عنب بلدي- صالح ملص
“بعد تخرجي في كلية الإعلام بجامعة (دمشق) التحقت بمسابقة لتعيين معيدين، القبول فيها محصور بأصحاب المعدلات العالية، ومقابلة شفهية غالبًا ما تحكمها علاقة الطالب المتقدم بأعضاء اللجنة التي ستقابله أو مكانة عائلته المتنفذة في البلد، في كثير من الأحيان تكون هذه النوعية من المسابقات عبارة عن غطاء لإدخال وتمرير أسماء طلاب معينين لهم صلة بشخصيات رسمية ومسؤولين”.
تصف “سلمى”، البالغة من العمر 34 عامًا، معاناتها بتجاوز مجموعة من الصعوبات المعقدة في رحلتها ضمن الدراسات العليا في جامعة “دمشق” للحصول على درجة الماجستير في قسم الراديو والتلفزيون داخل كلية الإعلام، عام 2012، رغم عدم وجود اختصاص لدراسة الدكتوراه حينها.
اعتبرت “سلمى”، في حديثها إلى عنب بلدي، تلك الصعوبات سببًا لا يمكن التغافل عنه في شرح ضعف الإنتاج البحثي الأكاديمي المرتبط بسوريا.
تتجلى أهمية البحث العلمي، الذي تصدره الجامعات أو مراكز الأبحاث، في كونه مساهمًا أساسيًا في تلبية احتياجات القطاعات الصناعية والاقتصادية، وخلق فرص عمل، وبدوره في بناء المجتمع، وتفكيك تعقيداته، وشرحه واستيعاب المتاهات المستقبلية التي قد يغرق بها لتفادي ذلك السيناريو.
تدخل سوريا في دائرة البلدان التي تعاني من كوارث اقتصادية ومجتمعية وإنسانية، ينسكب رأسمالها البشري والطبيعي في هاوية من الصعب النجاة منها، بحسب تقارير أممية صدرت خلال آذار الماضي.
ويبيّن تحليل معظم المؤشرات المتعلقة بنشر البحوث الصادرة عن “الإسكوا“، أن النشر العلمي في سوريا “غير مرضٍ”، وأن الترتيب المتدني للبلد من حيث الإنتاج البحثي لا يتناسب مع إمكانياتها.
تبرز في الوقت نفسه المعوقات التي تحول دون إنتاج وتوظيف البحوث في خدمة الدولة والمجتمع داخل سوريا، مع عدم وجود البنية التحتية المساعدة والمهيَّأة للتعامل مع المعلومات وحق الوصول إليها، والتي في بعض الأحيان تنعدم إتاحتها لجميع فئات الطلاب والباحثين.
“فلترة” أمنية خلال المقابلة
في عام 2012، تقدمت “سلمى”، التي اختارت هذا الاسم المستعار لحماية هويتها من أي تداعيات أمنية، إلى مسابقة المعيدين لجامعة “دمشق” التي حددت فيها الشروط الواجبة للتقدم، وهي أن يكون المتقدم من السوريين، وألا يزيد عمره في عام الإعلان عن المسابقة على 24 عامًا لحملة الإجازة التي تكون مدة الدراسة فيها أربعة أعوام.
ومن ضمن الشروط للتقدم إلى تلك المسابقة هو إجراء مقابلة أمام لجنة يؤلفها وزير التعليم العالي.
قالت “سلمى”، المقيمة في تركيا حاليًا، بخصوص هذه المقابلة “لم تسألني اللجنة إلا سؤالًا واحدًا مرتبطًا باختصاصي، وهو أين توجد مواد الرأي في الراديو والتلفزيون، أجبتهم حينها: في اللقاءات الحوارية وافتتاحية نشرات الأخبار، أُعجبوا بتلك الإجابة، لكن بقية الأسئلة كانت جميعها مرتبطة برغبتي بالحصول على هذه الوظيفة”.
السؤال اليتيم الذي طُرح على “سلمى” بشأن اختصاصها في تحرير مواد الرأي في الراديو والتلفزيون، لم يقابله أي سؤال يحمل أبعادًا سياسية أو أمنية، إلا أن ذلك الأمر لا يحدث في مقابلات اللجنة مع الطلاب الذكور، بل “يتم سؤالهم عن آرائهم بقضية سياسية معيّنة، ويمررون أسئلة لهم بطابع أمني، فإذا ظهر الطالب بمظهر الملتزم دينيًا يتم شطبه فورًا، لتتحول المقابلة إلى غربلة أمنية. هذا الأمر قد لا يكون بأمر من الوزير، إلا أن اللجنة تملك صلاحية طرح تلك الأسئلة”.
تابعت “سلمى”، “لحسن حظي ولمعدلي العالي قُبلت في مسابقة المعيدين، ودخلت في دوامة طويلة لم أكن على دراية بها حتى وقعت الفاس بالراس (…) أذكر تمامًا كيف دارت في الخفاء أحاديث عن التأخر في البدء بالنظر بطلبات المتقدمين بعد أن كانت هناك طالبة يُقال إن عمها من مؤسسي حزب (البعث العربي الاشتراكي)، وعمرها 30 أو أكثر، قيل إنه تم تعديل الشروط لكي تتمكّن من التقديم والالتحاق بالمسابقة، وطبعًا لتكون من أوائل المقبولين”.
بعد أن نجحت “سلمى” بكل المراحل وُعدت مع زملائها المعيدين بامتيازات كثيرة، وأنه سيصل راتب المعيد كي يوازي راتب وزير في الحكومة، “لم أكن أعلم أن المعيد عليه أن يوفد داخليًا أو خارجيًا حتى يتم مرحلة الدراسات العليا ويحصل على شهادة الماجستير والدكتوراه ويصبح من أعضاء الهيئة التدريسية”.
تعقيد الحال أكثر
تزامن قرب تخرج السيدة الثلاثينية في كلية الإعلام مع بدء الثورة السورية عام 2011، وقطع بلدان عربية وأجنبية علاقاتها مع النظام السوري، الأمر الذي أثّر سلبًا على الإيفاد الخارجي للطلاب، وانخفاض معدل الطلاب المبتعثين إلى الخارج، إذ اقتصر الإيفاد الخارجي للطالب السوري على “الدول الصديقة لسوريا”، وهي روسيا والصين والهند وإيران.
استمرت قطيعة النظام السوري خلال العقد الأخير، مع ضلوعه في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ما أدخله في علاقة أكثر عداوة مع الدول الغربية، وبدرجة أقل مع بلدان عربية.
كان لنبذ سوريا على الساحة الدولية سياسيًا، وركود اقتصادها الداخلي نتيجة مزيج من السياسات الفاشلة التي طبّقها النظام لتفادي العقوبات الاقتصادية من الاتحاد الأوروبي وأمريكا، أثر سلبي على حال مجتمع الأبحاث وطلابه.
يظهر أحدث التقارير السنوية لمديرية البحث العلمي في جامعة “دمشق” عام 2020 أن عدد المعيدين الموفدين إلى الخارج 210 معيدين فقط.
يشير هذا الرقم إلى انخفاض حاد بعدد الطلبة الموفدين إلى خارج سوريا من المعيدين بالمقارنة مع تقرير عام 2009، الذي يظهر أن عدد الموفدين إلى الخارج من طلبة الدراسات العليا بدرجة الماجستير والدكتوراه هو 430 طالبًا، موزعين على بلدان عربية وأوروبية وأمريكا.
وبحسب تقارير المديرية، ففي عامي 2015 و2019 كان عدد الطلبة الموفدين إلى الخارج 16 طالبًا فقط.
تذكر “سلمى” تمامًا خلال حديثها أنها كانت الثالثة على دفعتها، بمعدل 75%، “ابتعثت زميلتي إلى مصر كونها المعيد الأول، كانت تعاني كثيرًا من التأخير في تسلّمها رواتبها، خصوصًا مع قطع عدد من الدول العربية علاقتها مع النظام السوري، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على زملائي، وهذه كانت من إحدى النقاط السوداء التي جعلتني وعائلتي مترددة في التقديم على الإيفاد الخارجي لدول عربية أو أوروبية”.
كتب ممنوعة وجو مسيّس وإهمال
أبرز الصعوبات التي واجهتها “سلمى” خلال إتمام دراسة الماجستير، هي غياب حق الوصول إلى المعلومة المطلوبة داخل المكتبة الوطنية في ساحة الأمويين (مكتبة الأسد)، وروتين انتظار الكتب المطلوبة، وشح المصادر عمومًا، وخصوصًا تلك المصادر الحديثة المتعلقة بالأمور السياسية والإعلامية والدينية.
تذكر “سلمى” معاناة زملائها في كليات الشريعة بحصر مراجعهم في اتجاه واحد ترغبه المكتبة لا بديل عنه، كما أن هناك العديد من المراجع التي احتاجت إليها لحلقات البحث أو رسالة الماجستير لم يكن ممكنًا الوصول إليها نتيجة تصنيفها بأنها “ممنوعة ولا يمكن الاطلاع عليها إلا بتقديم تعهد خطي أن البحث والاختصاص الذي أدرس فيه له صلة مباشرة بمحتوى الكتاب”.
أغلب مصادر الطلاب في جامعة “دمشق” هي من مراجع في معظمها غير حكومية، حتى ضمن مكتبة الكلية ذاتها، كانت هناك كتب من مصادر غربية أو عربية وأكثرها مصرية تحديدًا.
العقلية الأمنية التي رسّخها النظام في سوريا تجيّر كل المصادر العلمية لمصلحته، وأسهمت في خلق آليات سياسية وثقافية سيطرت على المؤسسة العلمية منذ السبعينيات، واتخذت سمة الهاجس الأمني والتسويق السياسي لسردياته، وابتعدت عن إتاحة مصادر المعلومات بجميع أبعادها.
ويطرح الباحث الزميل في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” نادر الخليل، في حديث إلى عنب بلدي، مثالًا لإيضاح وجهة نظره مستندًا إلى واقعة حصلت قبل عام 2011 بعدة أعوام، في مركز “الشرق” بمنطقة المزة بدمشق، “كان تابعًا للمخابرات العامة”، وفي فترة قبل العام 2004، عُقدت جلسة حوار مع باحثين أمريكيين، داخل المركز، ومعهم بعض الباحثين السورين المغتربين.
وسبقت الجلسة بأعوام سلسلة من الكتب تضمّن أحدها تجربة “الإخوان المسلمون” في سوريا، وكان محتواه “جريئًا بحيث إنه حمّل السلطة جانبًا من المسؤولية عما حصل في مجزرة حماة في الثمانينيات من القرن الماضي، وطرح احتمالات حصول تفاهمات بين النظام و(الإخوان)”.
صدرت تلك السلسلة عن “المركز العربي للدراسات الاستراتيجية” في نهاية التسعينيات، خلال الجلسة “وصف البعض تلك السلسلة بأنها موضوعية وجريئة، لدرجة أثارت الاستغراب لناحية كيف صدرت في سوريا حينها، لكن في وقت لاحق دُفنت تلك التوجهات خلال فترة قصيرة، ولم يعد يُسمع بالمركز، الذي على الأغلب، تعرض للإغلاق”.
كما تعاني الجامعات، بحسب الباحث، من عدم توفر الحواسيب الحديثة والمكتبات والمختبرات والإنترنت السريع والمواقع الإلكترونية، والاشتراك في محركات البحث وتوفير قواعد بيانات وشبكة معلومات.
رهن عقار ومراقبة
الطالب المعيد عليه أن يقوم بالإيفاد داخليًا أو خارجيًا ضمن فترة معينة، وهذا ما قامت به “سلمى”، التي قررت البدء بمعاملة الإيفاد الداخلي التي كانت أشبه بـ”دوامة معقدة يصعب على أي طالب إتمامها، نظرا إلى شروطها التعجيزية”.
من ضمن هذه الشروط أن يتقدم الطالب الذي يريد الإيفاد بتأمين كفيل له عن طريق قطعة أرض أو عقار، بأملاك معيّنة تعود لأحد أقارب الموفد، لتكون بمنزلة اليد التي تقيّد وتربط الموفد الداخلي والخارجي على وجه الخصوص، حتى تدفعه إلى العودة إليها أو إكمال الدراسة بشكل سريع قبل أن تضع الدولة يدها على العقار أو الأرض إن لم يعود الموفد إلى البلد وتتصرف بالعقار وتبيعه.
تابعت “سلمى”، “سألت معيدين سابقين ونصحوني بشدة ألا أتورط برهن أو وضع عقار يتعلق بعائلتي أو أقاربي ككفالة، ووجهوني لزيارة أحد السماسرة الذي يقوم بتأمين كفالة مقابل مبلغ كان يقارب 175 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جدًا لا يمكن لأي طالب تأمينه بسهولة، ما دفع بكثيرين من أصدقائي إلى التخلي عن حلم الإيفاد لإتمام الدراسات العليا كوننا معيدين”.
ظروف الابتعاث إلى الخارج ليست مريحة، بحسب “سلمى”، إذ إن قيود الزيارات العائلية متعددة، عدا عن “المراقبة المستمرة عبر تقارير رسمية أو غير رسمية للموفد والمبتعث”.
إلى تركيا
يحق للمعيد أن يبحث عن منح خارجية بجهده الشخصي، وفي حال وافقت وزارة التعليم العالي على إيفاد المعيد خارجيًا إلى غير الدول المتاحة والتي حافظت على التبادل الثقافي إلى الآن، يعامل المعيد الموفد خارجيًا حسب اجتهاده كمعاملة الموفد داخليًا، أي براتب الموفد داخليًا بعملة الليرة السورية، وليس كموفد خارجي (نظامي) يتعامل مع العملات الأجنبية.
بعد إتمام “سلمى” درجة الماجستير في الجامعة، لم يكن هناك قسم دكتوراه في كلية الإعلام الوحيدة في البلد، ولم تكن لديها الرغبة بالإيفاد إلى “الدول الصديقة” للنظام السوري، لذلك راسلت عددًا من الدول، وحصلت في النهاية على منحة كاملة ممولة من الحكومة التركية لإتمام الدكتوراه في قسم الراديو والتلفزيون بإحدى الجامعات هناك.
“نصحني عدد من الأساتذة بالتقديم على أساس معاملة الموفد الخارجي براتب إيفاد داخلي حالي حال عدد من الطلاب الذين أمّنوا منحًا لكندا وماليزيا على سبيل المثال، لكن الصدمة كانت بأن كل محاولات إنجاز هذه المعاملة باءت بالفشل، وعوملت باستغراب مطلق من قبل جميع الموظفين بسبب احتدام الخلاف السياسي التركي- السوري”.
لم تفقد “سلمى” الأمل بالإيفاد الخارجي، وطلبت مقابلة وزير التعليم العالي حينها، إلا أنها لم تستطع ذلك، والتقت فقط معاونة الوزير حينها، التي أصلًا قد اطلعت على مشكلتها من قبل سكرتيرتها.
بعد أن دخلت “سلمى” وتحدثت مطولًا عن افتقار كلية الإعلام إلى قسم الدكتوراه، لذلك سعت للبحث عن منح خارجية سريعة وحصلت على إحداها، “بدأت سحر فاهوم (معاونة الوزير حينها) بالحديث وقالت: (إن تركيا دولة معادية وتدعم الإرهابيين، ولا نريد أن نرسل إلى أراضيها طلابنا ولا أن يكون هناك تعامل معهم)”.
حاولت “سلمى” تبرير طلبها بأن الهدف هنا ليس سياسيًا ولا دبلوماسيًا، بل هي مجرد طالبة وباحثة أكاديمية، لا ناقة ولا جمل لها بواقع العلاقات بين البلدين.
في أثناء الحديث “سارعت فاهوم وقالت لي (إن كنت ترغبين حقيقة بالإيفاد، فسأتصل لك بمسؤول المنح الروسية أو الإيرانية التي اقترب موعد الإعلان عنها كي تنضمي لها وتقدمي عليها”.
لم يكن من “سلمى” في هذه اللحظة إلا أن قالت لفاهوم، إنها ستدرس مجددًا القرار، لأن الإصرار على الإيفاد لتركيا “أرعبني وأشعرني بأنني سأتعرض للتضييق والمراقبة من قبل إدارة التعليم العالي التي أنا موظفة فيها”.
بعد ذلك اللقاء مع معاونة الوزير، التي أُنهي تكليفها بمرسوم عام 2021، طلبت “سلمى” أخذ إجازة 15 يومًا كي تتمكّن فيها من الخروج من الأراضي السورية، والدخول إلى لبنان والسفر إلى تركيا، ومضت إقامتها هناك ستة أعوام، ولم تعد حتى الآن إلى سوريا.