصحيفة “الوطن” اليوم، الثلاثاء 26 من نيسان، إن “أي عملية إحصائية، وخاصة التي يُستخدم فيها التقدير، تكون مشوبة بخطأ قد تتراوح نسبته بين 5 و10% فقط”.
ولفت إلى أن هامش الخطأ أو الاختلاف بالدقة لا يغيّر شيئًا من الرؤية الاقتصادية أو الدراسة طالما أن اتجاه الرقم معروف، معتبرًا أن هذه النسبة لا تفسد للبحث قضية، حيث تبقى هذه البيانات صالحة للدراسات والأبحاث.
وأضاف، “من يشكّك بجودة ودقة الرقم والعمل الإحصائي فليعطنا البديل، فكيف يتم تقدير أن هذا الرقم جيد أم لا؟ وخاصة أنه صادر عن جهة رسمية فهو حتمًا يمتاز بالدقة”، مشيرًا إلى أن معظم البيانات الإحصائية الصادرة عن المكتب تعتمدها المنظمات الخارجية.
ما المكتب المركزي للإحصاء؟ بحسب موقعه الرسمي، يتولى المكتب المركزي للإحصاء جميع الأمور المتعلقة بعمليات الإحصاء والتعداد، وبموجب أحكام المرسوم التشريعي رقم “87” لعام 1968:لا تعتبر الإحصاءات رسمية إلا إذا أعدها أو نشرها أو وافق عليها المكتب المركزي للإحصاء، كما يعتبر المكتب السلطة الوحيدة المخولة بحق طلب الإحصاءات من أجهزة الدولة والأشخاص الطبيعيين والاعتباريين. باستثناء ما يتعلق بالعمل الداخلي للأجهزة الرسمية وأجهزة القطاع العام، لا يجوز لأي جهاز أو شخص طبيعي أو اعتباري أن يقوم ببحوث إحصائية عن طريق توجيه الأسئلة الإحصائية أو الاستمارات أو إصدار أي نشرة متضمنة لمعلومات أو أرقام إحصائية إلا بعد موافقة مسبقة من المكتب المركزي للإحصاء. |
حجج غير محقّة
من جهته، أكد المدير الأسبق للمكتب المركزي للإحصاء، شفيق عربش، ضرورة خروج المكتب عن وصاية رئاسة مجلس الوزراء التي تجيّر هذه الوصاية للجنة الاقتصادية، فلا يجوز نشر أي بيان أو معلومة إحصائية إلا بعد أخذ موافقتها، معتبرًا أنه لا أهمية لبيانات لم تُنشر.
واعتبر عربش أن كل الحجج التي تقول إن خروج الكثير من المناطق عن سيطرة الدولة منع إنجاز العمل الاقتصادي على المستوى الجغرافي، هي حجج ليست محقّة إلى هذا الحد، بل شمّاعة يعلّق عليها التقصير، لأن الرقم الإحصائي ليس بالضرورة أن يكون نتيجة عمل ميداني، إذ توجد مجموعة من البيانات لدى الجهات الرسمية قد تعطي أرقامًا إحصائية متقاربة إلى أبعد حد.
ولفت إلى أن غياب هذه الاستراتيجيات في التفكير أدى إلى احتواء جميع المجموعات الإحصائية التي صدرت ما بعد عام 2011 على بيانات تقديرية لا يُستند إليها بل إنها جزافية ولا تقارب الواقع إلى حد كبير.
منفى وظيفي
وصف عربش مديريات الإحصاء في الجهات العامة بـ”المنفى الوظيفي”، فعندما “يتم الغضب من موظف ما يتم نقله إلى مديرية الإحصاء في الوزارة التابع لها كعقوبة له أو إلى المكتب المركزي للإحصاء”.
وأطلق على المركز اسم “غوانتانامو الحكومة”، إذ يندر وجود موظف يحمل إجازة في الإحصاء، على الرغم من المسابقات التي كان يتقدم إليها أشخاص من أصحاب الاختصاص.
واعتبر عربش أنه لا يكفي وجود البيان الصحيح فقط لكون الرقم الإحصائي أبكم وأصم ولا بد من إنطاقه من خلال تحليله من قارئين جيدين للوصول إلى قرارات تخدم الأغلبية من المواطنين، وإلا فسيبقى المواطن في حيّز التجريب.
قلة الاختصاصات
بدوره، أشار عدنان حميدان إلى بعض الصعوبات الأخرى التي تعترض عمل المكتب، مثل قلة الكفاءات ومحدودية الطاقات ضمن ملاك المكتب الذي يتم العمل فيه بطاقة 40- 50% من الملاك الأساسي، إضافة إلى أن القليل منهم فقط مختص بالإحصاء على الرغم من أن النسبة يجب ألا تقل عن 50% إلى جانب الاختصاصات الأخرى.
وكان هنالك اعتراض حول بلاغ رئاسة مجلس الوزراء بأن “المكتب المركزي للإحصاء هو الجهة الوحيدة التي تقوم بجميع الأعمال والمسوح الإحصائية، ولا يحق لأي جهة أخرى على أراضٍ سورية أن تجمع البيانات أو تجري المسوحات من دون العودة للمكتب”.
أوضح حميدان أن هذا البلاغ جاء بسبب الفوضى بالعمل الإحصائي والمتاجرة بالبيانات من خلال قيام بعض الجهات بمسوحات تضر بأمن الدولة، وخاصة أن الرقم الإحصائي قد يُستثمر “شرًا” من الدول الأخرى، على حد تعبيره، مشيرًا إلى أنه وفقًا لهذا البلاغ، يستطيع المكتب مقاضاة أي مؤسسة أو منظمة تخالفه.
واقع بحثي محبط في سوريا
بدأ البحث العلمي في سوريا رسميًا عام 1958، مع تأسيس المجلس الأعلى للعلوم“، وتألف هذا المجلس من لجان متخصصة تمثّل جميع الجهات المهتمة، تُعد الخطة العلمية ويرأسها وزير التعليم العالي.
وفي عام 2006، صدر المرسوم التشريعي رقم “68” لإنشاء “االهيئة العليا للبحث العلمي“، وأُنيط بها تخطيط البحث العلمي في سوريا، ورسم السياسات الخاصة به، وتنسيق الأبحاث والدراسات بين شتى مراكز الأبحاث والجامعات السورية، وإقرار الموازنة المالية لهذه الأبحاث.
ويعتبر توفير مصادر لتمويل البحث العلمي أمرًا في غاية الأهمية، كونه يعطي مدلولًا وإشارة إلى درجة مصداقية نتائج البحث والاعتراف به كوظيفة فعّالة لا بد من الاعتماد عليها في تطوير الواقع، كما أنه استثمار مأمول في حال إدارته بالشكل الأمثل.
إلا أن البحث العلمي في سوريا، كحال بقية القطاعات الأخرى، كان يشهد سيطرة حكومة النظام السوري، بحسب ما تشير إليه التقارير الصادرة عن منظمة “يونسكو” بين الأعوام 2010 و2017، فنسبة الإنفاق المالي على البحث العلمي داخل سوريا منخفض للغاية، وهو ذو مصادر تعتمد على التمويل الحكومي الذي يصعب تقديره بسبب عدم لحظ هذا التمويل بوضوح في خطط التمويل السنوية للجامعات والمراكز البحثية.
يتعذر تمييز ما أُنفق على البحث العلمي عما أُنفق على الجانب الإداري والخدمي من مجموع الإنفاق العام، وفق تقرير “يونسكو” الصادر عام 2019، والذي رصد واقع العمل البحثي داخل سوريا.
وتتفاوت الإحصائيات التي تشير إلى حجم الإنفاق على البحث العلمي، ومع ذلك، قد تكون نسبة 0.12% من الناتج المحلي الإجمالي هي النسبة الأكثر تداولًا في مختلف الإحصائيات المتعلقة بالإنفاق على هذا المجال في مرحلة ما قبل عام 2011، وتنخفض هذه النسبة إلى ما دون 0.04% بعد عام 2011.
في المقابل، فتحت ثورة عام 2011 الباب أمام “طفرة” في العمل البحثي، رصدتها عنب بلدي في ملف “مراكز الأبحاث.. خطوة لتفكيك العُقد السورية“، الذي يدرس جدوى عملها في التأثير على الرأي العام وصنّاع القرار، ومفهوم العمل البحثي، ورصد أبرز تلك المراكز، والمعايير التي تضبط إنتاجها.
أرقام غير متطابقة
من جهتها، انتقدت الباحثة رشا سيروب، في حديث إلى صحيفة “الوطن”، الرقم الإحصائي في سوريا، واعتبرته “مشكلة ليس لها حل، كونه يعاني من عدم الكفاية والشمول وغياب المشاركة والشفافية، وهذا ما يمكن لحظه في تصريحات المسؤولين، في حال تم ذكر رقم ما، إذ إنها غالبًا ما تكون أرقامًا غير متطابقة”.
انخفاض جودة البيانات وعدم توفرها بالوقت المناسب يعني وضع سياسات وسيناريوهات خاطئة وغير منطقية، وبالتالي فإن توفر البيانات ودقتها وحداثتها يسهم في ضمان توفير المؤشرات الإحصائية اللازمة لرسم السياسات وصنع القرار وتقييم الأداء الحكومي في أي دولة، بحسب سيروب.
ويؤدي غياب الرقم الإحصائي الوطني إلى انتشار بيانات ومعلومات صادرة عن جهات خارجية، يقول عنها بعض المسؤولين إنها “ذات أغراض سياسية”، وقد تلقى قبولًا شعبيًا حتى وإن كانت غير صحيحة، على حد تعبير سيروب.
واعتبرت أن المكتب شريك في الأخطاء الناتجة عن عدم صوابية القرارات الحكومية التي يفترض أن تستند إلى أرقام ومعطيات إحصائية، على اعتباره الجهة المسؤولة عن إعداد وإصدار الرقم الإحصائي.
ولا تبنى القرارات الحكومية على أرقام وبيانات، وهذا الأمر يظهر جليًا في الموازنات الحكومية التي لا تذكر أي معدلات مستهدفة للمؤشرات الاقتصادية، وبالتالي يشعر المواطن أنه “حقل تجارب عند إصدار أي قرار”.
ويُنتقد مكتب الإحصاء بشكل متكرر من قبل خبراء الاقتصاد والباحثين في هذا المجال لغياب البيانات الإحصائية الصادرة عنه، ولصدور آخر رقم إحصائي عنه عام 2019، إلى جانب امتناع المكتب الإحصائي عن إعطاء أي معلومة من الممكن البناء عليها للصحفيين الذين يعملون في وسائل إعلام مقربة من النظام.
ولطالما تعطل موقع المكتب المركزي للإحصاء الإلكتروني، وسط غياب نسخ أخرى متوفرة عن المحتوى الذي يقدمه، يمكن الوصول إليها في حال تعطل الموقع.
–