برهان غليون لعنب بلدي: طريقان أمام السوريين لقلب الطاولة
لا يستقيم الحوار مع برهان غليون، المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي المعاصر في جامعة “السوربون” الفرنسية، باعتباره مفكرًا ومنظرًا سياسيًا فقط، فتجربته دمجت بين النظري والعملي بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وهو وإن كان منخرطًا في كثير من النقاشات قبل وبعد ما يسمى “ربيع دمشق”، عندما ورث بشار الأسد منصب رئيس الجمهورية عن والده حافظ الأسد عام 2000، فإنه شغل منصب رئيس “المجلس الوطني السوري”، لتتحول التجربة والإسهام في النقاش الفكري والسياسي حول مستقبل العالم العربي عمومًا، وسوريا خصوصًا، إلى تجربة عملية.
قد لا يتفق زملاء الأمس الذين عملوا مع غليون في مناصب سياسية داخل المعارضة مع توصيف لها اليوم بأنها “جثة متعفنة” في بعض مؤسساتها، لكنه يبقى، باعتراف الأغلبية، واحدًا من أهم القامات الفكرية، كما أنه لم يبقَ عالقًا عند مستوى المنصب السياسي، فكتب الكثير في مآلات ما بعد عام 2011، ووصف واقع سوريا، وحال المعارضة، كما قدم طرحه لإمكانية النهوض، واصفًا في الوقت نفسه “عطب الذات” الذي لحق بالثورة، ليسجل مراجعة تعتبر استثناء يقدمه منظر مارس دور القيادة في العمل السياسي.
للحديث عن أدوات الثورة السورية التي لا تزال تملكها على الصعيد السياسي، بعد 11 عامًا من قيامها، وحاجة الثورة إلى منبر سياسي يعبر عنها، التقت عنب بلدي المفكر والسياسي برهان غليون.
طريقان للسوريين أحدهما انتفاضة جديدة
يرى المفكر غليون، في توصيف الثورة السورية، أنها من نمط الثورات الخضراء التي قامت في أوروبا الشرقية بعد زوال الاتحاد السوفييتي وانهيار إمبراطوريته، وهي ثورات شعبية عفوية وسلمية معًا، وهذا سبب تسميتها الخضراء أو ثورات الياسمين.
ويضيف أنها بعكس الثورات التي سبقتها في القرن الـ20 بأكمله، لم تكن تملك حزبًا ثوريًا محترفًا كما كانت عليه الحال في روسيا والصين وفيتنام والجزائر وغيرها، ولا دعوة عقائدية عالمية تؤمّن لها دعمًا دوليًا من القوى الموالية لها.
وبمعنى آخر، لم يكن لديها أدوات، بل كانت هي ذاتها، أي الانتفاضة العامة والشاملة هي أداتها وجوهرها معًا، وهو ما خلق إمكانية لدى النظام، لقاء تنازلات بسيطة، لاستنزافها والقضاء عليها.
وحول ما حدث في سوريا، قال غليون، إن تقاطع المصالح الإقليمية والدولية العديدة مع النظام القائم عمل على تحويلها إلى حرب طويلة المدى، ما كان من الممكن أن تكون، أعني الحرب، إلا على حساب الثورة وشعبها، وأن تضمن لكل طرف شجّع عليها وشارك فيها تحقيق الأهداف التي كان يجري وراءها أو جزء منها ونظام الأسد واحد منها.
وهكذا لم تحرم الثورة ومن ثم الشعب السوري من تحقيق أهدافه أو حتى جزء منها فقط، وإنما حطمت الدولة كدولة سورية، أيضًا، واحتلت البلاد، وأصبحت سوريا فريسة تتجاذبها الأطراف المختلفة التي استثمرت في الحرب وموّلتها، على حد تعبيره.
ويعتقد الدكتور برهان غليون، أنه لم يعد أمام السوريين إلا أحد طريقين لقلب الطاولة على المتآمرين عليهم بالمعنى الحرفي للكلمة، أولهما انتفاضة شعبية عفوية جديدة في المستقبل القريب أو الأبعد، تعيد تذكير السلطات الوصائية وذيولها بالحقوق الأساسية للسوريين، في المناطق شبه المستقلة أو في عموم سوريا، إذ لا يزال الكثير من الذين عاشوا الثورة يحلمون ويعملون على أساس هذه الفرضية.
والطريق الثاني بدء السوريين، منذ الآن، بالتفكير بإعادة تنظيم قواهم سياسيًا، وخوض معركة متعددة الأبعاد والميادين، أيديولوجية وفكرية لإعادة تنوير الرأي العام وتوحيده، وسياسية لاستعادة التفاهم والتعاون بين القوى الديمقراطية التي ولدت من الثورة وتلك التي كانت قائمة قبلها.
بالإضافة إلى بناء تحالف وطني واسع لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، واستراتيجية تهدف إلى عزل قوى الوصاية الأجنبية عالميًا ومحاصرتها بشتى الوسائل من أجل انتزاع السيادة السورية من جديد، وإرجاع سوريا إلى المجتمع الدولي كدولة حرة، وعضو شريك وفاعل، لا مستعمرة، أو أرض استعمار واستيطان وتغيير ديموغرافي ومذهبي، ومستودع للمرتزقة أو وكر لعصابات الجريمة والمخدرات والإرهاب الدولية.
“ولا نستطيع منذ الآن أن نحكم في أي الطريقين ستذهب أمورنا، لكن إذا فشل السوريون، والجيل الجديد الذي ولد في زمن الثورة على أصوات هتافاتها بالكرامة والحرية، في سلوك الطريق الثاني، طريق إعادة بناء الوطنية السورية وتكوين الحركة الوطنية الفاعلية والنشطة، فلن يكون أمام السوريين، عاجلًا أو آجلًا، خيار آخر إلا العودة إلى الانتفاضة الشعبية العفوية، التي يتوقف نجاحها أيضًا على وجود قيادة موحدة أفضل مما حصل في ثورة 2011، وعلاقات دولية تحول، في حال غياب مجتمع دولي فاعل، دون تغوّل القوى المترصدة لأي خلل في منطقة ما لتوسيع دائرة نفوذها وهيمنتها”.
التسوّل لا ينتج معارضة
أثارت خسارة المعارضة جزءًا كبيرًا من الأراضي السورية التي سيطرت عليها خلال فترات منذ عام 2011، التساؤلات حول إمكانية امتلاك المعارضة أوراق ضغط تحرك بها الملف السوري.
الدكتور برهان غليون، يرى أنه إذا تحولت القضية السورية إلى ملف على مائدة المفاوضات والمساومات الدولية كما هي عليه اليوم بالفعل، فهذا يعني أنه لم يعد هناك لا معارضة ولا مقاومة ولا حركة شعبية ولا وطنية، إذ لا تقدم المعارضة أو الحركة الوطنية ملفًا أو شكوى أمام الدوائر الدبلوماسية والسياسية الدولية، وإنما تعمل على الأرض ومع الشعب لتحقيق أهدافها، بحسب رأيه.
وهذا العمل بمقدار قوته ومصداقيته ونجاعته يحوّل القضية من ملف، أي شكوى لا يلتفت إليها أحد، حتى لو عبّر عن مشاعر طيبة تجاه ضحاياها، إلى تحدٍّ للقوى التي تريد وأدها أو التهرب من مسؤولياتها تجاهها.
وأكد غليون أن المعارضة لا تملك أي وسيلة للتأثير إلا بمقدار ما تعمل على الأرض، وتلتحم بالناس، وتنظم مقاوماتهم واحتجاجاتهم ونشاطاتهم المختلفة، من أجل تغيير الواقع الأليم بل المأسأوي القائم.
واعتبر أن التسوّل على أعتاب الدبلوماسية الدولية لا ينتج معارضة ولا يقدم قضية.
تعدد المنابر إعلامي فقط
لا تحتاج الثورة إلى منبر يعبر عنها بحسب ما أوضحه غليون، وإنما تحتاج إلى قيادة سياسية توحد الرؤية، وتبلور الأجندة وخطط العمل لتطبيق أهداف معيّنة ضمن استراتيجية واضحة.
ووسط تعدد المنابر السياسية المتحدثة باسم الثورة منذ عام 2011، تتعدد الآراء أيضًا حول آثار ذلك على الثورة، وتتكرر التساؤلات حول معوقات توحيدها، بكونها “تتحدث بمطالب واحدة”.
ويرى الدكتور برهان غليون، أن إحدى أكبر مشكلات الثورة السورية كانت منذ البداية وإلى اليوم تعدد المنابر، والسعي الى خلق المنابر، ما يعني تكريس الناشطين والنخب التي كان عليها العمل على الأرض جهدهم للإعلام وللظهور في الوسائل الإعلامية.
واعتبر غليون أن النشاط الوحيد لدى هذه النخب اليوم يكاد يتجلى “للأسف” في ميدان الإعلام فقط، و”لأن الإعلام لا قيمة له إلا بمقدار ما يعبر عن نشاط عملي سياسي ويعكسه، أصبح إعلامنا أيضًا دون مصداقية كبيرة، بل صار تكرارًا وترديدًا لأطروحات ومطالب وبيانات وشعارات قديمة، كما تحول نشاطنا السياسي إلى تدبيج وثائق وبيانات وعقود واتفاقات، تعكس العجز عن الفعل أكثر مما تساعد على تطويره”.
الشخصنة غلبت الثورة
وحول إمكانية توحيد المعارضة والمعوقات التي تحول دون ذلك، أوضح المفكر برهان غليون، أنه لا يمكن توحيد المواقف والرؤى إلا بالعمل.
وأضاف أنه بالعمل والممارسة والسعي إلى تحقيق أهداف واحدة أو مشتركة، يتقدم الوعي المشترك، ويتبلور الطرح الواحد، وتزول الحزازات والاختلافات الشخصية، أو بالأحرى ننتقل من شخصنة القضايا إلى تجريدها أو تنزيهها عن العواطف الشخصية، حتى يستطيع جميع من له مصلحة فيها أن يشارك فيها، بصرف النظر عن علاقته الشخصية بهذا أو ذاك، وحبه أو كرهه لهذا الفريق أو الفريق الآخر.
وأكد غليون أن المعارضة السورية لا تزال، “للأسف”، تضع العلاقة الشخصية والشخص عمومًا قبل القضية، و”تبويس اللحى” قبل الخطة والسياسة والقدرة على المبادرة والعمل والإنجاز، الأمر الذي يعمّق الانقسام والتفرقة، ويفسر العجز إلى اليوم عن تجاوز الخلافات التي هي بنسبة 90% شخصية وليست سياسية.
هل يمكن “إنعاش المعارضة”
لم يتفق البروفيسور برهان غليون مع مصطلح “إنعاش المعارضة”، موضحًا أن السؤال الأصح هو كيف يمكن بناء معارضة، وعزا ذلك إلى عدم إمكانية إنعاش معارضة هزيلة أو هرمة أو غائبة أو تحولت إلى “جثة متعفنة” في بعض “ما يسمى مؤسساتها”.
وأضاف أن المعارضة تُبنى بالممارسة ومن خلالها، مشيرًا إلى الحاجة لصحوة وجدانية، ووقفة تأمل وتفكير ومراجعة جدية، وشعور أفضل بالمسؤولية.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :