عنب بلدي- حمص
في عام 2014، بدأت سلسلة من المفاوضات متعددة الأطراف بين فصائل المعارضة المسلحة وقوات النظام السوري، بوساطة إيرانية وروسية ورقابة الأمم المتحدة، أدت هذه المفاوضات إلى الاتفاق على نقل المقاتلين والمدنيين الذين تبقوا إلى خارج المدينة، ضمن عمليات استسلام قسرية جرت بالإكراه، إذ لا يكون أمام السكان المحاصرين سوى الاستسلام أو الموت.
خلال هذه المفاوضات، حاول الوفد الروسي الحفاظ على أكبر عدد ممكن من سكان المنطقة من فئة الشباب، عن طريق إقناعهم بعدم المغادرة إلى الشمال السوري، في محاولة منه للحفاظ على الكتلة البشرية الموجودة في حمص.
بعد خروج قوافل التهجير عن طريق الحافلات الخضراء (سيئة السمعة)، وسيطرة قوات النظام مدعومة بالميليشيات الطائفية وروسيا على ريف حمص الشمالي، مطلع أيار عام 2018، فضّل العديد من شبان المدينة البقاء داخلها على أن يعيشوا تجربة التهجير القاسية.
وبعد أشهر قليلة على بدء المفاوضات، عاد التشديد الأمني إلى المنطقة بأشكال عدة، أبرزها الاعتقالات وعمليات الخطف، والسَّوق إلى الخدمة العسكرية.
كما لم تمضِ أشهر على الاتفاق حتى بدأت مكاتب التجنيد لمصلحة القوات الرديفة باستقطاب الشباب، وترويج أعضاء “المصالحة” ضمن “التسويات” للالتحاق بالخدمة الإلزامية، إلى جانب بدء دوريات الشرطة العسكرية بنصب الحواجز واعتقال المطلوبين للخدمة الإلزامية، ما دفع أعدادًا كبيرة من الشباب في الريف الشمالي إلى الالتحاق بقوات النظام طوعًا على أمل عدم زجهم في جبهات القتال.
ولا تزال قوات النظام والقوى الرديفة المدعومة روسيًا أو إيرانيًا، تحاول بشكل متكرر تشجيع شبان في مدينة حمص على التجنيد، للقتال كـ”مرتزقة” عابرين للقارات في بعض الأحيان لتنفيذ مهام متعددة.
تدريبات ورواتب وموافقات أمنية
فتحت الميليشيات الطائفية في حمص ذراعيها لاستقبال الشبان الفارين من الخدمة الإلزامية في قوات النظام، وأجرت لهم تدريبات عسكرية بسيطة، وزجت بهم على جبهات القتال لحراسة مصالحها الاقتصادية.
ومنذ بداية العام الحالي، دخل “حزب الله” اللبناني على خط تجنيد شبان سوريين في حمص كمقاتلين في صفوف الحزب، بعد دراسة أمنية، ودورة قتالية داخل الأراضي اللبنانية.
فتح “حزب الله” باب التجنيد في صفوفه لأول مرة منذ تدخله العسكري في سوريا لتجنيد شبان من حمص، وقيّد عمر التجنيد بين 15 و20 عامًا، ويخضع المتطوع بعد قبوله لدورة في معسكرات الحزب داخل لبنان.
“عدنان”، محامٍ من مدينة تلبيسة شمالي حمص، وهو اسم مستعار لأحد المقربين من الذين يجندون عناصر لمصلحة “حزب الله” قال لعنب بلدي، “يتم التجنيد عن طريق مسؤولين من القرى الشيعية المجاورة، وبعد تسجيل اسم الشاب، تقوم الأفرع الأمنية السورية بتقديم دراسة أمنية للمسؤول من الحزب عن المحافظة، وعلى أساسها يتم القبول أو الرفض، ويخضع المقبولون لدورة عسكرية في الأراضي اللبنانية”.
وأضاف “عدنان”، الذي تحفظ على ذكر اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، أن “أغلب المنتسبين هم من صغار السن، ويتم قبولهم لسهولة السيطرة عليهم وغسل أدمغتهم من جديد، ويتم ترغيب الأطفال من خلال تقديم راتب 150 دولارًا، والخدمة في الوقت الحالي في مقرات وحواجز الحزب في القلمون، والقصير”.
عوامل تساعد على الانتساب
يواجه السوريون على اختلاف أماكن إقامتهم، سواء كانت مناطق واقعة تحت سيطرة النظام السوري أو تحت سيطرة المعارضة السورية، أزمة اقتصادية ومعيشية، تتمثل في قلة فرص العمل وصعوبة إيجادها، وعدم قدرة السكان على تأمين دخل ثابت، مع التقلبات التي تشهدها الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وغلاء المواد الأساسية، وارتفاع الأسعار بشكل عام، وأزمة محروقات خانقة.
تلك العوامل تجعل بعض الشبان من سكان ريف حمص الشمالي يلجؤون إلى الانتساب للميليشيات التي تقدم رواتب مغرية، مقارنة بالأعمال في مصانع المدينة الصناعية في حسياء جنوبي حمص، حيث تتراوح رواتب العمال هناك ما بين 30 و60 دولارًا في أحسن الأحوال.
يوسف (26 عامًا)، وهو أحد المتطوعين في “الفيلق الخامس” المدعوم من روسيا، قال لعنب بلدي، إنه ترك عمله في شركة التشييد السريع بسبب قلة الرواتب وسوء المعاملة، ولجأ إلى القتال في صحراء تدمر، مقابل راتب 125 دولارًا، ودوام نصف شهر فقط، بينما كان يقبض 80 ألف ليرة سورية (25 دولارًا).
وأكد يوسف، الذي تحفظ على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، أن انخفاض الأجور في شركات القطاع الخاص، تدفع الشبان للالتحاق بالعمل العسكري مع الفصائل التي تعطي مبالغ بالدولار، فضلًا عن معونات عينية وغذائية مثل المعلبات والمواد التموينية.
وبحسب عنصر من “الفيلق الخامس” في حديث سابق لعنب بلدي، فإن هناك ضباطًا من قوات النظام بدؤوا خلال الأيام القليلة الماضية بتقديم العروض لمقاتلي الميليشيات الرديفة لقوات النظام، وآخرين من قوام الجيش النظامي، للانضمام إلى جبهات القتال في أوكرانيا، مقابل راتب شهري يبلغ 250 دولارًا.
من “المرتزقة”
بحسب الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد “المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، الصادرة عن الأمم المتحدة في كانون الأول 1989، فإن “المرتزق” هو “أي شخص يُجنَّد خصيصًا، محليًا أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي عبر مكافآت تقدم له من قبل طرف من أطراف النزاع”. كما تضمّنت الاتفاقية صفة “المرتزق” بأنه ليس طرفًا من طرفي النزاع، وليس من أفراد القوات المسلحة للطرفين، ولم توفده دولة ليست طرفًا في النزاع بمهمة رسمية، إضافة إلى أن هدفه هو مغنم شخصي و”الإطاحة بحكومة ما أو تقويض النظام الدستوري لدولة ما بطريقة أخرى”. وباختصار التعريفات التي تضمّنتها الاتفاقية، التي تضم 21 مادة، فإن “المرتزقة” هم أشخاص يتم تجنيدهم من قبل دولة ما ليحاربوا من أجلها في دولة أخرى بهدف تحقيق مكاسب سياسية. |
“الفيلق” يستقطب
“عامر” (30 عامًا)، اسم مستعار لأسباب أمنية، وهو من سكان مدينة الرستن شمالي حمص، وعنصر من قوات النظام، ذهب إلى الخدمة الإلزامية ثم فر منها، قال لعنب بلدي، إنه ترك الخدمة في الجيش بسبب قلة الرواتب وقلة الإجازات، والتحق بـ”الفيلق الخامس”، كونه يقدّم أعلى رواتب في مناطق سيطرة النظام.
يستقطب “الفيلق الخامس” الشباب من الفئة العمرية بين 18 و50 عامًا، وتمكّنه المغريات التي يقدمها بالمقارنة مع الوضع المعيشي القائم من استقطاب عناصر الميليشيات التابعة لإيران.
أحد المقربين من ميليشيا “فوج التدخل السريع” التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني”، قال لعنب بلدي، إن “موجة كبيرة من الانشقاقات انتشرت بالفصيل في الفترة الأخيرة، وهرب أكثر من 70 عنصرًا خلال الشهرين الماضيين متوجهين إلى (الفيلق الخامس)، الذي يقدم لهم الحماية ورواتب ومعونات”.
فيما تدفع الميليشيات الإيرانية راتبًا قدره 100 ألف ليرة (30 دولارًا)، وتتركز خدمتها في مدينة البوكمال، التابعة لمحافظة دير الزور بالقرب من الحدود السورية- العراقية، بدوام 20 يومًا وإجازة عشرة أيام.
وصار مصطلح “مرتزقة سوريون” أحد المصطلحات الشائعة في وسائل الإعلام العربية، للدلالة على المقاتلين السوريين الذين انتقلوا إلى ليبيا وأذربيجان وأرمينيا وأوكرانيا، للمشاركة في المعارك هناك خلال فترات زمنية مختلفة.
وفي 4 من آذار الحالي، نشرت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تقريرًا يتحدث عن مشاركة سوريين في “الغزو” الروسي المستمر لأوكرانيا، منذ إعلانه في 24 من شباط الماضي.
وبحسب التقرير، وردت أنباء تفيد بقيام أجهزة أمنية تابعة لحكومة النظام السوري المدعومة روسيًا، وعدد من فصائل المعارضة المسلحة السورية المدعومة من تركيا، بفتح باب التسجيل للمقاتلين الراغبين بالقتال في أوكرانيا إلى جانب كل من طرفي النزاع هناك.
وبعد إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بدء “عملية عسكرية خاصة” في إقليم دونباس الذي يضم منطقتي لوغانسك ودونيتسك، وسّع بوتين عمليات قواته في جميع أنحاء أوكرانيا، وسط دعم غربي، عسكري وسياسي، للحكومة الأوكرانية.
بدوره، أعلن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، تأييده “الغزو” الروسي، خلال مكالمة هاتفية مع بوتين.
واعتبر الأسد في بيان نشرته منصات “رئاسة الجمهورية” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن ما تقوم به روسيا هو “تصحيح للتاريخ، وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفييتي”.
وشهدت مناطق سيطرة النظام مسيرات داعمة لـ”الغزو” الروسي لأوكرانيا، حمل خلالها المشاركون أعلام روسيا وصورًا للأسد ونظيره الروسي.