الحرب تدكّ مشاعر الجدّات السوريات.. حكايات الأحفاد “أون لاين” 

  • 2022/03/20
  • 9:58 ص

سيدة سورية تجلس على أنقاض منزلها في طريق الباب بمدينة حلب (AFP)

عنب بلدي – مأمون البستاني

مع حلول مناسبة عيد الأم، في 21 من آذار من كل عام، تستذكر آلاف الأمهات والجدّات السوريات، خصوصًا اللواتي بقين متمسكات ببيوتهن في القرى والمدن السورية، أبناءهن وأحفادهن الذين أجبرتهم الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة على اللجوء أو الهجرة إلى خارج سوريا.

ويمثّل ابتعاد الأحفاد والأبناء عن الأجداد والجدّات صورة من صور المعاناة التي تعيشها المرأة السورية، وعلى وجه الخصوص الجدّات.

وبلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نحو خمسة ملايين و700 ألف لاجئ، معظمهم يعيشون في دول مجاورة لسوريا، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن المفوضية.

حكايات “كان يا ما كان”

في اتصال مرئي عبر الهاتف الخلوي مع أحفادها، تبدأ آمنة الملقّبة بـ”أم أحمد” (64 عامًا)، بسرد الحكايات التي لم تجرب سردها واقعيًا كجدّة، بسبب بُعد أحفادها عنها: “كان يا ما كان، في قديم الزمان، كان في امرأة، عندها ثلاثة أولاد (صبيّان وبنت)، كانت تنتظر اليوم الذي سيتزوجون به لتفرح لهم وترى أحفادهم، إلا أن الحرب أبعدتهم عنها، لتبقى وحيدة، بانتظار عودتهم يومًا ما”.

بعد أن ملأت الدموع عينيها، وبدت الغصّة واضحة بصوتها، بسرعة أنهت آمنة حكايتها التي نسجتها من واقع مرير تعيشه، رغم مهارتها بسرد الحكايات حتى تلك التي من نسج الخيال.

تعيش “أم أحمد” مع زوجها المسنّ في إدلب شمال غربي سوريا، في منزل العائلة الذي كان يومًا ما ممتلئًا بالحياة والحركة قبل لجوء أبنائها إلى تركيا بفعل الحرب المستمرة في سوريا منذ 11 عامًا.

في أثناء سردها للحكاية التي نسيت أن تضمّنها عبارة “نحكي ولا ننام؟”، بدت آمنة مشوشة، تكرّر جملها على غير عادتها، إذ لم تكن لتتخيل أن تضطر لسرد الحكايات لأحفادها من خلال اتصال مرئي عبر الهواتف الخلوية، وفقًا لما قاله أحمد الابن الأكبر لآمنة لعنب بلدي.

ما تبقى من العمر.. ليكن معهم

“كل ما أتمناه من ربي أن يطيل بعمري إلى أن أجتمع مع أحفادي وأولادي، هذا كل ما أتمناه، أريد أن أستيقظ ذات يوم وأرى أحفادي حولي، لتعود الحياة إلى منزلنا، عندما كان أبنائي بجواري”.

بهذه الكلمات عبّرت آمنة لعنب بلدي عن شوقها للمّ شمل عائلتها من جديد، خصوصًا أنها لم تجتمع من قبل مع أحفادها الأربعة، إذ إن ابنها الأكبر صار لديه طفلان، في حين أن ابنها الآخر وابنتها رُزق كل منهما بطفل.

وقالت “أدعوا الله كل يوم أن تنتهي هذه الحرب، لكي يتمكّن أبنائي وأحفادي من العودة إلى سوريا، وأعيش ما تبقى لي في هذه الحياة معهم، ولأروي لأحفادي تلك الحكايات التي تعلّمتها من أمي وجدتي”.

وأضافت أن إصرارها على التواصل الدائم مع أبنائها وأحفادها، دفعها لتعلّم الأساسيات البسيطة لاستخدام تطبيق “واتساب”.

وذكرت أنها تعرف فقط كيف ترسل رسالة مكتوبة وصوتية عن طريق التطبيق، إضافة إلى إجراء مكالمة مرئية مع أحد أبنائها، وتترك له مهمة إضافة أبنائها وأحفادها الآخرين إلى المكالمة الجماعية.

الجدّات والبكاء المرّ

الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، قال إن “الجدّات يكتسبن في العائلات التقليدية الممتدة مكانة كبيرة، وهو أمر تكرّس بمنظومة أخلاقية صارمة وشاملة مركزها صلة الرحم، التي ترجمت العملية عبر الرعاية المتبادلة، أي رعاية الصغار في فترة تنشئتهم الطويلة والإنفاق عليهم مقابل عنايتهم بالآباء والجدّات في الشيخوخة”.

وأضاف موشلي لعنب بلدي، أن الرعاية هذه تأخذ أشكالًا عديدة بحسب نمط الإنتاج السائد، ففي المجتمعات الزراعية تكون ملكية الأرض للأجداد، لذلك تسود المقولة التي ترى أن “الولد وما ملكت يداه لوالديه، والجد والد في غياب الوالد أو حضوره”.

أما المجتمعات المدينية والتي تعتمد التجارة والحرف، فيبقى للأجداد والجدّات فيها المكانة المتميزة، لأنهم مستودع العلاقات ومصدرها، بحسب موشلي.

وذكر موشلي أن هذا كلّه في المجتمعات التقليدية، أما المجتمعات الحديثة حيث الدولة الحديثة التي تخطط لمستقبل أفرادها عبر توجيه التعليم وضبط الضمانات الاجتماعية والصحية، فهي ترى أنها أولى بالطاعة من البنى التقليدية.

وأوضح أن “الدولة الحديثة بعد تقديمها ضمانات الطفولة والشيخوخة لأضعف طرفي الأسرة، الأطفال والجدّات، فيما لو تخلّت عنهم أسرهم أو أساءت استغلال رابط القرابة، تجد نفسها في حلٍّ من هدر مزيد من الموارد لجمعهم لأسباب عاطفية أو أخلاقية، وهي لذلك ومن نفس المنطلق لا تجد غضاضة في التفريق بين طرفي الأسرة، الزوج والزوجة، وفقًا لشروط العمل المتاح”.

“لذلك نجد العديد من الباحثين في مشكلات الأسرة بالمجتمعات الحديثة يرون أن الدولة الحديثة راعية الحداثة في المجتمعات الليبرالية، تناصب الأسرة العداء، كونها مؤسسة ذات سلطة، والدولة الحديثة استحواذية، لا تستطيع التسامح بالسلطات خارجها، لذلك نراها على طرفي نقيض مع جميع مؤسسات المجتمع المدني، ومنها الأسرة كأعرق مؤسسة مدنية وأهلية على السواء”، بحسب ما قاله موشلي.

ويرى أن “كل ما تقدم يظهر لنا حجم الاغتراب الذي تعانيه الجدّات في مجتمعات الحداثة، أو تلك التي تخطط للانتقال إلى الحداثة، وهو اغتراب بنيوي بدأ يشكّل أخلاقيات تطبع مع هذا الاغتراب كضريبة لا بد منها”.

وقال موشلي، “نصادف الاغتراب الكبير في المجتمعات التقليدية أو المجتمعات الحديثة التي ما زالت تضم بنى تقليدية لأسباب عديدة اقتصادية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية، وذلك في الأوقات التي تتعرض فيها هذه المجتمعات لاهتزاز يدكّ البنى الاجتماعية (حروب، كوارث)، عندئذ لن تصمد إلا البنى المتماهية مع الحداثة، لأن المنظومة الأخلاقية للحداثة المعولمة لن تمد يد العون إلا لهذه البنى الحديثة، وعندئذ لن يكون للجدّات إلا البكاء المرّ”.

تعزيز صلة الأبناء بالأجداد

أحمد الابن الأكبر لآمنة، مقيم في مدينة اسطنبول التركية، قال إنه لجأ إلى تركيا في العام 2014، ومنذ ذلك الحين لم يتمكّن من زيارة سوريا بسبب ظروفه المادية، وهو ذات الوضع مع أخيه وأخته.

وأضاف أحمد لعنب بلدي، “ألاحظ ارتباكها في كل مرة بعد أن تتفق مع أحفادها على أن تسرد لهم حكاية من تلك الحكايات التي كانت تقصّها علينا في صغرنا، وقتها كانت بارعة، أما الآن فتظهر مشوشة ومرتبكة”، وعزا ذلك إلى البُعد بين أمه وأحفادها، وإلى ضعف قدراتها في استخدام تطبيقات الهاتف الخلوي.

وأوضح أحمد أنه يولي اهتمامًا كبيرًا لتحقيق تواصل مستمر بين ولديه وجدّتيهما وجدّيهما، لما لذلك من تأثير إيجابي على تنمية سلوك الطفل الذي يحتاج باستمرار إلى الحنان والمحبة والاستيعاب والإحساس بالأمان، وهو ما يتقن الأجداد منحه للأحفاد بنسبة أكبر من الآباء الذين تشغلهم ظروف الحياة عن أبنائهم.

ووفقًا لما قاله أحمد لعنب بلدي، فإنه وزوجته يخصصان لطفليهما قضاء وقت طويل مع جدّيهما وجدّتيهما، ويعززان تلك الصلة من خلال مشاركة طفليهما باختيار الهدايا لإرسالها لهم، ويكون ردّ أمه دائمًا “رأيتكم عندي بكل هدايا الدنيا”.

دراسة: العاطفة تربط الجدّات بالأحفاد

في دراسة نُشرت على موقع “The Royal Society” في تشرين الثاني 2021، قام عالم الأنثروبولوجيا في جامعة “إيموري” في أتلانتا بجورجيا جيمس ريلينج وزملاؤه بتجنيد 50 امرأة مع حفيد بيولوجي واحد على الأقل تتراوح أعمارهم بين 3 و12 عامًا، واستخدموا التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لمسح نشاط الدماغ للجدّات وهن ينظرن إلى صور حفيدهن ووالديه وصور طفل وبالغ غير مرتبطات به.

وقال ريلينج، “ما يقفز حقًا هو التنشيط في مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف العاطفي”، وهذا يشير إلى أن الجدّات يتجهن نحو الشعور بما يشعر به أحفادهن عندما يتفاعلون معهن، إذا كان حفيدهن يبتسم، يشعرن بفرحة الطفل، وإذا بكى، يشعرن بألم الطفل وضيقه.

وأجرى ريلينج سابقًا تمرينًا مشابهًا مع الآباء وهم ينظرون إلى صور أطفالهم، وكانت النتيجة أن التنشيط الذي شوهد في مناطق معالجة مشاعر الجدّات، وفي تلك المرتبطة بالمكافأة والتحفيز، أقوى في المتوسط ​​من الآباء.

في المقابل، عندما نظرت الجدّات إلى صور ابنهن البالغ، تم تنشيط مناطق دماغية مختلفة قليلًا، وهي تلك المرتبطة بالتعاطف المعرفي.

وبحسب الدراسة، يشير ذلك إلى أن الآباء كانوا يحاولون فهم طفلهم البالغ معرفيًا، بدلًا من تجربة هذا الارتباط العاطفي المباشر.

وقال ريلينج، “إن التعاطف العاطفي هو عندما تكون قادرًا على الشعور بما يشعر به شخص آخر، لكن التعاطف المعرفي يحدث عندما تفهم على المستوى المعرفي ما يشعر به شخص آخر ولماذا”.

وبشكل عام، تشير نتائج الدراسة إلى أن التعاطف العاطفي قد يكون مكونًا رئيسًا لاستجابات الجدّات لأحفادهن.

“أم أحمد” قالت لعنب بلدي في ختام حديثها، “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”، واستطردت قائلة، “الحمد لله على وجود (واتساب)، يكفيني أن أرى صور أبنائي وأحفادي وأكلّمهم عندما أشتاق إليهم، على أمل أن يعودوا وأحضنهم وأمضي ما تبقى لي في هذا العمر معهم”.

وتركت الحرب المستمرة في سوريا منذ 11 عامًا آثارها على مختلف الفئات العمرية من أطفال ونساء ورجال، وتعرضت المرأة السورية على يد جميع الأطراف الفاعلة لمختلف أشكال الانتهاكات، فكانت الضحية والمعتقلة والمختفية قسرًا والنازحة واللاجئة والمهجرة والأم الثكلى.

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثّقت في تقرير صدر عنها في 8 من آذار 2022، بعنوان “في اليوم الدولي للمرأة.. انتهاكات متعددة من مختلف أطراف النزاع في سوريا”، ما لا يقل عن 9774 سيدة بالغة لا يزلن قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري في سوريا، كما قُتلت أكثر من 16 ألف سيدة، إضافة إلى مقتل 93 سيدة بسبب التعذيب، منذ آذار 2011 وحتى آذار الحالي.

كما وثّق التقرير خلال المدة ذاتها نحو 115 ألف حادثة عنف جنسي ضد الإناث، معظمها على يد النظام السوري وتنظيم “الدولة”، مشيرًا إلى أن كلًا من النظام والتنظيم مارس العنف الجنسي كسلاح حرب استراتيجي وأداة تعذيب وانتقام ضد المجتمع السوري.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع