عهد جديد.. هل يبث بايدن الروح في دكتاتور فنزويلا؟
أنهت مشاهد الحرب في أوكرانيا سنوات من القطيعة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وجارتها الجنوبية، فنزويلا، إذ قرر البيت الأبيض استئناف المحادثات مع الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، الرجل الذي اتهمته وزارة العدل الأمريكية بتزوير الانتخابات وتهريب المخدرات، ليس ودًا أو تحالفًا، بل لحاجة في نفس أمريكا، ولسد الخلل من جهة النظام الفنزويلي، المتلهف لاستعادة مكانته في السوق العالمية.
في 5 من آذار الحالي، سافر مسؤولون أمريكيون كبار إلى فنزويلا في زيارة هي الأعلى من نوعها منذ سنوات، في إطار جهود أمريكية لعزل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وسعيًا لتحديد ما إذا كانت كاراكاس (العاصمة)، مستعدة للنأي بنفسها عن روسيا الحليف الوثيق إبان “غزوها” لأوكرانيا، وفقًا لـ”رويترز“.
لكن المهمة الرئيسة تكمن في إيجاد براميل نفط بديلة في فنزويلا، التي تعتبر مصدرًا محتملًا لإمدادات النفط عن تلك التي انقطعت من روسيا، بعد إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حظرًا كاملًا لواردات النفط الروسية، التي كانت تشكّل قبل “غزو” أوكرانيا 8% من إجمالي صادرات النفط الأجنبية إلى الولايات المتحدة في عام 2021، بقرابة 672 ألف برميل يوميًا، وفقًا لبيانات وكالة معلومات الطاقة.
تعرض اللقاء لانتقادات في الكونجرس الأمريكي، حتى من قبل “الديمقراطيين” الذين طلبوا من الرئيس، جو بايدن، عدم بث روح جديدة في عهد مادورو، “عهد التعذيب والقتل”، بحسب “رويترز“.
البحث عن النفط في خارطة الدكتاتوريين
قطع البلدان العلاقات الدبلوماسية في عام 2019، وسط حملة من العقوبات الأمريكية والضغط الدبلوماسي بهدف الإطاحة بمادورو، إذ اعتبرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وعشرات الدول الأخرى، أن إعادة انتخابه في 2018 أمر مزيف، واعترفت بزعيم المعارضة، خوان غوايدو، كرئيس شرعي للبلاد.
في السابق، أصرت إدارة بايدن على أنها لن ترفع العقوبات عن فنزويلا، بما في ذلك العقوبات المفروضة على قطاع النفط الحيوي، ما لم يتخذ مادورو خطوات ملموسة نحو إجراء انتخابات حرة.
لكن في أعقاب انخفاض المعروض من النفط المحلي الأمريكي، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتخفيف العقوبات الحالية، بشرط أن توافق فنزويلا على شحن النفط مباشرة إلى الولايات المتحدة.
حدد المسؤولون في اجتماع كاراكاس مواقفهم التفاوضية، حيث ضغطت واشنطن من أجل انتخابات رئاسية حرة، والإفراج عن الأمريكيين المسجونين في فنزويلا، بينما طالب مادورو برفع العقوبات على نطاق واسع، لكن الموضوع الأكثر إلحاحًا بحسب “رويترز” كان النفط.
أوضح المسؤولون الأمريكيون أن أولويتهم هي تأمين الإمدادات النفطية للولايات المتحدة، إذ تريد الأخيرة من فنزويلا أن تفتح صناعاتها أمام الشركات الأمريكية ومنحها مساحة أكبر للعمل، في مقابل توفير الاستثمارات لزيادة إنتاج النفط، مع المساعدة في إعادة دمج البلاد في النظام المالي العالمي.
غوايدو ومعارضة البؤساء
عانت فنزويلا، المنتج الرئيس للنفط في أمريكا الجنوبية، من العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، رغم أن احتياطياتها من النفط الطبيعي تقدّر بـ18% من الاحتياطي العالمي، متفوقة بذلك على احتياطيات المملكة العربية السعودية وكندا وإيران.
وتعرضت صادرات النفط الفنزويلية التي بلغت أكثر من ثلاثة ملايين برميل من النفط الخام يوميًا في التسعينيات لضربة كبيرة، إذ انخفض الإنتاج إلى 300 ألف برميل يوميًا عام 2020، قبل أن يرتفع إلى حوالي 760 ألف برميل يوميًا 2021.
لكن مادورو احتفظ بالسلطة بدعم من الجيش، وكل من روسيا والصين وكوبا وإيران، غير آبه بوجود رئيس شرعي للبلاد أو معارضة مدعومة من الغرب.
لعبت شركات النفط والبنوك الروسية دورًا رئيسًا في مساعدة مادورو، وشركة النفط الحكومية (PDVSA)، على التهرب من العقوبات الأمريكية ومواصلة الشحنات.
في حين تستعد شركة “Chevron Corp”، آخر منتج أمريكي يعمل في فنزويلا، للسيطرة على مشاريعها المشتركة في البلاد، إذا خففت واشنطن العقوبات على كاراكاس، لتعزيز إمدادات الخام إلى الولايات المتحدة.
تسعى شركات أخرى، من بينها شركة “ريبسول” الإسبانية “وإيني” الإيطالية “وإن جي سي” الهندية وشركة “موريل آند بروم” الفرنسية، للحصول على موافقة الولايات المتحدة لتلقي النفط من النظام الفنزويلي الذي لم تعترف واشنطن بحكومته.
في ظل هذا التهافت، دعا زعيم المعارضة الفنزويلية، خوان غوايدو، شركات الطاقة ذات المشاريع المشتركة في البلاد إلى التمسك بالديمقراطية، وسط محادثات “تخفيف العقوبات النفطية” على الدولة العضو في “أوبك”.
كانت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، اعترفت بزعيم المعارضة باعتباره الزعيم الشرعي لفنزويلا بعد أن وصفت إعادة انتخاب مادورو في 2018 بأنها صورية، لكن المسؤولين الأمريكيين التقوا غوايدو، بعد حضور الاجتماع مع مادورو في القصر الرئاسي، ولم يتم إبلاغ فريق غوايدو بالرحلة إلا بمجرد وصول المسؤولين الأمريكيين إلى كاراكاس.
مكافحة العقوبات بالمخدرات
تفاقمت الدوامة الاقتصادية بسبب عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والسجن السياسي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، والعنف المتفشي بسبب وجود مجموعات مثل القوات المسلحة الثورية لكولومبيا، وجيش التحرير الوطني، وحزب الله، وعصابات المخدرات، والجماعات الموالية للحكومة |
وردت في كتاب “عمليات الاحتيال التي أدت إلى انهيار فنزويلا”، للكاتب إميلي جي بلاسكو، مدير مركز الشؤون العالمية في جامعة “نافارا” الإسبانية، اعترافات لنائب وزير المال الفنزويلي، ورئيس بنك التنمية الاقتصادية والاجتماعية (Bandes)، رافائيل عيسى، بفحوى اجتماع دار بين مادورو، الذي كان حينها وزيرًا للخارجية، والأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، في العاصمة السورية دمشق عام 2007.
تم خلال هذا الاجتماع توقيع اتفاق شمل الاتجار بالمخدرات وغسل الأموال وإمدادات الأسلحة وتسليم جوازات سفر، بالإضافة إلى نشر خلايا للحزب في فنزويلا، وفقًا لعيسى الذي كان حاضرًا في الاجتماع.
ووفقًا لرئيسة البعثة الدبلوماسية الفنزويلية لدى المملكة المتحدة، فانيسا نيومان، فإن مادورو، بعد اجتماع 2007، توجه إلى طهران للانضمام إلى هوغو شافيز، الرئيس الفنزويلي السابق، في لقائه مع الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد.
ومنذ ذلك الحين، تم إنشاء العديد من العلاقات التجارية، وافتتح “الحرس الثوري الإيراني” فروعًا له في فنزويلا، ثم نقل الأموال عبر شركة النفط الحكومية (PDVSA)، مستخدمًا إياها لدخول النظام المالي الدولي والتهرب من العقوبات.
في 14 من شباط 2017، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية، عقوبات مالية تتعلق بتمويل الإرهاب، على عدد من الأفراد ووكالات السفر في فنزويلا لتقديم الدعم المالي للراديكاليين الإسلاميين المتمركزين في لبنان جماعة “حزب الله”.
بالإضافة إلى عقوبات اقتصادية على 22 شخصًا لهم صلات بفنزويلا، و27 شركة من خلال تصنيفها على أنها مخصصة للاتجار بالمخدرات.
ومن بين الأفراد المعنيين، نائب الرئيس الفنزويلي السوري الأصل، طارق العيسمي، بتهمة “ضلوعه في تهريب المخدرات”.
عيّن الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، العيسمي نائبًا له في 17 من كانون الثاني 2017، ولعب دورًا مهما في الاتجار الدولي بالمخدرات بحسب نيومان، كما تم تعيين مساعده الأساسي، رجل الأعمال الفنزويلي، سمارك لوبيز بيلو، الذي وصفه الجانب الأمريكي بأنه “الدرع الواقية” للعيسمي، لتقديم المساعدة المادية لأنشطته من خلال شبكة دولية من البترول والتوزيع والهندسة والاتصالات وشركات الأصول القابضة لغسل عائدات المخدرات.
وتتولى منظمة “كارتل” المدعومة من الجيش، تجارة المخدرات وإدارة الشؤون المالية والاقتصادية للدولة، ويجني جيش مادورو بمساعدة “حزب الله” ما يقدر بنحو 8.8 مليار دولار سنويًا من تهريب المخدرات والنفط والغذاء والذهب، ما يساعدهم في الالتفاف على العقوبات.
فنزويلا المنهكة.. مؤامرة أم فساد
في عام 1973، أدى الحظر الذي فرضته منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) لمدة خمسة أشهر على الدول التي تدعم إسرائيل في “حرب أكتوبر” (تشرين)، إلى مضاعفة أسعار النفط أربع مرات، وجعل فنزويلا الدولة ذات الدخل الأعلى للفرد في أمريكا اللاتينية.
على مدى عامين، أضافت الأرباح المفاجئة عشرة مليارات دولار إلى خزائن الدولة، ما أفسح المجال لتفشي الفساد وسوء الإدارة، إذ يقدّر المحللون من معهد “Cato” أنه تم اختلاس ما يصل إلى 100 مليار دولار بين عامي 1972 و1997 فقط.
في عام 1976، وسط طفرة النفط، قام الرئيس كارلوس أندريس بيريز بتأميم صناعة النفط، وإنشاء شركة “Petroleos de Venezuela” المملوكة للدولة للإشراف على جميع عمليات استكشاف النفط وإنتاجه وتكريره وتصديره.
مع انخفاض أسعار النفط العالمية في الثمانينيات، انكمش الاقتصاد الفنزويلي وارتفع التضخم في نفس الوقت، وتراكمت ديون خارجية ضخمة من خلال شراء مصافي تكرير أجنبية، مثل “Citgo” في الولايات المتحدة.
في عام 1989، أطلق بيريز، الذي أُعيد انتخابه قبل ذلك بأشهر، حزمة تقشف مالي كجزء من خطة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي. أثارت الإجراءات أعمال شغب مميتة.
في عام 1992، قاد الضابط العسكري هوغو شافيز انقلابًا فاشلًا، وارتقى إلى الشهرة الوطنية، وتم انتخابه رئيسًا عام 1998، على أساس برنامج اشتراكي، وتعهد باستخدام ثروة فنزويلا النفطية الهائلة للحد من الفقر وعدم المساواة.
طرد شافيز الآلاف من عمال شركة النفط الحكومية (PDVSA)، ذوي الخبرة الذين شاركوا في إضراب صناعي في 2002- 2003، ما أدى إلى تدمير الشركة ذات الخبرة الفنية المهمة، واتخذ عدة خطوات عجلت بتراجع طويل وثابت في إنتاج النفط في البلاد، والذي بلغ ذروته في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الـ21.
خلال فترة رئاسته، التي استمرت حتى 2013، تضاءلت الاحتياطيات البترولية الاستراتيجية وتضاعف الدين الحكومي.
في منتصف عام 2014، تراجعت أسعار النفط العالمية، ودخل الاقتصاد الفنزويلي في الانهيار.
مع اندلاع الاضطرابات، عزز مادورو، الرئيس الجديد حينها، سلطته من خلال القمع السياسي والرقابة والتلاعب الانتخابي.
في السنوات الأخيرة، صعّدت واشنطن العقوبات ضد كاراكاس، والتي قلصت دخل حكومة مادورو، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية في البلاد إلى يومنا الحالي.
الإنسان في فنزويلا
أدت الأوضاع الاقتصادية السيئة في فنزويلا إلى تأجيج أزمة إنسانية “مدمرة”، مع نقص حاد في السلع الأساسية مثل الطعام ومياه الشرب والوقود والإمدادات الطبية.
ووفقًا لمسح أجري في أيلول 2021، يعيش 77% من سكان فنزويلا البالغ عددهم 28 مليونًا في فقر مدقع، وهو أعلى معدل في أمريكا اللاتينية.
منذ عام 2014، فر ما يقرب من ستة ملايين فنزويلي إلى البلدان المجاورة وخارجها، ومُنح بعضهم إقامة مؤقتة، إلا أن جائحة “كورونا” تسببت في فقد أكثر من 130 ألف مهاجر فنزويلي وظائفهم في بلدان أمريكا اللاتينية، وأُجبروا على العودة إلى ديارهم.
أدت “دولرة القطاع الخاص” إلى زيادة الرواتب بنسبة 22.7% من كانون الثاني 2020 إلى كانون الثاني 2021، حيث يتم الآن دفع نصف الرواتب تقريبًا بالدولار.
كما وجدت دراسة أجراها المرصد الفنزويلي للمالية حول رواتب العمال، أن عمال القطاع الخاص يكسبون حوالي 70 دولارًا شهريًا، مقابل عمال القطاع العام الذين يكسبون 4.70 دولار شهريًا.
وفقًا للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، يوجد 7.5 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بالإضافة إلى 9.3 مليون شخص داخل البلاد يعانون من انعدام الأمن الغذائي وفقًا لـ”ACAPS“. وأدى التضخم المفرط وارتفاع الأسعار إلى تقليل الوصول إلى الغذاء والأدوية والسلع الأساسية الأخرى، بينما تعوق قيود الاستيراد التوفر العام للسلع.
في السنوات الأخيرة، وصل سوء التغذية إلى عتبات الطوارئ للأطفال دون سن الخامسة، حيث أظهرت نسبة 50% درجة معيّنة من سوء التغذية وحوالي 280 ألفًا ضمن خطر الوفاة بسبب نقص التغذية، كما أن النساء الحوامل والأشخاص في المناطق الفقيرة من البلاد أكثر عرضة لسوء التغذية.
انخفض معدل التضخم في شباط 2022 بنسبة 340.4%، ومنذ بدء التضخم في عام 2017، كانت نسبته 862% ثم ارتفعت إلى 130 ألفًا بالمئة عام 2018، إذ أصبح حينها شراء دجاجة يبلغ وزنها 2.4 كيلوغرام في فنزويلا يتطلب 14 مليون بوليفار (2.22 دولار أمريكي)، ليتخطى سعر الدجاجة في نهاية 2021، 474 مليار بوليفا.
يعتبر التضخم في فنزويلا هو الأعلى في العالم، وأعلن مادورو، في 3 من آذار الحالي، عن قفزة في الحد الأدنى للأجور الشهرية إلى ما يعادل 29 دولارًا من 1.60 دولار سابقًا، بحسب “رويترز“.
غادر الجانبان اجتماع كاراكاس، في 5 من آذار الحالي، ولم يلتزم البيت الأبيض علنًا بأي خطة طويلة الأجل لمواصلة العلاقات الدبلوماسية أو تخفيف العقوبات، لكن في لفتة تصالحية مهمة، أطلقت حكومة فنزويلا سراح سجينين أمريكيين.
خورخي ألبرتو فرنانديز، سائح كوبي أمريكي تم اعتقاله مطلع 2021، لإحضاره طائرة من دون طيار إلى فنزويلا، وجوستافو كارديناس، أحد المديرين التنفيذيين الستة لشركة “Citgo Petroleum Corporation” الأمريكية المحتجزين منذ 2017.
لاحظ بعض المراقبين أنه حتى لو أُقيمت علاقة مع فنزويلا، فقد تكون قيمتها أقل بكثير مما كان متوقعًا، فالإنتاج اليومي من النفط لفنزويلا، يعتبر جزءًا صغيرًا مما ترسله روسيا على أساس يومي، لذا فإن العلاقات الأفضل والعقوبات المخفضة ليست قصيرة أو حتى متوسطة المدى لاستبدال النفط الروسي في الأسواق العالمية.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :