عنب بلدي– أمل رنتيسي
ظهرت خلال “الغزو” الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 من شباط الماضي، ملامح واضحة للعلاقات القوية بين روسيا وصربيا، التي تعتبر وثيقة بالأصل منذ تفكك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي.
ولسنوات، حاول الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، الحفاظ على علاقة متينة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وفي الوقت نفسه حاول أيضًا تنمية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الذي تسعى بلاده للانضمام إليه، ومع الغرب على نطاق أوسع.
إلا أن صربيا بدأت تتخذ موقفًا يُغضب الغرب بعدما رفضت فرض عقوبات على روسيا، وسهّلت حركة الطيران للروس، كما شهدت العاصمة الصربية، بلغراد، مظاهرات داعمة للهجوم الروسي على أوكرانيا، وفق ما نشرته وسائل إعلام مختلفة.
الحرب الروسية على أوكرانيا سمحت برؤية العلاقات الوطيدة بين الصرب والروس التي سبق أن انعكست على بلدان مثل سوريا، إذ جرت زيارات دبلوماسية وأحاديث اقتصادية بين صربيا والنظام السوري في أواخر عام 2021، وزار حينها مساعد وزير الخارجية الصربي، فلاديمير ماريتش، العاصمة السورية دمشق، وبحثا التعاون في قطاعات الطاقة والزراعة والاتصالات.
وتطرقت صحيفة “Danas” الصربية، في تقرير نشرته في تموز 2021، عقب تعيين السفير الصربي في دمشق، إلى قضية إرضاء روسيا عبر التقارب مع النظام السوري.
وبين ضغط الاتحاد الأوروبي التي تسعى صربيا للانضمام إليه من ناحية، وتحالفها مع “الكرملين” والشرق من ناحية أخرى، يبقى موقفها غير متضح الملامح وسط تساؤلات طُرحت خلال زيارة الوفد الصربي إلى سوريا حول المصالح المشتركة بين البلدين.
بين الشرق والغرب.. صربيا في موقف صعب
تواجه بلغراد ضغطًا من قبل الاتحاد الأوروبي في كل مرة تخطو فيها خطوة تجاه تحالفاتها الشرقية، إذ يحذّر مسؤولو الاتحاد الأوروبي مرارًا صربيا من أنه يتعيّن عليها مواكبة السياسات الخارجية للاتحاد إذا أرادت الانضمام.
وانتقد المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، بيتر ستانو، قرار بلغراد تعيين السفير رادوفان ستويانوفيتش في سوريا الذي اعتُمدت أوراقه في آب 2021، وقال ستانو، إن ذلك “يتعارض مع مواقف الاتحاد الأوروبي التي ترفض تطبيع العلاقات مع النظام السوري وتفرض عقوبات عليه”.
أما عندما حاولت روسيا، حليفة النظام السوري الرئيسة، الالتفاف على العقوبات التي فُرضت عليها بعد “غزوها” أوكرانيا، خلقت صربيا “ثغرة” لتسهيل الطيران للروس عُرفت باسم “باب صربيا الخلفي”، استغله الروس للفرار إلى أوروبا والالتفاف على حظر شامل فرضه الاتحاد الأوروبي على الرحلات الجوية من وإلى روسيا، وفق تقرير نشرته صحيفة “The Guardian” في 11 من آذار الحالي.
وضاعفت الخطوط الجوية الصربية، المملوكة للدولة في الغالب، عدد الرحلات المباشرة من موسكو إلى بلغراد إلى 15 رحلة أسبوعيًا، لتلبية الطلب المتزايد بسرعة بعد أن حظر الاتحاد الأوروبي الطائرات وشركات الطيران الروسية من مجالها الجوي، حسب الصحيفة.
وضعت هذه المعطيات بلغراد تحت ضغط من الدول الغربية لتغيير موقفها من موسكو، وفق ما صرّح به الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، قائلًا، “صربيا كانت الدولة الوحيدة في أوروبا التي رفضت فرض عقوبات على روسيا”، مبديًا استياءه من تخفيض الرحلات بعد الضغط متسائلًا، “هل سيكون أولئك الذين يقودون المطاردة ضد صربيا فيما يتعلق بالرحلات الجوية إلى العاصمة الروسية راضين عن ذلك؟” .
كما نشرت نائبة وزير الخارجية الأوكراني، أمينة دزيبار، تغريدة قالت فيها، “صربيا هي الوحيدة في أوروبا التي لها سماء مفتوحة لروسيا، جني الأموال من الدم (الأوكراني) لا يليق بدولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي”.
مصالح مشتركة.. نفوذ روسي في البلقان يقابله ضغط صربي على الغرب
الباحث في مركز “بلغراد للسياسة الأمنية” والحاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية فوك فوكسانوفيتش، شرح في مراسلة مع عنب بلدي طبيعة علاقة صربيا مع روسيا، التي نتجت عنها علاقات مع النظام السوري.
وقال فوكسانوفيتش، إنه بالنسبة لروسيا تعتبر العلاقات مع صربيا حجر الأساس لنفوذها في البلقان (منطقة جنوب شرق أوروبا)، بينما تنظر صربيا إلى روسيا على أنها وسيلة لزيادة نفوذها وقدرتها على المساومة مع الغرب.
وأضاف الخبير أن هذه الإشكالية تتعلق بالنزاع حول كوسوفو والمكانة الصربية في الهيكل الأمني الغربي، معتبرًا أن الشراكة بين الطرفين انتهازية، إذ تعرف روسيا أن صربيا تستخدمها فقط للحصول على صفقة أفضل مع الغرب، بينما لا تعرف صربيا أبدًا ما إذا كانت روسيا ستبيعها في صفقة كبيرة مع الغرب.
لا تعترف صربيا بإقليمها السابق كوسوفو كدولة منفصلة، ولا تعتبر الحدود المشتركة سوى حدود “إدارية” ومؤقتة، بينما تعترف أكثر من 100 دولة عضو في الأمم المتحدة و22 من دول الاتحاد الأوروبي الـ27 بكوسوفو منذ إعلانها استقلالها عام 2008.
وأسفر النزاع في يوغوسلافيا السابقة بين القوات الصربية والمجموعات الكوسوفية الألبانية المطالبة بالاستقلال، عن مقتل 13 ألف شخص، وانتهى بعد حملة قصف غربية أرغمت القوات الصربية على التراجع. وكانت صربيا وكوسوفو التزمتا، عام 2013، بإجراء حوار برعاية الاتحاد الأوروبي لمحاولة حل القضايا العالقة، ولم يحرز تقدمًا يذكر. وتدعم بعض الدول مثل بوليفيا وإسبانيا وسوريا وأوكرانيا والصين وروسيا موقف صربيا من كوسوفو. |
وطرحت عنب بلدي على الباحث سؤالًا حول مخاطرة صربيا بفرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي من خلال تقاربها مع روسيا وقبل ذلك مع النظام السوري، وأجاب فوكسانوفيتش أنه بالإضافة إلى مسألة كوسوفو، هناك أيضًا مشكلة تتمثل في انخفاض نفوذ الاتحاد الأوروبي على صربيا، إذ لم يتمكّن الاتحاد من عرض عضوية صربيا بسبب مشكلة أوروبا الخاصة مع صربيا، وفي هذا السياق الاستراتيجي، تعتقد صربيا أن بإمكانها تحمّل ومواءمة هذا النوع من السياسة، وفق الباحث.
تقارب تاريخي سوري- صربي ضد “الليبرالية الأمريكية”
يرى الباحث فوك فوكسانوفيتش، أن الأنظمة مثل نظام الأسد تستقطب التعاطف داخل الجمهور الصربي، وذلك لسبب بسيط وهو أنهم وجدوا تشابهات تاريخية مع مصير الصرب في التسعينيات، كونهم هدفًا للأحادية الأمريكية والتدخل الليبرالي، وذلك في إشارة من الباحث إلى قصف “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) صربيا عندما كانت ضمن جمهورية يوغوسلافيا السابقة، لإجبار بلغراد على الانسحاب من إقليم كوسوفو في آذار من عام 1999.
سوريا لم تعترف بكوسوفو في هذه العلاقة، وكذلك المخاوف الصربية المحتملة من التطرف الديني (الإسلامي)، ومع ذلك، فإن حقيقة إرسال صربيا سفيرها إلى سوريا كانت مدفوعة بالرغبة الصربية في إرضاء روسيا، وكذلك إيران، إذ تحتاج صربيا إلى أن تظل إيران دولة غير مُعترفة بكوسوفو.
وفي سياق إرضاء إيران الآن، أشار فوكسانوفيتش إلى أن بلغراد احتاجت إلى التعويض عن أنها في أواخر عام 2020 صنّفت وكيل إيران في لبنان “حزب الله” منظمة إرهابية، وذلك لإرضاء إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
وإلى الآن، ما زالت الروابط القديمة التي ربطت بين بلغراد ودمشق راسخة بشكل أو بآخر، إذ قطع رئيس يوغسلافيا السابقة، جوزيف بروز تيتو، في عام 1967 العلاقات مع إسرائيل، تضامنًا مع مصر وسوريا بشأن حرب الأيام الستة، كما كان للشركات الحكومية اليوغوسلافية تاريخ في تنفيذ المشاريع في سوريا.
التعاون الاقتصادي.. فائدة أم إرضاء لروسيا؟
بحث الطرف الصربي مع النظام السوري “العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تطويرها في كل المجالات”، عندما زار مساعد وزير الخارجية الصربي، فلاديمير ماريتش، دمشق، في كانون الأول 2021.
وكان التعاون الاقتصادي في المجالات الاقتصادية والتقنية الحديث الرئيس، وذكرت صحيفة “الوطن” المحلية أن وزير الاتصالات والتقانة في حكومة النظام السوري، إياد الخطيب، دعا الشركات الصربية المهتمة بقطاع الاتصالات إلى العمل مع الشركة السورية للاتصالات في مشاريع التحول الرقمي وقطاع البرمجة، إضافة إلى توقيع اتفاقية تعاون في مجال القطاع الزراعي بين البلدين، وفق وزير الزراعة، محمد حسان قطنا.
أوضح الباحث فوكسانوفيتش لعنب بلدي أنه في حين أنه قد يكون هناك بعض التعاون الثنائي بين النظام السوري وصربيا، إلا أن الاستفادة المشتركة ما زالت موضع شك.
وعلل ذلك بأن سوريا بحاجة إلى إعادة الإعمار بعد الحرب، وليس من الواضح إلى أي مدى يمكن لاقتصاد متوسط الدخل مثل صربيا المساعدة، خاصة أن معظم الشركات اليوغوسلافية الكبيرة المملوكة للدولة التي عملت في يوغوسلافيا سابقًا لم تعد موجودة.
خمسة أسباب تجعل صربيا مستبعَدة من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
نشرت مجلة “New Eastern Europe” مقالًا في 2020 تحدثت فيه عن أسباب استبعاد انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي، وهي:
● افتقرت صربيا إلى وسائل الاندماج اللازمة للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي شكّك الدول في قبول عضويتها، وحفزت أزمة الهوية المستمرة في الاتحاد الأوروبي دولًا مثل فرنسا وهولندا على السعي إلى اتباع نهج أبطأ في الانضمام لمرشحين من دول غرب البلقان، إذ ترتبط موسكو بعلاقات ثقافية وثيقة مع دول أرثوذكسية مثل صربيا.
وفي وقت لاحق، فقدت العضوية جاذبيتها ودعمها بين المواطنين الصرب، خاصة بعد تغلغل دول مثل روسيا والصين بمنطقة البلقان، إذ تبرعتا للمنطقة بملايين جرعات اللقاحات المضادة لفيروس “كورونا”، وتوقع التقرير أنه سيصوّت نصف الصرب فقط لمصلحة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بينما يعتقد 40% من السكان بالفعل أن الصين هي أكبر مانح للمساعدات في البلاد.
● مسألة كوسوفو، إذ لا يزال الصراع الدائر حول إقليم صربيا السابق الذي يمثّل مشكلة رئيسة للحكومة في بلغراد، في سياق الحوار الدبلوماسي الحالي الذي يتوسط فيه الاتحاد الأوروبي بين البلدين، ولن تتخلى صربيا عن مطالبها بشأن كوسوفو، وعلى الرغم من أن تقدم صربيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي مشروط بتحسينها للعلاقات مع بريشتينا، فإن مزاعمها بشأن كوسوفو ستستمر في أخذ الأسبقية على أي احتمالات محتملة للانضمام.
● رفض الحكومة في صربيا معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بتقييد الحريات السياسية والإعلامية وحرية ونزاهة الانتخابات، التي ما زالت تخضع لضغوط الدولة، في ظل تشديد فوتشيتش و”الحزب التقدمي الصربي” قبضته على المؤسسات المحلية وجميع أجهزة الدولة.
● ظهور أصدقاء وأعداء جدد، فمنذ بضع سنوات، عزز الرئيس الصربي علانية علاقات صربيا مع لاعبين جدد مثل الصين، التي تعهدت مؤخرًا باستثمارات كبيرة في البنية التحتية وتدفق كبير لرأس المال إلى الاقتصاد الوطني، إلى جانب الصداقة التقليدية مع روسيا، ما وضع صربيا في موقع متميز بين الشرق والغرب، ففي غضون ذلك، يظل الاتحاد الأوروبي على أمل تعظيم نفوذه السياسي مزودًا موثوقًا للأموال لصربيا.
● اعتقاد بلغراد بأن الوضع الراهن الذي يوازن بين الشرق والغرب يستحق الحفاظ عليه، فبينما تواصل بلغراد ترويج الوهم بأن البلاد ملتزمة بالعمل نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، وبالتالي الاستفادة من تمويل بروكسل، ما زال فوتشيتش وحكومته يتقدمان في حملتهما للاستيلاء على الدولة.
ويعتقد الباحث فوكسانوفيتش أنه خلال الأزمة الحالية التي خلقتها روسيا بـ”غزوها” أوكرانيا، يعتمد موقف صربيا على ما إذا كانت ستقوم بتحول أم لا وتنضم إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا على مقدار الضغط الذي تعاني منه من الغرب.
وأكد أن الغرب يظل الشريك الاقتصادي الأساسي لصربيا، وأن النظام الصربي يحتاج إلى مباركة سياسية من الغرب للبقاء في السلطة، وإذا كان التهديد قويًا بما يكفي، فقد تضطر الحكومة الصربية إلى الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا، ومع ذلك، وحتى لو حدث ذلك، فلن يحدث إلا بعد فوز الحكومة الصربية الحالية بإعادة انتخابها في نيسان المقبل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :