إبراهيم العلوش
مع بدء “الغزو” الروسي لأوكرانيا، استعاد السوريون مسلسل القتل والتهجير الذي ارتكبه بحقهم نظام الأسد مع روسيا وإيران، وتمثلت أمامهم مرارة الكأس التي شربوها بعد إعلان الثورة ضد الاستبداد ومن أجل الكرامة!
لم تكن ثورة آذار 2011 مثيلة لـ”ثورة البعث” 1963، التي كانت مجرد انقلاب عسكري تحوّل بعده حزب “البعث” ونظام الحكم إلى رأس طائفي متعصب ومتماسك، وبأطراف وطنية وقومية واشتراكية هزيلة.
ثورة 2011 كانت دعوة إلى الكرامة والحرية، بينما كانت “ثورة البعث” تقمع السوريين وترهبهم تحت دخان “البروباغندا” المتعددة الألوان والأشكال، والتي انتهت أخيرًا بالبلاد لتكون حاضنة رسمية للاحتلالين الروسي والإيراني.
في بدء ثورة آذار 2011 استعادت سوريا ألقها، وبكى السوريون غير مصدقين بأنهم وصلوا إلى اليوم الذي يستطيعون فيه التضامن والخروج ضد نظام الأسد، مستبشرين بالخلاص من دولة المخابرات وسيطرة العسكر على كل شؤون البلاد خلال نصف القرن السابق لخروجهم.
لكن مسلسل الانتقام والتخريب سرعان ما ابتدأ، فقصف الجيش القرى والمدن التي تعج بالمظاهرات، وصار سلاح المدفعية في البداية هو الناطق الرسمي باسم النظام ورئيسه، إذ انتشرت المدافع والصواريخ في أرجاء الوطن السوري معبّرة عن إرادة النظام، التي تحتقر الشعب وتحتقر مطالبه المشروعة. وكان النظام مطمئنًا إلى تأكيدات دولية بالدعم المطلق، كان أهمها الدعم الروسي والإيراني، فجرى تسليم مفاتيح البلاد لهما لاحقًا باسم محاربة “الإرهاب” وحماية “السيادة الوطنية”!
قال الشاعر السوري منذر مصري عن الثورة: “ليتها لم تحدث”! ووصل الأمر بالشاعر أدونيس إلى زيارة سفارة النظام في لبنان للتضامن معه بحجة أن الثورة خرجت من الجوامع. ونادى آخرون بإعطاء بوتين لقبًا سوريًا محليًا هو “أبو علي بوتين”. وانطلقت أحزاب “اليسار الداعشي” إلى دعم النظام باسم الحفاظ على “العلمانية الطائفية” ودعم ما تبقى من الاتحاد السوفييتي الصديق المتمثل بالقائد “أبو علي بوتين” ونظامه الدكتاتوري.
وخرجت مسوخ التطرف الديني بأشكال مبتكرة من القتل والتكفير، وكانت وفيّة وهي تحاكي النظم الاستبدادية التي تدربت في سجونها وفي معتقلاتها، إلى درجة أن معتقلين سابقين لدى نظام الأسد كانوا يستعملون نفس طرائق التعذيب التي خضعوا لها في الأمن العسكري وفي الأمن الجوي، ويزعقون في غرف التحقيق، المزيّنة بشعارات دينية، بنفس صيحات الانفعال التي سمعوها وهم “مشبوحون” ومعلّقون في فروع التحقيق المزيّنة بصور الأسد!
آلة الدمار التي استعملها النظام أسهمت باستمراره، ودعمتها الميليشيات الطائفية الإيرانية، بالإضافة إلى طائرات روسيا التي تخصصت بقصف المستشفيات والمدارس والأسواق الشعبية، وبتهجير مئات الآلاف من السوريين. وهي اليوم تقوم بنفس العمليات في أوكرانيا، فصور الدمار القادمة من هناك تعيد المسلسل السوري بشكل حزين ومثير للسخرية، وها هي القوات الروسية تدمّر مدينة ماريوبول الأوكرانية كما دمرت مدينة حلب السورية، وكل الصحف والتعليقات في فرنسا وفي العالم الغربي تربط بين مصير المدينتين، ذلك المصير الأسود الذي حددته روسيا لهما.
اليوم، وبعد مرور 11 عاما على ثورتنا وعلى الحلم بالحرية، لا يزال السوريون يرفضون نظام الأسد رغم بؤس العيش في المخيمات بالمدن المجاورة وبالشمال السوري، ولا يقبلون العودة إلى أحضان المخابرات العسكرية والجوية، ولا إلى تنظيمات الميليشيات الإيرانية وجيوش روسيا التي تبتدعها كل يوم وبأسماء استعراضية (فرقة الاقتحام، الفيلق الخامس)، وتوزع على قادة جيوشها وميليشياتها النظارات الشمسية التي تضفي عليهم الغموض والعظمة الزائفة!
أما السوريون في الداخل، المحكومون بميليشيات الأسد، فيساقون إلى هذا الطرف الروسي، أو الإيراني، تحت ضغط الجوع والفقر، ووصل الأمر إلى أن مؤيدي الأسد صاروا يتزاحمون على أبواب التطوع للذهاب إلى المحرقة الأوكرانية، كما ذهبوا سابقًا إلى ليبيا للدفاع عن الراية الروسية وبرواتب مغرية.
لا يوجد سوري واحد لم يخسر بيته أو أحدًا من أهله، أو معظم مقتنياته، وكان من الممكن تجنب الأضرار لو لم تقم الثورة كما يروّج الكثيرون، ولكن النظام كان يستفرد بالأفراد ويتلاعب بالطوائف وبرجال الدين، وبرجال القبائل وأعيان العائلات، وهذا التخريب الممنهج مع قمع الأحزاب السياسية ومنع المجتمع من تنظيم نفسه، هو ما تسبب بدفع ثمن باهظ من قبل السوريين في مواجهتهم آلة القمع، وفتح الطريق واسعًا أمام التطرف الديني والطائفي الذي توازعته العديد من الأطراف.
وطوال عقود كان النظام ينهب موارد البلاد ويوزعها على المقربين منه وعلى قادة آلة القمع العملاقة. وأدخل البلاد في طريق مسدود، وصار اسم سوريا منبوذًا منذ العام 1963.
ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي، كان الروس والإيرانيون يخططون لجعل سوريا نسخة عن كوريا الشمالية يستعملونها لأغراضهم الاستراتيجية، فنظام الأسد ليس لديه أي برنامج لتطوير البلاد، ولا إخراجها من عزلتها، برنامجه الوحيد الذي لا يزال يدافع عنه إلى اليوم هو استمرار عائلة الأسد في الحكم، رغم تحوّل هذه العائلة إلى مجرد وكيل عن الإيرانيين والروس في حكم البلاد والاستيلاء على مواردها.
كان لا بد من هذه الثورة، وكان لا بد لنا من الحلم بالحرية وبالكرامة، وكان لا بد لنا من الخروج من العزلة التي فرضها نظام “البعث” على السوريين منذ 1963، كان لا بد لنا من شرب الكأس المرّة التي شربناها، فالأورام الخطيرة والمزمنة لا بد لها من الاستئصال، ومهما كان الثمن!