حرب وغلاء وشبكات فساد.. عوامل تدمّر الثروة الحيوانية في سوريا
عنب بلدي – جنى العيسى
يعاني مربو المواشي والطيور في سوريا ظروفًا صعبة متعددة، دفعت الكثير منهم للتفكير بترك المهنة، سواء بوجود بدائل عن هذه المهنة أو دونها، فقد بات كثيرون مضطرين لبيع مواشيهم، إن توفر من يشتري، أو ذبحها، للتخلص من عبء مصروفها.
ومن انخفاض قيمة الليرة السورية، إلى ارتفاع أسعار الأعلاف المتكرر عالميًا، تلجأ أيضًا حكومة النظام السوري بشكل متواتر لخفض مخصصات الأعلاف التي تقدمها بسعر “مدعوم” للمربين، وتتجاهل حاجتهم لكميات إضافية من مواد التدفئة اللازمة للحفاظ على حياة القطيع خلال فصل الشتاء.
كل ذلك يدفع المربين إلى رفع أسعار منتجات المواشي والطيور، من بيض وفروج ولحم وحليب وأجبان، فتتضاعف أسعارها في الأسواق المحلية، مضيفة إلى المستهلكين أعباء مادية جديدة لا يستطيعون تحملها.
تكاليف “باهظة” لا يغطيها سعر الحليب
كانت تكاليف استيراد المواد العلفية إلى سوريا سببًا رئيسًا لدى حكومة النظام قبل بدء “الغزو” الروسي لأوكرانيا، لرفع أسعار الأعلاف محليًا، أو إدارة دعمها عبر تخفيض المخصصات.
وبعد بدء “الغزو”، ضاعف ارتفاع أسعار الأعلاف عالميًا الفجوة على المربين بين تكاليف الإنتاج والمردود من التجارة بالقطيع، إذ ارتفع سعر كيس العلف (50 كيلوغرامًا) من 70 ألف ليرة سورية لحدود 110 آلاف ليرة.
سليمان (38 عامًا)، وهو أحد مربي المواشي في ريف محافظة درعا الغربي جنوبي سوريا، فضّل عدم كشف اسمه الكامل لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي، إنه يربي ثلاث أبقار، موضحًا وجود فارق كبير بين أسعار الحليب الذي تنتجه، وثمن العلف الذي تأكله.
ونتيجة لغلاء أسعار العلف، اضطر سليمان إلى تخفيف تغذية الأبقار، الأمر الذي انعكس على إنتاج الحليب لديهن.
مساعد طبيب بيطري، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو مقيم في محافظة درعا، أوضح لعنب بلدي، أن للعلف دور رئيسًا في تحسين إنتاجية الحليب من ناحيتي النوع والكم، إذ تحتوي الأعلاف على البروتين، وتمدّ المواشي بالطاقة والمعادن الضرورية، مضيفًا أن كل كيلوغرام علف يجب أن ينتج عنه كيلوغرامان من الحليب، في الوضع الطبيعي.
ولا تقتصر تكلفة التربية على العلف، إذ تحتاج الأبقار إلى الأعشاب الضرورية، كالبرسيم والفصة والذرة الصيفية، التي تساعد في تقليل الاعتماد على العلف.
ويزرع البرسيم شتاء، والفصة والذرة والدخن صيفًا، وتشكّل زراعتها تكلفة إضافية إلى تكاليف الإنتاج، إذ يستأجر معظم المربين أرضًا خاصة لزراعة البذار، بالإضافة إلى تكاليف الأسمدة والسقاية.
ويخزّن المربون التبن (قش القمح المجفف)، ويقدم للأبقار مع العلف، وفي أثناء حصاد القمح، يشتري المربون الكميات التي تكفي غذاء الأبقار عامًا كاملًا، بسعر قد يصل إلى 500 ليرة سورية للكيلو الواحد.
ركود في البيع واستغلال التجار للأزمة
في 26 من شباط الماضي، أعلن مدير الإنتاج الحيواني في وزارة الزراعة بحكومة النظام السوري، أسامة حمود، فقدان الثروة الحيوانية في سوريا نحو 40% إلى 50% من قطيعها، بسبب الارتفاع العالمي في أسعار الأعلاف، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية على النظام.
وتحدث حمود عن وجود مشكلة كبيرة تهدد جهود ترميم الثروة الحيوانية، تتمثّل بعدم قدرة المربين على الاستمرار بعملية التربية، ما يدفعهم لبيع قسم كبير من قطعانهم لتأمين احتياجات القسم الآخر.
كما انعكست المصاعب المتعددة لتربية المواشي والطيور على حركة بيعها وشرائها، ما أدى إلى انخفاض أسعارها في ظل ارتفاع العرض وقلة الطلب عليها، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
يوسف (30 عامًا) من سكان ريف محافظة درعا، يربي 50 رأس غنم، وثلاث بقرات، قال لعنب بلدي، إن حركة بيع القطيع “شبه متوقفة” رغم انخفاض الأسعار، مؤكدًا أن السبب في ذلك عدم الرغبة بتحمل تكاليف تربيتها.
ويصل سعر البقرة الواحدة اليوم إلى حوالي مليوني ليرة سورية، بعد أن كان مطلع 2021 يسجل حوالي خمسة ملايين ليرة، كما يصل سعر الدجاجة “البياضة” إلى حوالي 25 ألف سورية، وسعر الخروف الذي يختلف باختلاف وزنه إلى حدود 300 ألف ليرة وسطيًا.
كما أكد رئيس فرع “نقابة الأطباء البيطريين” في محافظة السويداء، وائل بكري، أن ارتفاع أسعار الأعلاف أوقع مربي الثروة الحيوانية في قبضة التجار والسماسرة، موضحًا أن عجز المربين عن تأمين الأعلاف بالكميات المطلوبة لقطعان مواشيهم، دفعهم للجوء إلى بيع قسم منها في سوق المواشي، وجعلهم تحت رحمة التجار الذين فرضوا أسعارًا وصفها بـ”الميتة”.
وأضاف بكري، في حديث لصحيفة “الوطن” المحلية، في 10 من آذار الماضي، أنه خلال “بازار” حدث في سوق بيع المواشي حينها، لم يدفع التجار أكثر من 125 ألف ليرة سورية للرأس الواحد من الأغنام.
كما أعلن عضو “لجنة مربي الدواجن” حكمت حداد، في 23 من آذار الماضي، انخفاض نسبة مربي الدواجن في مناطق سيطرة النظام إلى 20% فقط، من أصل نسبتهم منذ عام 2011.
البيئة المحلية تزعزعت بسبب الحرب
استمرت الأسباب المؤدية إلى زيادة الصعوبات أمام مربي الثروة الحيوانية خلال السنوات الماضية، دون تحرك حكومي جديّ يخفف الآثار السلبية، خصوصًا في ظل ارتباط هذا القطاع بالعديد من المواد الغذائية الأساسية التي يستهلكها المواطنون بشكل يومي.
الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، قال إن قضية تراجع الثروة الحيوانية في مناطق سيطرة النظام السوري قضية “مركبة” وذات أسباب متعددة.
وأوضح العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، أن من أبرز أسباب تقهقر حجم الثروة الحيوانية إلى ما دون 50%، هو عدم ملاءمة البيئة المحلية الحاضنة لهذا القطاع، في بلد يشهد نزاعًا منذ عام 2011، الأمر الذي أثّر سلبًا على مقومات الاستقرار الأساسية لنمو هذا القطاع والحفاظ على الثروة الحيوانية بمختلف أنواعها.
وأضاف العبد الله أن عدة عوامل اجتمعت معًا لتشكّل تحديًا كبيرًا لحكومة النظام في مدى قدرتها على الاستمرار في دعم قطاع الثروة الحيوانية والحد من خسائره، وهي التي تعيش أزمة اقتصادية متفاقمة، دفعتها إلى إعادة جدولة الدعم وتقنينه لدى شرائح واسعة من المستفيدين في مختلف القطاعات، فلم يعد بمقدورها الاستمرار بنفس وتيرة الدعم المقدم سابقًا لقطاع الثروة الحيوانية، رغم أهميته للاقتصاد الوطني، وللسوق المحلية.
وتتمثل تلك العوامل، بحسب ما أكده العبد الله، بتراجع مساحات الرعي بشكل كبير، ونفوق أعداد كبيرة من رؤوس الماشية، نتيجة تفشي الأمراض بينها، وارتفاع أسعار الأدوية البيطرية، وارتفاع تكلفة تربية الماشية مقارنة بالأرباح المتحققة منها مع انخفاض القدرة الشرائية للمستهلك، إلى جانب ارتفاع أسعار الأعلاف، وعدم القدرة على تأمينها لدى نسبة كبيرة من المربين، بالإضافة إلى شيوع ظاهرة تهريب الماشية إلى المناطق والدول المجاورة بقصد التربح منها.
الثروة الحيوانية لم تنجُ من “الفساد”
من جانب آخر، يمكن النظر في قضية تراجع الثروة الحيوانية إلى الفساد الاقتصادي “المستشري” في المؤسسات الحكومية التابعة للنظام، ووجود شبكات من المنتفعين في المؤسسات ذات الصلة بهذا القطاع، على رأسها “المؤسسة العامة للأعلاف”، و”المصارف”، و”الغرف الزراعية”، و”الاتحاد العام للفلاحين”، وغيرها من الجهات ذات الصلة، بحسب ما يراه الباحث الاقتصادي محمد العبد الله.
وأوضح العبد الله أن دور هذه الشبكات بدا واضحًا من خلال التحكم بأسعار الأعلاف وتوزيعها لدى المؤسسة، إذ وصلت أسعار “المقنن العلفي” إلى حدود تقارب أسعار التجار، لافتًا إلى أنه بات لا يخفى التشبيك القائم بين تجار الأعلاف وهذه الشبكات أيضًا، لاستيراد الأعلاف واحتكارها وفرض أسعارها في السوق المحلية، بهدف تحقيق أرباح تقدّر بمليارات الليرة السورية، في ظل غياب الرقابة التموينية عليها.
وبحسب العبد الله، فإنه وفقًا للمعطيات السابقة، لم تعد حكومة النظام تملك الرغبة ولا القدرة على الاستمرار بدعم قطاع الثروة الحيوانية، وسط محاولتها تبرير انسحابها من الدعم بعدة ذرائع صارت معروفة للجميع.
“النهاية غير مبشّرة”
قبل العام 2011 كانت الثروة الحيوانية في سوريا هي المسؤولة عن نحو 40% من إجمالي الإنتاج الزراعي، كما أمّنت فرص عمل لحوالي 20% من القوى العاملة في المناطق الريفية.
وبمعدل وسطي، كانت نسبة الأسر الريفية التي تعتبر تربية الماشية المصدر الرئيس للغذاء والدخل، تصل إلى حوالي 35%.
أما اليوم، وفي حال عدم انتهاء الأسباب التي أدت إلى تدهور قطاع الثروة الحيوانية، يرى الباحث الاقتصادي أن القطاع آيل إلى مزيد من التدهور، الأمر الذي سيكون له العديد من الآثار السلبية على شريحة واسعة من الأفراد الممتهنين لتربية المواشي والطيور، من حيث فقدان مصدر دخلهم الأساسي، إلى جانب حدوث ارتفاع مطّرد في أسعار المنتجات الحيوانية، وعدم تمكّن نسبة كبيرة من المستهلكين من شرائها.
ومن المحتمل أن تلجأ حكومة النظام في المستقبل إلى الاستيراد لتغطية حاجة السوق المحلية بمنتجات أقل ثمنًا، مقابل جودة أقل من المنتج المحلي، ما يفتح الباب واسعًا لتربح شبكات “المنتفعين” عبر عمليات الاستيراد لهذه المواد.
شارك في إعداد هذا التقرير مراسل عنب بلدي في درعا حليم محمد
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :