مع وصول الثورة السورية إلى عامها الـ 11، ومضي سبع جولات لمحادثات اللجنة الدستورية في جنيف وصفها الكثيرون بالعقيمة، تعلو الأصوات المنادية بإيقاف المعارضة لهذا المسار، والعودة إلى التركيز على بنود “القرار 2254” التي تنص على انتقال سياسي أولًا.
في 30 من تشرين الأول عام 2018، عيّنت الأمم المتحدة الدبلوماسي النرويجي، غير بيدرسون، مبعوثًا أمميًا إلى سوريا، من بين أربعة مرشحين لإدارة دفة التفاوض.
ومنذ أن استلم المبعوث الأممي لسوريا، غير بيدرسون، الملف السوري، بعد تنحي المبعوث الأممي السابق، ستيفان دي مستورا، الذي حافظ على منصبه لأربع سنوات، لم يتحقق أي تقدم في عملية الانتقال السياسي في سوريا، خلال جولات محادثات اللجنة الدستورية المكونة من ثلاثة وفود (المعارضة، النظام السوري، منظمات المجتمع المدني) بتيسير من الأمم المتحدة.
تواصلت عنب بلدي مع الرئيس المشترك للجنة الدستورية السورية، هادي البحرة، لتوضيح أهمية استكمال أعمال اللجنة الدستورية، في ظل الجمود السياسي الذي يسود جلسات اللجنة وتعطيل النظام لها في كل جولة، فقال البحرة، إن “الإجابة على هذا السؤال تقتضي شرحًا مطولًا كي نستوعب المسار التاريخي للعملية السياسية التي لم تبدأ باللجنة الدستورية ولن تنتهي بها، فهي واحدة من أربعة سلال أساسية في قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015)”.
وعليه، أفرد البحرة سردًا تاريخيًا لمسار العملية السياسية في سوريا، محاولًا تفنيد حجج المعارضة السورية للاستمرار بالمسار السياسي، تنقله عنب بلدي في هذا اللقاء.
خطوات في ذاكرة العملية السياسية في سوريا
يرى البحرة أن حجر العثرة في العملية السياسية منذ عام 2014 هو النظام الذي عرقل مفاوضات “جنيف 2” برفضه التفاوض على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي كما نص القرار “2118” لعام 2013، بأن تبدأ المفاوضات أولًا حول التوصل لاتفاق بين الطرفين على تشكيلها عن طريق الموافقة المتبادلة بين قوى الثورة والمعارضة وبين النظام.
وعلى الرغم من إعاقة النظام لتنفيذ ذلك القرار، وقف المجتمع الدولي عاجزًا عن اتخاذ أي إجراء عبر الأمم المتحدة لانعدام التوافق الدولي، ما أدى الى تجميد العملية السياسية منذ شهر آذار عام 2014 إلى أوائل شهر تشرين الأول عام 2015.
وفي 15 من أيلول عام 2015، بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، في ظل قبول دولي مبطن، رافقته بداية مفاوضات أمريكية- روسية حول وضع آليات لخفض التصعيد، كما توافقا على دعم عملية سياسية لتنفيذ القرار “2254” (2015) عبر عقد مؤتمر في فيينا، تُدعى اليه الدول ذات العلاقة بالإضافة الى ممثلي منظمتي الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، (فعقدته مجموعة فيينا في ميونخ في شباط 2016) ولم يشارك فيه أي طرف سوري.
عقد مؤمر فيينا الأول في تشرين الأول 2015 تبعه مؤتمر فيينا الثاني في تشرين الثاني 2015، وصدر عنهما ما يعرف ببياني “فيينا”، تضمنا خارطة طريق للانتقال السياسي في سوريا.
ورحب مجلس الأمن بالبيانين وتبناهما بإصدار القرار رقم “2254” (2015) بالإجماع، وتمت الدعوة الى مؤتمر “الرياض 1″، الذي شكل الهيئة العليا للمفاوضات كذراع تفاوضي لقوى الثورة والمعارضة.
ونص القرار “2254” على تنفيذه عبر عملية سياسية تيسرها الأمم المتحدة بين الهيئة العليا للمفاوضات وبين النظام وفق مادته الرابعة حيث جاء فيها:
يعرب القرار في المادة “رقم 4″ عن دعمه، في هذا الصدد، لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة، …”.
ويقتضي تنفيذ القرار الملزم توافق الطرفين السوريين في غضون فترة ستة أشهر على موضوعين متزامنين هما إقامة حكم ذي مصداقية يشكل من قوى الثورة والمعارضة وحكومة النظام ولهما أن يشركا أطرافًا أخرى، وفق ما نص عليه بيان جنيف الصادر في 30 من حزيران عام 2012، والذي تحدد فيه جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد.
بعد صياغة مشروع الدستور الجديد وتحقيق البيئة الآمنة والمحايدة من قبل الحكم الجديد أو ما نسميه هيئة أو جسم الحكم الانتقالي في غضون 18 شهرًا، تبدأ عملية الانتقال السياسي بإجراء الاستفتاء الشعبي على الدستور، ومن ثم تجري انتخابات برلمانية ورئاسية وفق ما ينص عليه الدستور الجديد تحت إشراف الأمم المتحدة بمشاركة كل السوريين المؤهلين داخل سوريا وخارجها وبانتهاء تلك الانتخابات تكون عملية الانتقال السياسي قد تمت.
إلا أن القرار نفسه لم ينص على أي آلية إن لم يتوافق الطرفان السوريان على ذلك، وبات كل طرف منهما يملك حق الفيتو، والقدرة على التعطيل، بحسب البحرة.
وتمت الدعوة الى مفاوضات “جنيف 3” في أوائل العام 2016، وأشار البحرة إلى الجهود التي بذلتها الهيئة العليا للمفاوضات لفرض تنفيذ البنود الإنسانية التي اعتبرتها “ما فوق التفاوضية” والتي كان على رأسها إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين، حيث رفضت إطلاق المفاوضات قبل تنفيذ هذه البنود الإنسانية وتنفيذ إجراءات بناء الثقة.
ولم يلقَ أسلوب الضغط هذا أي ردود فعل مناسبة من المجتمع الدولي ولم يثمر بإطلاق سراح أي معتقل، بحسب البحرة، بل اشتدت الأعمال العسكرية العدائية وجرائم الحرب بحق الأبرياء المدنيين وازداد إحكام حصار المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام واستخدام سياسات التجويع.
وبدأت سلسلة مما سمي اتفاقات “الهدن والمصالحات المحلية”، وصولًا الى سقوط حلب أواخر العام 2016، تلاه أوائل عام 2017 وانعقاد مؤتمر أستانة الأول، حيث فرض الواقع العسكري على فصائل “الجيش الحر” بعد التدخل الروسي في ظل شلل دولي، الانخراط في اتفاقيات خفض التصعيد في محاولة للحد من الخسائر، ولا سيما التي يتكبدها المدنيين الأبرياء ولتفادي فقدان المزيد من المناطق التي كانت تحت سيطرتهم.
وفي أيلول عام 2017 وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أُبلغت قوى الثورة والمعارضة من قبل الدول الداعمة للشعب السوري ضمن ما كان يسمى مجموعة الدول المصغرة أنه اعتبارًا من أوائل عام 2018، سيتوقف الدعم العسكري بالكامل بما فيه الدعم اللوجستي لفصائل الجيش الحر، وأن المعركة القادمة هي على المسار السياسي والخيار لقوى الثورة والمعارضة في خوضها من عدمه، وانها ستكون طويلة وشاقة، وأن تلك الدول ستكون داعمة لمسار الحل السياسي وفق القرار 2254 لكن دون أي ضمانات زمنية أو عسكرية.
وفي 11 من تشرين الثاني 2017 وفي قمة “آبيك” في مدينة “دا نانغ” في فيتنام بحضور الرئيسين الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وصدر فيها بيان مشترك عنهما فيما يخص سوريا، جاء فيه:
“اتفق الرئيسان على أن الصراع في سوريا ليس له حل عسكري، وأكدا أن التوصل إلى تسوية سياسية نهائية للصراع يجب أن تكون في إطار عملية جنيف، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254”.
وأشارا أيضًا إلى إعلان التزام رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بعملية جنيف، والتغيير الدستوري والانتخابات، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم “2254”.
وأكد الرئيسان “أن هذه الخطوات تفترض التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254، بما في ذلك تغيير الدستور والانتخابات الحرة والنزيهة، تحت إشراف الأمم المتحدة…”، وفي ذلك اللقاء تم التوافق بين الدولتين على دعم العملية السياسية بتحريكها من بوابة العملية الدستورية كمدخل لتنفيذ كامل القرار “2254”.
وكان خيار قوى الثورة والمعارضة الأول، ومازال، بحسب البحرة، الولوج بالعملية السياسية عبر الاتفاق على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي وتحديد جدول زمني وعملية لصياغة دستور جديد، وهو ما سعت إليه منذ عام 2014 إلى أواخر عام 2017، حين تشكلت التوافقات الدولية بعد تبدل الواقع العسكري على الأرض نتيجة التدخل الروسي، ووقف الدعم العسكري لـ”الجيش السوري الحر” من قبل ما يسمى “مجموعة أصدقاء الشعب السوري”، وسط “مخاطر انحراف المسار السياسي عن رعاية الأمم المتحدة في جنيف إلى مسارات أخرى بديلة، تغفل الحقوق والمطالب السياسية والقانونية للشعب السوري وتطلعاته التي ثار من أجلها، وفرض واقعًا جديدًا اقتضى الانخراط بالعملية السياسية من البوابة الدستورية مع الالتزام الكامل على ان تكون مدخلًا لتنفيذ القرار 2245 بشكل كامل وصارم”، على ما قاله البحرة.
لماذا تعول المعارضة على المسار؟
وعما إذا كان مسار اللجنة الدستورية مثمرًا في المستقبل القريب، وعن استمرار تعويل المعارضة السورية عليه وتمسكها به أجاب البحرة “إننا نعي تمامًا أن اللجنة الدستورية، ليست إلا جزءًا أساسيًا ومدخلًا للعملية السياسية، وليست بأي حال من الأحوال اختزالًا لها”.
وأضاف، “لم نتخيل يومًا ما أن أعمالها ستسير بسرعة وسلاسة، بل كنا ومازلنا نعلم أن النظام لا يملك أي نوايا حسنة تجاه الحل السياسي، ولا يرغب فيه ولن ينقاد إليه طواعية، هي معركة دستورية، تبقي حقوق وتطلعات ومطالب شعبنا السياسية والدستورية والقانونية حية وتحت بقعة الضوء الدولية في ظل العالم المزدحم بالأزمات، لا سيما خلال هذه الفترة”.
وبمراجعة السياق التاريخي أعلاه، يخلص البحرة، أنه في كل فترة توقفت خلالها العملية السياسية أدى ذلك الى توافقات دولية وإقليمية لاتخاذ قرارات جديدة بسقف أخفض عما سبقها، أو فتح مسارات بعيدة عن الرعاية الأممية كما قد يؤدي الى فتح خيارات لترتيبات عسكرية وأمنية بين الدول لا تصب في صالح الثورة في ظل موازين القوى الحالي وتعقد العلاقات بين القوى الأجنبية التي تتواجد على الأراضي السورية.
كما أن تجميد العملية السياسية خلال الفترة بين عامي 2016 و2017، لم يؤدِ الى دفع المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات حاسمة بخصوص القضايا الإنسانية وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين.
العملية السياسية الأممية تتقدم أو تتراجع أو تراوح في مكانها بقدر مستوى التوافقات والإرادة الدولية والإقليمية والعربية على دفعها قدمًا، بحسب البحرة، الذي يرى أن إيقاف أعمال اللجنة الدستورية قبل ضمان فتح مفاوضات السلال الأخرى أو السبل الأخرى التي تؤدي الى تحقيق الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن “2254”، سيكون مخاطرة متهورة وهدرًا لتضحيات الشعب السوري.
وتابع البحرة، “لا يمكن أن نسمح باستمرار عبثية النظام في جنيف، قوى الثورة والمعارضة لا تقف مكتوفة اليدين بانتظار أن تتقدم أعمال اللجنة بل تعمل مع حلفائها على خلق البدائل الممكنة. اللجنة الدستورية إما ان تتقدم وتثمر قريبًا فتكون فعليًا بوابة الحل السياسي وفق القرار 2254، أو سيكون قرارنا بتجميد أعمالها أو توقيفها بالكامل في الوقت المناسب هو النافذة التي تفتح الطريق نحو سبل أخرى للتنفيذ الكامل والصارم للقرار 2254”.
دستور أم انتقال سياسي أولًا؟
وعن احتمالية إسهام المسار ذاته بتحقيق الانتقال السياسي المنشود، أو أن الدستور الجديد يتطلب انتقالًا سياسيًا قبله ليصبح قابلًا للتطبيق، أجاب البحرة بأن “مسار اللجنة الدستورية هو واحد من السلال الأربعة الرئيسية في القرار 2254”.
وأوضح أن غالبية الناس “تخلط بين المرحلة الانتقالية التي تبدأ عند توقيع الاتفاق السياسي لتنفيذ القرار 2254 بسلاله الأربعة، وأول خطوة تنفذ منه هي إقامة هيئة الحكم الانتقالي ومهمتها الوحيدة هي تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة التي يمكن أن تجري خلالها عملية الانتقال السياسي، صياغة مشروع الدستور الجديد والاستفتاء عليه بعد تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة وهو أول خطوة في تنفيذ الانتقال السياسي وهو الناظم لباقي خطواته، حيث تجري وفقه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بإشراف الأمم المتحدة وبإتمام تلك الانتخابات وتشكيل الحكومة وممارستها لسلطاتها تكون عملية الانتقال السياسي قد تمت”.
وكانت اللجنة الدستورية السورية اختتمت أعمال الجولة السابعة في جنيف، دون حدوث مؤتمر ختامي في 25 من آذار الماضي.
وقال المبعوث الأممي، غير بيدرسون، في بيان، “قدمت جميع الوفود بعض التنقيحات على بعض النصوص المقدمة، كمحاولة لعكس مضمون المناقشات وتضييق الخلافات، بينما لم يتضمن بعضها الآخر أي تغييرات.
وأضاف أنه “بعد عامين ونصف من إطلاق اللجنة الدستورية، وهو حدث استغرق ما يقرب من عامين لتحقيقه، هناك حاجة واضحة لتجسيد هذا الالتزام في عمل اللجنة، بحيث تبدأ القضايا الموضوعية في الظهور، لتبدأ اللجنة في التحرك بشكل جوهري إلى الأمام بشأن ولايتها لإعداد وصياغة إصلاح دستوري للموافقة الشعبية”.
وستعقد الدورتان الثامنة والتاسعة للجنة في أيار وحزيران المقبلين، بحسب ما صرح به المكتب الصحفي للمبعوث في حديث سابق لعنب بلدي.