النتيجة صفر.. “فنجان القهوة” عند المخابرات السورية مجرّم قانونيًا
عنب بلدي- صالح ملص
تتكرر في سوريا دعوة المعارضين إلى أفرع الأمن بعد أي حراك مدني أو حديث ينتقد السلطة لتناول “فنجان قهوة” عند “المعلم”، إن لم يجرِ اقتحام منازلهم أو إيقافهم على حواجز الأمن في الشوارع.
و”فنجان القهوة” بهذا السياق هو مصطلح متعارَف عليه في المجتمع السوري، ويُقصد به أنواع التعذيب التي يتعرض لها المواطن في فرع الأمن.
وبعد ثورة 2011، ارتفعت درجة العنف والتعذيب داخل أقبية المخابرات، مع اتساع الاعتقال ليشمل معارضين وناشطين ومشاركين في الحراك، أو مواطنين لا علاقة لهم اقتيدوا إلى الأفرع مصادفة أو لتشابه الأسماء وغيرها من الأسباب الكثيرة التي تتيح لعنصر الأمن توقيف من يشاء ومتى ما يشاء.
إلا أن إدارة الدولة في سوريا خضعت منذ 30 من آذار الماضي لقانون يجرّم هذا السلوك داخل غرف التحقيق، مقابل الحصول على معلومات أو اعتراف من قبل الأشخاص أو بسبب ممارستهم لعمل ما أو امتناعهم عن فعل عمل ما.
قانون هزلي
أثار القانون، الذي أصدره رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 28 من آذار الماضي، وحمل رقم “16” لعام 2022، سخرية المستخدمين السوريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرين أن “فنجان القهوة” لدى إدارة المخابرات السورية صار مجرّمًا، وسط آلاف قصص التعذيب التي أفاد بها شهود معتقلون لمنظمات سورية وأجنبية، وأمام “لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا”.
في عام 2014، حصر تقرير صدر عن “اللجنة السورية لحقوق الإنسان” 40 أسلوبًا من أساليب التعذيب التي يمارسها عناصر النظام ضد المعتقلين، أبرزها الفلقة، والضرب واللكم لمدة طويلة، و”الشبح” (رفع المعتقل إلى السقف من يديه بحيث تمس أصابع قدميه الأرض) و”البلانكو” أو “الشبح الخلفي” (تقييد اليدين خلف الظهر ورفع المعتقل إلى السقف بجنزير موصول إليهما)، و”الدولاب”، و”بساط الريح”، والصعق بالكهرباء، والاعتداء الجنسي، وقلع الأظافر.
في نفس العام، خرجت صور “قيصر” المسرّبة إلى العلن، وحملت أكبر حجة يمكن الاستناد إليها من قبل المنظمات الحقوقية والمحاكم الدولية لإدانة حكومة النظام بجرائم الحرب ضد المعتقلين السوريين داخل مراكز الاعتقال التابعة له.
بعدها بعام واحد، أنكر الأسد تلك الصور، قائلًا خلال مقابلة مع مجلة “فورين أفيرز”، “يمكنك أن تحصل على صور من أي شخص وتدّعي وجود تعذيب، ليس هناك أي تحقق من هذه الأدلة. وبالتالي جميعها ادعاءات بلا أدلة”.
تملك السلطة في سوريا سجلًا تظهر فيه سياسة ممنهجة لقمع أي معارضة عن طريق اعتقال أفرادها وتعذيبهم، يمتد هذا التعذيب في بعض الحالات إلى أفراد أسرة المعتقل أو أصدقائه لإجباره على الاعتراف أو الإدلاء بمعلومات.
قالت “هيومن رايتس ووتش” ساخرة من إعلان القانون، إن “هذه ليست كذبة نيسان. أصدرت سوريا، حيث التعذيب روتيني ومتفشٍّ، قانونًا يجرّم هذه الممارسة”، ونظرًا إلى انتشار التعذيب في البلد، من الصعب أخذ أمر كهذا على محمل الجد، منوهة إلى أن التعذيب ليس مزحة.
تناقض مع الاتفاقيات الدولية
خلال مقابلة مجلة “فورين أفيرز”، دعا الأسد إلى “طريقة غير متحيزة وعادلة للتحقق من كل هذه الادعاءات”، في نفس الوقت يرفض النظام منح “لجنة التحقيق” و”الآلية المحايدة والمستقلة لسوريا” إذن الدخول إلى السجون، من أجل خلق إمكانية تفتيشها ومعرفة مصير المعتقلين.
يُجرّم القانون الجديد التعذيب ويفرض السجن حتى ثلاث سنوات (جناية)، وتصل العقوبة إلى الإعدام في حالة الاغتصاب أو الوفاة. كما يحظر على أي سلطة الأمر بتعذيب أي شخص، وينص على أن الأدلة التي تُجمع في أثناء التعذيب باطلة.
ومع وجود هذا القانون، تبقى المادة رقم “16” من القانون رقم “14” لعام 1969 نافذة، والتي تنص على منع ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة عن الجرائم التي يرتكبونها في أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير.
ولم ينص القانون على أي آلية محايدة للرقابة والتفتيش بشأن تفعيل القانون وتنفيذ ما ورد فيه، أو حتى الإشارة إلى جهة قد تتولى هذه المهام باستقلالية.
من حيث نطاق التطبيق الزمني للقانون، لا تسري أحكامه بأثر رجعي، بسبب تجريد نصوصه من هذا المبدأ، وبالتالي فلن يستفيد أي شخص اُعتقل قبل تاريخ نشر القانون من هذه الأحكام.
كما أن الجريمة التي نص عليها القانون تسري عليها مدة التقادم الجنائي في سوريا، ومدة التقادم على الجرم كونه جنائي الوصف تسقط بانقضاء عشرة أعوام بالنسبة لدعوى الحق العام ودعوى الحق الشخصي، وذلك من تاريخ وقوع الجناية إذا لم تجرِ ملاحقة بشأنها خلال تلك المدة، بحسب المادة رقم “437” من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
يقصد بالتقادم الجنائي، التقادم المسقط الذي يسري على الشكوى الجنائية أو الدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة، كما يسري أيضًا على العقوبة التي يُمكن أن يُحكم بها المتهم، وهذا المقصود بتقادم العقوبة.
وبالتالي فإن قوانين التقادم هي القوانين التي تضع حدودًا من حيث الزمان للجريمة والعقوبة.
هذا الأمر يتناقض مع القانون الدولي، إذ تبنّت اتفاقية دولية مبدأ “عدم سريان التقادم” بالنسبة للجرائم التي تعتبر من الصعب مباشرتها قضائيًا على الفور بعد ارتكابها، وهذا ينطبق بشكل خاص على جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإبادة الجماعية.
وتعد سوريا دولة طرفًا بباتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي انضمت إليها عام 2006.
تشوّهات لن تزول
يصعب على “هيومن رايتس” التكهن بنيات سلطة طبيعتها التعسف، وتعتقد أن يكون إقرار القانون “ردًا على الجهود المستمرة لمقاضاة المسؤولين السوريين على استخدام التعذيب في النزاع، بما فيها محاولة بعض الدول محاسبة الحكومة السورية عن التعذيب بموجب (اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب)”.
وأفاد بيان صادر عن مجلس النواب الهولندي، في 18 من أيلول 2020، أنه جرى تقديم مذكرة إلى البعثة السورية لدى الأمم المتحدة، تدعو فيها النظام إلى محادثات حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها في سوريا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
واستنادًا إلى هذا البيان، قدمت هولندا مذكرة لحكومة النظام تدعوها من خلالها لأداء مسؤولياتها الدولية بسبب التعذيب في مراكز الاعتقال التابعة لها، واستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا.
يرى المحامي السوري المقيم في فرنسا زيد العظم، أن القانون استكمال لشرط وقّعت عليه سوريا حين انضمت إلى اتفاقية مناهضة التعذيب عام 2006، و”تجميل لتشوّهات السلطة التي لن تزول بأي قانون بعيد عن التطبيق الفعلي”.
“مثل هذه التحركات القانونية هي بروباغندا أمام دول العالم لإيصال دعاية بأن سوريا منفتحة على التغيير، بالتزامن مع انفتاح بعض الدول على النظام السوري في الفترة الأخيرة”، بحسب ما يعتقده العظم خلال حديث إلى عنب بلدي.
وتعمل المحاكمات القائمة في بلدان الاتحاد الأوروبي على تقليص فجوة المساءلة الدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، من خلال الدعاوى القضائية ضد مرتكبي الانتهاكات بموجب “الولاية القضائية العالمية“.
وبذلك، فإن المنظمات الحقوقية لن تستفيد من قانون في سوريا يجرّم التعذيب، لأن وجوده أو عدمه سيان، وفق ما يراه المستشار القانوني والحقوقي لـ”المركز السوري للعدالة والمساءلة”، المحامي أويس الدبش، في حديث إلى عنب بلدي.
لن تُترجم نصوص هذا القانون إلى فائدة عملية في سوريا، بحسب ما يراه الدبش، لأسباب تكاد تكون بديهية، ولن يكون إلا خطوة بسياق الاستثمار السياسي.
وينبغي للنظام البدء بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب على مدار العقد الماضي، والإفراج عن جميع المعتقلين تعسفًا في مراكز الاعتقال الرسمية وغير الرسمية، بحسب ما أوصت به “هيومن رايتس”، والمساهمة الجادة في جهد دولي ومستقل لتحديد وكشف مصير آلاف المخفيين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :