الإنسان ما لم يحاول تخطّي الحدود الموضوعة أمام فكره، فهو عاجز عن ترك أثر ما، تؤكد حقيقة وجوده، فكأنه ما جاء.
آمن الفنان السوري خالد تاجا بهذا المبدأ في إجابته عن سؤال هل أنت كردي الأصل ضمن أحد لقاءاته التلفزيونية، إذ قال وهو على يقين تام بما يحمله لسانه من كلمات، “من دون أي مبالغة، أنا إنسان قبل كل شيء، لا أنتمي إلا للإنسان، أيًا كان لونه أو عرقه (…) ما بميزه إلا بعمله”.
يؤكد تاجا على هذا الموقف من خلال ذكره لقصيدة نظمها في سن الـ17 عامًا، حين اغتيل زعيم ثورة أمريكا ضد التمييز العنصري مارتن لوثر كينغ عام 1968، متضامنًا مع قضيته ومرثيًا إياه، ورغم أن تاجا في ذلك الوقت كان يتلمس اللغة، كتب في مطلعها “أمريكا تنظم الوجود وتدبغ الجلود، أمريكا تصنّف البشر وتصنع الحدود وتمنع الزنوج من رؤية النصب الذي أقيم في طرف المحيط لمَن دُفن هناك وفقد الحياة”، قاصدًا بذلك تمثال “الحرية”.
الموت ضمن المشاريع المستقبلية
قد تتوقف سعادة الإنسان على الإنسان نفسه أكثر من توقفها على الظروف الخارجية، ولا شيء يبعث على التشاؤم القاتم في الإنسان أكثر من الفراغ وحياة الكسل، والحياة النشيطة تؤثر على النفس وتقوي معنوياتها وتزيد من نشاط العقل والبدن.
يصف تاجا نفسه بأنه شخص “متشائل”، دامجًا التشاؤم والتفاؤل في مفردة واحدة، خلال أحد اللقاءات التلفزيونية الأخرى، يهرب من حجم التشاؤم والانعزالية التي عاش فيها لعشرة أعوام تقريبًا إلى المزيد من الخطط والأعمال المؤجّلة.
تبرز سمات القلق في نبرة تاجا وهو يتحدث عن المرض، إلا أنه لم يبدِ القلق ذاته حين يتحدث عن الموت، بل يجهّز لهذا الموعد الحتمي قبرًا في دمشق، كأحد المشاريع المستقبلية المجدولة على قائمة تطول ولا تكفيها عقود من الحياة كي تُنجَز.
بإمكان الإنسان تخفيف وقع الموت حين يشرحه، سيفهمه أكثر حين يناقشه، وتوصيفه بالخوف من عدم تمكّن الفرد من أن يكون الشخص الذي خطط له أن يكونه.
كتب تاجا على رخامة قبره أو المنزل الأخير كما أسماه، المعدّ مسبقًا، كلامًا يُعبر عن مسيرته في الحياة، “مسيرتي حلم من الجنون كومضة شهاب، زرعت النور بقلب من رآها لحظة، ثم مضت”.
الفنان الذي صنع ذاكرة فنية لجمهور عربي واسع، من خلال مسلسل “الزير سالم”، ومسلسل “التغريبة الفلسطينية”، خاف أن يخونه جسده بمرض ما ويوقف أي طاقة متجددة لحالة من الإبداع لم تُلتقط، أو تحميل الأصدقاء أعباء ممارسة الحياة الاعتيادية.
التحق تاجا بفرقة المسرح الحرّ مع الفنان عبد اللطيف فتحي، أحد روّاد المسرح في سوريا، الذي تعلم منه الكثير، وشارك معه في عدّة عروض مسرحية، كان أشهرها “مرتي قمر صناعي” و”بيت للإيجار” للقاص الشعبي حكمت محسن.
معظم تلك المسرحيات كانت تُعرض على خشبة “سينما النصر” في مدخل سوق “الحميدية”، والذي أُزيل عام 1983، ومنه انتقل خالد تاجا إلى فرقة المسرح العسكري عام 1965.
اختير كأحد أفضل 50 ممثلًا في العالم لعام 2004 بحسب مجلة “التايم” الأمريكية، ولقبه الشاعر محمود درويش بـ”أنطوني كوين العرب”.
إنقاذ الوطن والتغيير
لم تعد دمشق بلاد أفراح تزيّنها الأشجار، وأحزن خالد تاجا، المتوفى في 4 من نيسان 2012، زرع الأسمنت المنتشر في المدينة، والانفجار العمراني الذي توسّع دون دراسة أو اهتمام، “بإمكاننا أن يكون تمددنا العمراني في الجبال ومناطق خالية من الأشجار، وبناء مدن جديدة بكامل خدماتها”.
منذ ثورة 2011، شهدت أسئلة الفنون والممارسات الإبداعية استحقاقات جوهرية في صميم علاقتها مع الواقع، جددت هذه الأسئلة النقاش حول الأدوار التي يمكن أن تلعبها الفنون أمام تراجع الديمقراطيات ومساحة الحريات العامة، وأمام القمع السياسي والعنصرية والفساد وأفعال الاعتقال والتعذيب والتهجير.
ضمن لقاءاته التلفزيونية عام 2009، وجّه خالد تاجا انتقادًا صريحًا ومباشرًا للأنظمة العربية الدكتاتورية، ومنها دون شك النظام السوري، بعدم إتاحة حرية التعبير مقابل قبضة أمنية وسط حالة مزرية ومخجلة.
يحاول الفن دائمًا تقديم نظرة جديدة ومتغيرة للواقع، جنبًا إلى جنب مع كونها نظرة من صلب هذا الواقع، يتغلغل الفن في جميع تفاصيل الحياة ويخاطب كل أبعادها، ويرتبط بكل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بقدر ما هو إبداعي وتخصصي، هذه المميزات تجعله قادرًا على أن يكون مفردة أساسية في أي تفكير نقدي يؤدي إلى التغيير، هذه القناعات الراسخة في أحاديث خالد تاجا سبق لإثباتها وتوثيقها مئات الأمثلة والحكايات، تلخص قوة الفن في التغيير الاجتماعي.
–