غروزني.. حلب.. كييف
في ندوةٍ علميةٍ جمعتني بأحد كبار المستشرقين الروس، عشية اجتياح مدينة حلب سنة 2016، وتدمير الجزء الأكبر من مدينتها القديمة ومن أحيائها الفقيرة، قال لي بنبرة جدّية وشبه خجل دبلوماسي غير صادق: “آسف أن أقول لك إنّ مصير حلب سيكون كمصير غروزني”. سمعت هذه العبارة، ولم أقم بأية ردة فعل وغادرت المجلس بصمت، لأنزوي في غرفتي وكأنني في حدادٍ يسبق خطباً جللاً. حاولتُ بتوترٍ شديدٍ أن أستعيد مشاهد لتفاصيل أحببتها في مدينتي. كما سعيت بشكل افتراضي، ترافقني دموع حقيقية، إلى تثبيت ما أمكن من اللقطات الجميلة في ذاكرتي التي بدأ عمرها الافتراضي بالنكوص. أما المستشرق، فكم كان أسفي كبيراً لاقتناعي بأنّه لا يكذب. وقد كان (ولم يزل) مقرّباً من صنّاع/ صانع القرار في موسكو، كحال أغلب الباحثين الروس المهتمين بالمنطقة، والذين يُسمح لهم بالتعبير بكلّ “حرية” محصورة بالخضوع لإملاءات سيد الكرملين.
بعد عدة أشهر من دمار حلب، شاركتُ أيضاً في ندوةٍ علميةٍ حاول منظّموها الإجابة عن الدور الجديد الذي يلعبه حلف شمال الأطلسي في المشهد الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين. كان جُلّ المشاركين من الدول الأعضاء في الحلف، إضافة إلى مركز بحثي روسي، مثلّه باحثٌ “مُستشرقٌ” شاب. وفي بداية اللقاء، رحّب المنظمون بالمشاركة الروسية، معتبرين أن روسيا أضحت دولة صديقة. أثارني هذا الموضوع، فاخترتُ أن أركّز في مداخلتي على المشاركة الروسية العسكرية في مواجهة قوى المعارضة في الداخل السوري. إثر الانتهاء من مرافعتي التي حاولتُ من خلالها توضيح طبيعة العمليات العسكرية الروسية تجاه المدنيين، من خلال استهداف المنشآت الحيوية، كالمشافي والمدارس، أجمع الحضور من الغربيين على نقدي، كوني أجانب الواقع، وشدّدوا على أن التدخل الروسي يهدف أساساً إلى محاربة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي. وقبل أن أستيقظ من وقع الصدمة، انبرى الباحث الروسي إلى الردّ، مؤكّداً اتفاقه مع استنتاجي، ومشدّداً على أنّ التدخل الروسي أساساً يهدف إلى حماية نظام دمشق، وأنّ القضاء على المتطرّفين مسؤولية غربية بامتياز.
سمحت لي هذه التجربة بأن أتقدّم أكثر في فهم كيفية التعامل الغربي مع السياسة الروسية وطموحاتها. فعلى الرغم من أن الروس قد أعلنوا مرّاتٍ عن مواقفهم بوضوح قارب السخرية من الآخرين، سعى الغربيون مراراً إلى تبرير سياساتهم وتعديل فهمنا مطامعهم، ليس لقناعةٍ تُذكر، بل تحسّباً لردود أفعال الكرملين، والتزاما بسياسة “النأي بالنفس” عن الانخراط في مواجهاتٍ دبلوماسية مباشرة مع قيصر موسكو. وقد اتفق معي المشارك الروسي في أثناء الحوار الذي تلا المشهد السوريالي إياه، بأن الغرب يُحابي الروس بفجاجة، فيما يخصّ الملف السوري وسواه من الملفات. كما أضاف أنهم يتقاطرون على موسكو لنيل الرضى أو سعياً لدرء المخاطر.
اليوم، تجتاح القوات الروسية أوكرانيا، وتتوالد التبريراتُ عربياً، والتي يستند جزءٌ منها إلى عوامل واقعية، ربما وُجِدَت في خبايا الملفات. أما الجزء الأكبر منها، فيتجانس مع ميل أصحاب نظرية المؤامرة إلى الوقوف بشكل تلقائي ضد سياسات الغرب، ولو أودى بهم هذا باتجاه “التضامن” مع غُزاة. أما غربياً، فالمشهد يصبح أكثر تعقيداً، وتحتاج مواجهته إلى تفكيك “سوء فهم” بنيوي للمشهد، ففي معرض رفض مساعدة الجيش الأوكراني، يقول خبراء غربيون إن تزويد كييف بما يسمح لها بالدفاع عن نفسها أمام غزو عسكري يُقحمُ الغربيين في مواجهة مع الروس. وهذا طرح لا يستقيم، فميثاق الأمم المتحدة ينصّ على أنّ “تزويد دولة بأسلحة لمواجهة غزو عسكري ينتهك القانون الدولي عمل شرعي”.
أما لدى المتطرّفين من اليمين ومن اليسار، فتُطرح مسألة توسّع الحلف الأطلسي، وما يشكله هذا من خطر على الأمن القومي الروسي. متناسين ربما أن الحلف، ومنذ 2008، وبتأثير ألماني وفرنسي، يرفض البحث في مسألة انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه. وقد جوبهت محاولة البلدين برفض حاسم، ربما كان له تبريره، بحجة “عدم تحريض روسيا”. وهناك من يتطرّق أيضاً إلى سيطرة اليمين المتطرّف القومي على دفّة السياسة الأوكرانية، تماشياً مع ادّعاءات الكرملين أنّ تدخله يسعى إلى القضاء على النازيين الجدد. وهذا خطأ معرفي، بحيث أنه ومنذ انتخابات 2014، تراوحت نسبة أصوات الأحزاب المتطرّفة بين 3% إلى 5%، أي بمعدل يقلّ بعشر مرّات عن فرنسا وعن إيطاليا. والخطر اليميني المتطرّف الحقيقي يقبع في موسكو التي موّلت وساعدت كل الحركات المتطرّفة والانفصالية في أوروبا. وكما يقول قائل بتعرّض الأقلية الروسية للاضطهاد، وهي التي وطّن جوزيف ستالين الجزء الأكبر منها شرقي أوكرانيا، بعدما نفّذ مجزرة عبر مجاعة منظّمة أودت بحيوات ستة ملايين من السكان الأصليين بين عامي 1932 و1933. في المقابل، تشير المقاومة في مدينتي خاركيف وماريوبول اللتين تضمان غالبية روسية، كما التظاهرات ضد الروس في مدينة خيرسون المحتلة، بوضوح، إلى أنّ الأوكرانيين الروس، في هذه المدن على الأقل، يدافعون عن وطنهم الأوكراني.
هل ستنجح كييف بتجنّب مصير كلّ من غروزني وحلب؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :