عنب بلدي – صالح ملص
يحاول المجتمع المحلي في مدينة دير الزور فهم العوامل التي تؤدي إلى تخفيف حدة الخلافات بين السكان، أو تهدئتها تمهيدًا لإيجاد القنوات المناسبة لإيقافها نهائيًا، والعمل على تلافي حدوثها مستقبلًا.
مع بداية الثورة السورية في آذار 2011، انسحبت قوات النظام السوري من عدة مناطق سورية، كان من بينها ريف دير الزور الشرقي أو بادية الجزيرة، التي خضعت لمختلف فصائل المعارضة المسلحة، وتنظيم “الدولة الإسلامية”، حتى صارت في النهاية تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في آذار 2019، فضلًا عن خضوعها سياسيًا وإداريًا وأمنيًا لها.
غابت دوائر القضاء والمحاكم الحكومية والشرعية عن ريف دير الزور الشرقي لأكثر من عشرة أعوام، مع عدم وجود بدائل قضائية ترضي السكان بإنهاء النزاعات المدنية والتجارية بينهم، الأمر الذي دفع أبناء المنطقة لعودة طوعية إلى القانون العرفي الذي يتيح أن تحل “التسويات العشائرية” محل القوانين المدنية الوضعية عند اندلاع نزاعات في تلك المناطق.
هدم المجتمع بغياب القانون
الخلاف يرجع إلى تمسك شديد بالرأي أو المواقف ورفض التنازل عنها، وهو حالة تعبّر عن عدم التطابق، قد تتطور إلى مشكلة لتخلق حالة من التوتر وعدم الرضا الناجمين عن بعض الصعوبات، التي تعوق تحقيق الأهداف أو الوصول إليها.
هذه الفجوة بين الواقع والمأمول تأخذ المشكلة بين أفراد المجتمع إلى مسار معقّد، وتكون السبب الرئيس لحدوث نزاع يصل عنده الأهالي إلى عجز عن الاتفاق على أمر معيّن، بسبب تعارض الناس بأفكارهم ومشاعرهم وأفعالهم.
وقد يصل هذا النزاع إلى احتكاك بين السكان، يأخذ طابع الضغط المعيّن من جانب فردي أو جماعي.
وجود هذه الحالة أمر طبيعي في أي مجتمع، إلا أن تطورها لأزمة بين مكوّناته حول أهداف ومصالح متضاربة، سواء كانت حقيقية أو ادعائية، يعني تهديدًا وخطرًا صريحًا متوقعًا لبقاء أهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات السكان، أو وجود المجتمع نفسه، هذه الأزمة بدورها تحدّ من عملية الاستقرار المجتمعي أمنيًا واقتصاديًا.
ومن حيث المبدأ، تكمن وظيفة القانون والمؤسسات القضائية في فرض قوة مشروعة لامتثال السكان لمبادئ ثابتة، بحيث لا يمكن تصوّر حياة اجتماعية بلا نظام قانوني يحاول أن يعكس قيم العدالة في المجتمع.
وبغياب القانون والسلطات القضائية، تتسم هذه الأزمات بالعدوانية التي تصدر من طرف فردي أو جماعي، بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر، ما يتسبّب في إحداث أضرار مادية أو معنية للأفراد والجماعات، ويوصف هذا السلوك بكونه استخدامًا لقوة مفرطة غير مشروعة.
ترهّل البنية القضائية التي أنشأتها “الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قسد” في دير الزور، وعدم تأهيل طاقمها البشري، أعطى فئات مجتمعية الدافع لتأسيس “لجنة الوساطة المجتمعية” في المنطقة، من خلال تحالف عدة منظمات مدنية، تهدف لحل الخلافات القائمة بين السكان بالطرق السلمية، والتخفيف من حدّة النزاعات ومنع تفاقمها، وكسر دائرة العنف التي أحاطت بالمجتمع خلال السنوات الماضية.
العرف سائد.. القضاء غائب
شهدت مدن وبلدات ريف دير الزور شمال شرقي سوريا اشتباكات مسلحة بين عشائر وأبناء عمومة وأقرباء، أدت إلى مقتل العشرات، وما زاد الوضع تعقيدًا هو قضايا الثأر والخلافات وحالة التوتر، حيث انخرطت العشائر لفرض العرف التابع لها كبديل لـ”نظام العدالة الاجتماعية” التابع لـ”الإدارة الذاتية”، وبغيابها بقي العرف العشائري هو السائد.
بحسب دراسة بحثية حول الواقع القضائي في مناطق “الإدارة الذاتية” صادرة عن مركز “عمران للدراسات”، توجد في محافظة دير الزور محكمة واحدة، كما أنها الأقل بعدد القضاة من بقية محاكم مناطق “الإدارة”، والمحامون في المنطقة ممنوعون من الترافع أو وجود اتحاد يجمعهم، بالإضافة إلى عدم وجود مجلس عدالة أو أي أقسام مساعدة للقضاء كالطبابة الشرعية ومخابر التحليل الجنائي.
في 16 من آذار الحالي، أصدرت “لجنة الوساطة المجتمعية” بيانًا أعلنت فيه بدء حملة لحل النزاعات بين الأفراد.
وبتحالف خمس من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني هناك، هي: منظمات وجمعيات “ديرنا”، و”فراتنا”، و”سامه”، و”ماري”، و”إنصاف”، أطلقت حملة حملت اسم “الصلح خير”، بحسب البيان الذي اطلعت عنب بلدي على نسخة منه.
هذه الحملة مدعومة من “مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية”، وهدفها هو حل الخلافات بالطرق السلمية، وفق ما قاله الناشط المدني المقيم في المدينة أيمن علاو لعنب بلدي.
يمتاز مجتمع دير الزور بالطابع القبلي العشائري، الذي يفرض نمطًا من نوع خاص في الحياة اليومية، ينعكس على العلاقات وعلى سلوك الأفراد فيها.
– الصلح العشائري: هو المرحلة التي تسبق عملية التقاضي العشائري، أو قد تنتهي به عملية التقاضي العشائري، في حال نجاح التأثيرات الاجتماعية المحيطة بطرفي النزاع في التأثير على اتخاذ قرار الصلح.
– العرف العشائري: هو التقاضي العشائري في المجتمعات العشائرية، ويتصف بأنه قضاء اجتماعي غير رسمي، ترسم حدوده العادات والتقاليد وتجارب حل النزاعات في هذه المجتمعات، وكلمة العرف تلازم هذا الاسم، لأن القواعد التي تُستخدم في الحل هي قواعد عرفية، ولذلك يُسمى “العرف العشائري” محليًا.
– السلطة العشائرية: هي السلطة التي تكون مرجعيتها تقاليد وإجماع مجتمع العشيرة أو القبيلة، وتُشعر الجميع بالإلزام في عدم اتخاذ أي قرار أو تصرف يخالف هذه المرجعية.
– السنن العشائرية: طورت هذه المجتمعات مجموعة من القواعد العرفية كقوانين نتجت عن عادات وتقاليد أسستها علاقات وتعامل الأفراد فيما بينهم في مختلف القضايا والنزاعات المحلية.
– القضاء العشائري: تطورت هذه القواعد إلى أن صارت ملزمة في قضايا النزاعات والصلح، عبر قضاء مجتمعي هو “قضاء العرف” أو القضاء العشائري.
المصدر: ورقة بحثية صادرة عن مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” بعنوان ““القضاء العشائري في دير الزور.. أدوار محلية في بناء السلام المجتمعي“.
قبل 2011
أوضح الناشط أيمن علاو أن العرف العشائري كان منتشرًا في دير الزور حتى قبل 2011، “كان جليًا عندما تتدخل الدولة لحل خلاف عشائري تتصرف وكأنها جزء من المنازعات القبلية، بدلًا من السعي لإيجاد وسائل بديلة لمحاسبة المتورطين، الأمر الذي قوّض القضاء وحطّ من شأنه”.
والعلاقة بين القضاء العشائري والمحاكم الرسمية قبل 2011 هي علاقة مهمة، خصوصًا مع ما يتمتع به القضاء العشائري من إلزام أدبي لدى طرفي النزاع، تفرضه التقاليد، وقد لا يكون القضاء الحكومي الذي يراعي روح القانون في التطبيق هادفًا إلى حل النزاعات، وفق الورقة البحثية الصادرة عن مركز “حرمون” عام 2021.
وتحدد طبيعة الشخصيات التي يتم اختيارها لحل النزاعات بالنظر إلى مكانتها في المجتمع، بحسب ظروف وطبيعة كل مجتمع محلي، وبحسب ما قاله الناشط علاو، فإن أعضاء اللجان والمشاركين فيها هم وجهاء وشيوخ عشائر ونخبة من القانونيين والمحامين وشخصيات فاعلة ممن لديهم خبرة في حل القضايا المجتمعية، ويمتلكون سمعة حسنة وطيبة بين الأهالي، “لجان الصلح لديها مكتب في كل منطقة وبلدة، تشارك في كل منها سيدة وفتيات لوجود قضايا ومشكلات تتطلب حضور النساء إلى جانب الرجال لفهم حيثيات الدعوى”.
وفي بعض النزاعات قد تأخذ عملية إقناع أطرافها باللجوء إلى القضاء العشائري عشرات الأعوام.
و”تستند لجان الوساطة المجتمعية في عملها إلى مزيج من العرف العشائري، والقانون السوري، والتشريعات الدولية ذات الصلة ومواثيق حقوق الإنسان”، بحسب مدير منظمة “فراتنا للتنمية” في دير الزور، واصل حمد، في حديث إلى عنب بلدي، و”نعتمد على خبرات محلية وتجارب أعضاء اللجان ومعارفهم من وجهاء وأصحاب دراية بالعادات والتقاليد، فالهدف الإسهام في ترسيخ مبدأ الصلح ليكون سيد الأحكام”.
وتعمل منظمات المجتمع المدني عبر الورشات التدريبية واللقاءات الجماهيرية وتوزيع منشورات ورقية ذات صلة بعد 2011، لحث الأهالي وأبناء المجتمع المحلي على التخلي عن العنف وترك السلاح واللجوء إلى الحلول السلمية، والمحافظة على النسيج الاجتماعي الذي مزقته سنوات النزاع المسلح.
اتساع في حل النزاعات
قال مدير منظمة “فراتنا للتنمية”، إن “لجان الصلح” وعبر مبادراتها وتجاوب الأهالي، أثبتت أهمية دورها في دعم عمليات الاستقرار وتخفيف مستوى العنف، فضلًا عن الدور الأساسي الذي تلعبه في حل جذور النزاعات، كما أظهرت الإلزام الأدبي الذي يتمتع به أعضاؤها لدى أطراف النزاعات، ما جعلها موردًا من موارد السلام المهمّة محليًا في دعم التماسك المجتمعي واستقرار الحياة اليومية للمجتمعات المحلية.
وعقدت هذه اللجان اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع المجالس التشريعية وهياكل الحكم والسلطات القضائية التابعة لـ”الإدارة الذاتية”.
وعلى الرغم من تشكيل مجالس قضائية تابعة لـ”مجلس دير الزور المدني”، شُكّلت “لجان الصلح” لتعمل منذ بداية عام 2021 على حل العديد من النزاعات العشائرية ومشكلات تتعلق بقضايا معيشية، في ظل نقص الموارد والأزمة الاقتصادية، بحسب ما قاله المتحدث الإعلامي في فريق حملة “الصلح خير”، هويدي حماده، في حديث إلى عنب بلدي.
وإلى جانب ذلك، تدخلت هذه اللجان في حل خلافات تنظيم توزيع الكهرباء من المولدات الخاصة، وتوزيع الماء بشكل عادل، وتوزيع مادة الخبز على الأهالي منعًا لحصول أزمات غذائية، وحل قضايا الخلافات الشخصية بين سكان المنطقة والنازحين من مناطق أخرى، بحسب ما أوضحه حماده.
كما أسهمت اللجان بشكل أساسي في حل المشكلات الناتجة عن حوادث المرور والابتزاز عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتدخلت “لجان الصلح” عبر جهودها في حل عدة نزاعات مرتبطة بتحديد الملكيات العقارية، وإطلاق النار العشوائي، أو الثأر العشائري، وأسهمت في منع وقوع حالات طلاق، وفي حل خلافات الميراث والنزاعات الشخصية، بحسب المتحدث الإعلامي، وغيرها من القضايا التي تُقلق السلم والاستقرار المجتمعيين، بهدف تعزيز مبدأ المصالحة وفضّ النزاعات بالتسوية والطرق السلمية، واللجوء إلى الضوابط القانونية لتوفير أجواء الأمان والاستقرار لحماية أمن المجتمع وتماسكه.
وتؤكد رؤية أغلب أطراف النزاعات التي تم حلها عبر “لجان الصلح” أهمية اللجوء إلى العرف العشائري لحل النزاعات المحلية، وتجاوز آثارها خوفًا من تفاقمها إلى العنف، وهذا ما يوضّح الدور المهم للصلح العشائري، من حيث إنه أداة محلية لفض النزاعات في دير الزور والالتزام المجتمعي الغالب بالعادات والتقاليد العشائرية.