عنب بلدي – حسام المحمود
“عم عبي بنزين وإطلع ع الموتور دوّر على شغل، حق البنزين ادينتو دين بس للاقي شغلة وما عم لاقي”.
“أبو محمد”، عامل مياومة في مجال الإنشاءات، في الأربعينيات من العمر، يلخص بهذه الطريقة رحلة السعي الطويل خلف لقمة العيش، وما يقطع طريقها من معوقات سياسية واقتصادية وعالمية، تتحكم بلقمة الرجل وزوجته وأطفاله الأربعة، المقيمين في مخيم “الكويتي” شمال غربي حربنوش في ريف إدلب.
ومع حلول شهر رمضان، لا دخل ثابتًا أو إضافيًا تتكئ عليه العائلة في مصاريفها سوى نحو سبعة أيام من الشهر، بشكل وسطي، تشكّل الأيام التي يجد فيها رب العائلة عملًا سيتقاضى بعد انتهاء كل يوم منه، مبلغ 20 ليرة تركية فقط، أي أقل من 30% مما يحتاج إليه العامل في إدلب يوميًا، لكسب التكلفة الشهرية لتأمين الاحتياجات الأساسية، وفق تقارير مبادرة “REACH” الإنسانية.
وعلى مدار 11 عامًا مضت منذ انطلاق الثورة السورية، أطلقت المنظمات الأممية والإنسانية المعنية، الكثير من الإحصائيات التي تتعلق بحجم الجوع والفقر وغياب الأمن الغذائي، وتأثير كل ذلك، وتحذر من المخاطر.
ورغم كل الدعوات والبيانات والإحصائيات التي تتفحص المشكلة، لم تظهر حلول تمنع “أبو محمد” من بيع كيلوغرام من “عدس المعونة” ليشتري دواء لزوجته.
عنب بلدي تحدثت إلى الرجل عبر تطبيق “واتساب”، ليؤكد عبر تسجيلات صوتية يظهر في خلفية بعضها بكاء طفل صغير، أن سبيله لإعالة أسرته، إلى جانب أيام العمل القليلة وغياب فرصة عمل بديلة رغم البحث، مبنيّ على الاستدانة.
ويتأثر الوضع الاقتصادي في سوريا على اختلاف مناطق النفوذ والسيطرة، وفق معطيات سياسية عالمية تتضح أمامها هشاشة الواقع المعيشي وغياب مناعته، ما يعني تأثرًا سلبيًا سريعًا بالضرورة.
وحول كيفية حل مشكلة العائلة المعيشية، قال “أبو محمد”، بصوت ملول لا يرغب بالإطالة، “على الله، والله عندي بنت مرضانة، الله يفرجا أحسن شي”.
الفقر قاسم مشترك
في شمال غربي سوريا، يوحد الفقر وتدني الواقع المعيشي وقلة فرص العمل، وتدني الأجور، السوريين بين مقيم ونازح، ويعلّق حياة الكثيرين بالمساعدات الأممية التي فتحت لها الأمم المتحدة، استجابة لرغبة روسية، خطوطًا داخلية لإيصالها من مناطق سيطرة النظام السوري إلى شمال غربي سوريا.
ووفق تقارير لمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR)، فإن من إجمالي عدد سكان إدلب، البالغ أربعة ملايين نسمة، يقدّر وجود حوالي 2.7 مليون نازح بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، باعتبار أن 94% من العائلات تعاني انعدام القدرة الشرائية للوصول إلى احتياجاتها الأساسية.
هذه المساعدة تقسم اليوم على معبر “باب الهوى” الحدودي، والمساعدات عن طريق معابر داخلية مع النظام تحت اسم المساعدات عبر “خطوط التماس”، التي لا يؤمن ناشطون كثر في الشمال بإيجابية جدواها، إلى جانب الفارق الكبير بالكميات بين ما يدخل من خلال معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وما يصل عبر النظام نحو إدلب.
ومنذ إقرار المساعدات عبر “خطوط التماس” مع النظام السوري، دخلت 43 شاحنة محملة بالمواد الغذائية فقط من مناطق سيطرة قواته في حلب نحو إدلب، أمام ألف شاحنة متنوعة المساعدات، دخلت عبر “باب الهوى”.
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، تحدث إلى عنب بلدي عن المؤثرات التي انعكست سلبًا على معيشة المواطنين، لافتًا إلى التضخم الاقتصادي العالمي المتزايد، والذي ينعكس على سوريا باختلاف مناطق السيطرة العسكرية، كنوع من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
وأوضح السيد عمر أن ما يفاقم حدة الوضع الاقتصادي في سوريا، تداخل التضخم المستورد مع التضخم الداخلي مع أزمات عديدة يعانيها الاقتصاد السوري، ما يضع الناس أمام صعوبات متصاعدة مع حلول رمضان.
ومنذ آذار الماضي، شهدت أسعار السلع في إدلب موجة غلاء متسارعة قبيل بدء الشهر الفضيل، إلى جانب ثبات “القيمة الاسمية” للأجور والرواتب، لكنها في الحقيقة تتآكل في قيمتها الحقيقية نتيجة التضخم، فالمشكلة بحسب الباحث على مستويين، هما ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى الدخل، إضافة إلى شح المواد في السوق.
ويسهم غياب الأمن الغذائي مع طول عمر المشكلة في اتساع الآثار المترتبة، التي تُترجم في الواقع عبر استمرار الفقر، مع انهيار اقتصادي ينذر، بحسب دراسات بحثية، بانعدام أمن غذائي طويل الأمد، مع محدودية توفر الأغذية الكافية والمأمونة غذائيًا، أو محدودية قدرة الحصول على الغذاء بطرق مقبولة اجتماعيًا.
ويعتمد الأمن الغذائي على أربعة شروط حددتها منظمة الأغذية والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة، وهي توفر الغذاء، وإمكانية الحصول عليه، واستخدامه، واستقراره.
وحول الوسائل التي يمكن للمواطن الاستعانة بها للتعامل مع الظرف المعيشي، فالخيارات قليلة جدًا وفق الباحث الاقتصادي، فالناس يبحثون عن أعمال إضافية قد لا تكون متاحة دائمًا، بسب ارتفاع معدل البطالة، وانخفاض مستوى التشغيل، ما يفسر ارتفاع مستوى الحوالات الخارجية الواردة لسوريا في شهر رمضان، وهذه التحويلات لا تحل المشكلة لكنها تخفف منها.
ويشكّك السيد عمر بجدوى مراقبة الأسعار (في حال حصولها)، باعتبار أن الأسعار ترتفع نتيجة التضخم الدولي والمحلي، كما استبعد زيادة مستوى الرواتب، لعدم “القدرة الحكومية” على تنفيذها، كما أن الأجور لن تحدث فارقًا حقيقيًا، حتى لو جرت زيادتها، جراء اتساع الفجوة بين الدخل والنفقات.
كما اقترح الباحث الاقتصادي تقديم مساعدات مباشرة، والعمل على تخفيف ارتفاع الأسعار قدر الإمكان، كنوع من الحلول المتاحة في الوقت الراهن.
فقر فوق سيطرة النظام
“الناس قرفانة حالها، الأسعار كتير عالية، الناس كتير مضغوطة رح تنفجر”، هذا ما أكّدته “أم عامر”، وهي سيدة متزوجة تقيم مع أفراد أسرتها الأربعة في اللاذقية، قبل أن تنخرط في جرد لأسعار أبرز المنتجات الغذائية الأساسية، أو التي تدخل في إعداد الأطعمة الأساسية.
“ليتر الزيت المازولا بـ15 ألفًا، كيلو الرز بـ4000، كيلو البرغل بـ5500، أوف شو بدي عد لعد، كيلو البطاطا بـ2400، الحمد لله”.
أكّدت السيدة لعنب بلدي أنها تكتفي بالأساسيات فقط، أو ما لا يُستغنى عنه بمعنى أدق، لإطعام أطفالها الصغار، ومع ذلك فمعاش زوجها لا يُعوّل عليه دون الاستدانة مقدار أضعافه.
“أم عامر” تخالف بذلك، ولأسباب خارجة عن إرادتها، تحذيرات المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، ديفيد بيزلي، التي أطلقها في تشرين الثاني 2021، حين حذّر من التدابير “القاسية” التي يضطر الأهالي إلى اتخاذها بسبب الجوع والفقر في سوريا، وفق بيان صدر حينها.
ويوفر برنامج الأغذية العالمي المساعدات الغذائية لأكثر من خمسة ملايين شخص في جميع أنحاء سوريا كل شهر، لكن الوكالة تواجه “قيودًا شديدة في التمويل، واضطرت مؤخرًا إلى تقليل حجم الحصة الغذائية الشهرية التي تتلقاها العائلات”، حسب البيان نفسه.
الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، أكّد في حديث إلى عنب بلدي أن المشكلة في سوريا قديمة جديدة، ومستمرة وتتفاقم دون حلول، لافتًا إلى رفع حكومة النظام الدعم عن الأفراد أو القطاعات، مع تأثير “الغزو” الروسي لأوكرانيا، وإسهامه برفع أسعار الطاقة والنفط.
وقال شعبو، إن مناطق سيطرة النظام تواجه أصلًا مشكلة في قيمة الليرة السورية، وضعف الدخل، مع غياب “التدخل الحكومي” لإنعاش الوضع الاقتصادي، والمتضرر الأكبر هو المواطن طبعًا.
واستبعد الدكتور فراس شعبو وجود حل اقتصادي دون حل سياسي في سوريا، لا سيما مع عدم سيطرة النظام على موارد البلاد، وغياب القدرة الشرائية لدى المواطنين، ما يجعل المستفيدين من الاقتصاد السوري قلة قليلة.
وحول آلية تعامل الناس مع الواقع الاقتصادي المفروض اليوم، أكد شعبو وجود استجابة سلبية وتأقلم سلبي مع الأزمة المعيشية، عبر إخراج الأطفال من المدارس أحيانًا للعمل، أو بيع مقتنيات أساسية في المنزل، وفتح باب الاستدانة، وإعادة ترتيب الأولويات، والاتكال على الحوالات الخارجية، باعتبار أن العمل والعمل الإضافي لزوجين معًا بالكاد يكفي لسد رمق العائلة.
تحذيرات جديدة وأرقام قديمة
ويعاني حوالي 12.4 مليون شخص (ما يقرب من 60% من السكان) من انعدام الأمن الغذائي، ولا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية، وهذا أعلى رقم سُجل في تاريخ سوريا بزيادة نسبتها 57% على عام 2019، وفق معلومات لبرنامج الأغذية مرفقة بالبيان.
وفي 24 من شباط الماضي، وبالتزامن مع انطلاق “الغزو” الروسي لأوكرانيا، قررت حكومة النظام السوري خلال جلسة استثنائية مصغرة، “وضع بنود عمل للتعاطي مع الوضع المستجد لمدة شهرين يتم خلالها عقد اجتماعات دورية لتقييم الوضع واتخاذ ما يلزم حيال تطوراته وفق عدة مستويات”، ما يعني فرض التقشف.
مدير برنامج الأغذية العالمي حذّر أيضًا، في 4 من آذار الماضي، من أزمة غذائية تلوح في الأفق في المناطق المتضررة من الحرب في أوكرانيا، ومن بينها سوريا، كما نبّه إلى أخطار تفاقم المجاعة في جميع أنحاء العالم بسبب توقف إنتاج وتصدير منتجات مثل الحبوب.
وبلغ عدد السوريين المحتاجين إلى مساعدة إنسانية نحو 14 مليونًا و600 شخص، بعد أن بلغ 13 مليونًا و400 ألف خلال 2021، وفق تقرير الأمم المتحدة الصادر في 23 من شباط الماضي.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قدّم، في 12 من كانون الثاني الماضي، تقريرًا يؤكد أن 90% من السوريين تحت خط الفقر، بينما يعاني 60% منهم “انعدام الأمن الغذائي”.