زينب مصري | حسن إبراهيم | جنى العيسى | حسام المحمود
على خط فاصل بين منطقتين داخل حدود جغرافيا واحدة يُطلق عليها مسمّى “المناطق المحررة”، قُتلت فاطمة الحميد في أثناء محاولتها نقل بضعة ليترات من مازوت التدفئة تدرأ بها برد الشتاء عن أطفالها وتوفّر بضعة قروش بفارق السعر بين المنطقتين.
أطلق عنصر من حرس معبر “أطمة- دير بلوط” رصاصة على رأس الشابة “عن طريق الخطأ”، بذريعة اشتباك مع “مهربين” ينقلون مواد يُمنع استيرادها من مناطق سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” في ريف حلب إلى مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” في إدلب.
إلا أن الأشخاص الذين اتهمتهم إدارة المعبر بالتهريب هم من أهالي منطقة أطمة التي تدخل ضمن الحدود الخاضعة لنفوذ “الإنقاذ”، والذين يعانون من تبعات الوضع المعيشي المتردي، والقرارات الاقتصادية التي تدير بها الحكومة المنطقة، ما يدفعهم للبحث عن سبل لمواجهة هذا الوضع، ومنها كسر ما تحظره “الإنقاذ”، بنقل البضائع إلى مناطق سيطرتها.
منذ عام 2017، تحوّل الشمال السوري الذي تسيطر عليه فصائل المعارضة التي خرجت ضد النظام السوري إلى شبه دويلتين، مع سيطرة حكومة “الإنقاذ” على مدينة إدلب، و”الحكومة المؤقتة” على ريف حلب.
هذه السيطرة فرضت وجود حدود داخلية، تنتشر بينها نقاط مرور للبضائع والأشخاص، تتبع لقرارات اقتصادية وعسكرية تحدد شكل التنقل بين المنطقتين، كما تحدد شروط التنقل إلى المناطق الأخرى في سوريا التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” في المنطقة الشمالية الشرقية، وحكومة النظام في المناطق المتبقية.
حادثة مقتل فاطمة الحميد (28 عامًا) خلال ما وُصف بالاشتباكات مع مهربين، تسلّط الضوء على قضية الحدود الفاصلة بين مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري، والتي حوّلت المنطقة إلى “شبه دويلتين” لكل واحدة قراراتها الاقتصادية.
في هذا الملف، تحاول عنب بلدي توجيه الأنظار إلى حالة الانقسام الخدمي والمؤسساتي التي تعيشها المنطقتان، وغياب التنسيق بين “المؤقتة” و”الإنقاذ”، وأثر ذلك على سكان المنطقة.
من وجهة نظر الأهالي..
القرارات لخدمة مَن؟
تعرّف أنظمة الجمارك التهريب بأنه إدخال أو محاولة إدخال بضائع إلى البلاد أو إخراجها أو محاولة إخراجها بصفة غير قانونية أو بطريقة الغش.
ويكون ذلك عبر الحدود الإقليمية للدولة التي تعد وسيلة للمحافظة على ثرواتها ومراقبة حركة البضائع والأشخاص من وإلى كل دولة، ما يدفع الحكومة إلى فرض رقابة على حدودها.
وفي الحالة السورية، يجري “التهريب”، كما تصفه سلطات الأمر الواقع، عبر حدود إدارية داخلية رسمتها المتغيرات العسكرية والسياسية في المنطقة، وتديرها حكومتا أمر واقع بجناحيهما العسكريين، “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام”.
وتدير الحكومتان مناطق سيطرتهما اقتصاديًا بأنظمة وقرارات متقاربة في الجزئية المتعلقة بالتعامل اقتصاديًا وتجاريًا مع الجارة التركية لكن دون تنسيق فيما بينهما، وتختلفان في تسمية هذه المناطق، إذ تعتبر “الإنقاذ” المناطق “المحررة” هي المناطق الخاضعة لنفوذها في إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي وأجزاء من ريف اللاذقية وسهل الغاب شمال غربي حماة.
بينما تطلق “المؤقتة” تسمية المناطق “المحررة” على مناطق العمليات العسكرية بالتعاون مع تركيا، وهي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” و”نبع السلام”.
حوادث متكررة
لم تكن حادثة مقتل الشابة فاطمة بذريعة “التهريب” والاحتجاجات التي تبعتها ضد “الهيئة” لاحقًا اعتراضًا على سياستها الاقتصادية في المنطقة الحادثة الوحيدة التي أضاءت على مسألة تعامل “الهيئة” مع التهريب من مناطق سيطرة “المؤقتة” إلى مناطق سيطرة “الإنقاذ”.
سبق هذه الحادثة إغلاق “الهيئة” معبر “الغزاوية” بوجه شحنات المحروقات بين مناطق شمالي حلب الخاضعة لنفوذ “الجيش الوطني” المدعوم تركيًا، ومحافظة إدلب وريف حلب الغربي الخاضعين لسيطرة “الهيئة”، ما أدى إلى إيقاف “حرّاقات ترحين” عملها في تشرين الأول 2021.
هذه الخطوة اعتبرها حسن غانم، وهو مالك إحدى “الحرّاقات”، محاولة من “الهيئة” لإقصاء منافسيها في المجال، وإرغام المدنيين في مناطق نفوذها على شراء المحروقات الأوروبية التي استوردتها عبر تركيا، وذلك بإيقاف دخول المحروقات المكررة التي تعتبر مرغوبة بالنسبة للسكان بسبب انخفاض سعرها.
وللمنتجات الزراعية أيضًا نصيب من قرارات “الهيئة” التي منعت، في آب 2021، دخول السيارات المحملة بمحصول الفليفلة، على حاجز “دير بلوط” الواصل بين إدلب وريفي حلب الشمالي والغربي، لتسمح في وقت لاحق لأصحاب السيارات بإدخال الفليفلة مع وضع رسم عشرة دولارات على كل طن، ما يزيد بدوره الأسعار على المستهلكين.
في أيلول 2021، واجهت “الهيئة” إدانات وغضبًا من الأهالي، لاحتجازها ثلاثة أطفال بتهمة تهريب السجائر تحت ملابسهم، في إحدى نقاط التفتيش بقرية أطمة بريف إدلب الشمالي، وتصويرهم، في وقت تتحدث فيه تقارير اقتصادية عن معاناة عدد غير مسبوق من الأطفال في سوريا من ارتفاع معدلات سوء التغذية، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية.
وبحسب معلومات حصلت عليها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن اثنين من الأطفال هما شقيقان يتيمان والثالث معيل لأسرته، وهم من أبناء قرية جوزف جنوبي إدلب.
ومع انتشار أزمة السكر في إدلب، خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتأخر وصول الإمدادات وارتفاع سعره وفقدانه من السوق، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور لمدنيين ينقلون السكر على دراجاتهم الآلية بين الأراضي الزراعية من “دولة الجيش الوطني إلى دولة تحرير الشام”، بحسب تعليقات مواطنين على هذه الصور.
وكان معبر “دير بلوط” الذي تديره حكومة “الإنقاذ” وضع، في 9 من آذار الحالي، ضريبة عشرة دولارات أيضًا على كل طن سكر يدخل من منطقة عفرين إلى إدلب، وسمح للمدنيين بإدخال خمسة كيلوغرامات فقط.
الشعب متضرر والتاجر مستفيد
عنب بلدي أجرت استطلاعًا مصورًا في إدلب لآراء مجموعة من الأهالي في الشمال السوري، واعتبر بعض الأشخاص المستطلعة آراؤهم أن الشعب هو المتضرر من قرارات “سلطات الأمر الواقع”، بينما يستفيد التجار من تلك القرارات في الوقت نفسه.
وتتلخص سبل التخلص من الآثار السلبية لتلك القرارات، بإزالة المعابر الفاصلة بين “المناطق المحررة” والتي تقلّص الحركة التجارية وعبور السلع بالاتجاهين، إلى جانب إلغاء الضرائب المفروضة على السلع، والتي يستعملها التجار كذريعة للتحكم بالأسعار.
أحد الأشخاص في الاستطلاع بدا مترددًا عند سؤاله عن الجهة المستفيدة من تلك القرارات برأيه، بينما اعتبر شاب آخر أن “سلطات الأمر الواقع” هي الجهة المستفيدة مما تصدره من قرارات، خاصة المتعلقة بالاقتصاد وحركة المعابر، لافتًا في الوقت نفسه، إلى أن الشمال السوري “منطقة محررة، لا منطقة مرتهنة لأشخاص يستعبدون الناس”.
ووفق استطلاع آخر أجرته عنب بلدي في ريف حلب، انسجمت آراء الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع مع وجهات نظر الأهالي في إدلب، إذ اعتبروا أن المستفيد من الانقسام بالمقام الأول هم التجار، ومن يقومون بعمليات نقل وتهريب البضائع بين المنطقتين.
وتسعى كل منطقة لإنشاء دولتها الخاصة ومنطقة نفوذها، وينطوي ذلك على حصر المخاوف الأمنية.
ولفت الأهالي إلى غياب التفاهم بين الجانبين فيما يتعلق بمسألة الأوراق الثبوتية، ما ينعكس سلبًا على مصالح الناس، في إشارة إلى مسـألة تنمير السيارات (منع دخول سيارة ذات نمرة من منطقة أخرى إلى المنطقة)، وعدم الاعتراف بالهويات الصادرة عن المجالس المحلية بريف حلب في مناطق سيطرة “الإنقاذ”، معتبرين أن النظام هو المستفيد من تلك العراقيل، بينما اعتبر آخرون أن ما يجري في الشمال انعكاس لغياب التفاهمات الإقليمية بين الدول المؤثرة في الشأن السوري.
وحول سبل رأب الصدع بين المنطقتين، يرى الأهالي أن توحيد “المنطقة المحررة” تحت قيادة وإدارة واحدة، هو السبيل الأمثل لتحويل الشمال إلى “دولة واحدة” لا “دول متعددة”، بينما اعتبر أحد الأشخاص المستطلعة آراؤهم أن الحل لا يكون إلا بمحو “الدولتين” أو دمجهما.
“الإنقاذ” تمنع و”المؤقتة” تسمح
لا رابط مشتركًا بين الحكومتين
تمنع “تحرير الشام” إدخال العديد من المواد الغذائية كالخضار والفواكه، وبشكل قطعي المحروقات، من مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، بحجة أن تلك المناطق كانت تمتهن “التهريب والغش” في مادة المازوت، ما يعود بالضرر الكبير على المستفيدين من المادة من عموم أهالي الشمال الخاضع لنفوذ “الهيئة”.
ويؤدي ذلك إلى غياب المنافسة، واحتكار بعض الشركات التجارية التي تُتهم بالتبعية لـ”الهيئة” المحروقات وتجارة المواد الأخرى، ما يؤدي إلى تحديد أسعار معيّنة لا يمكن كسرها.
بينما لا تعترف “الحكومة المؤقتة” بالمعابر بين مناطق سيطرتها ومناطق إدلب، ولا توجد مشكلة مع المواطن بغض النظر عن مكان إقامته في الشمال، بحسب ما جاء على لسان وزير اقتصادها، عبد الحكيم المصري.
وقال المصري، في حديث إلى عنب بلدي، إن “الطرف الآخر” يمنع إدخال بعض المواد من مناطق ريف حلب إلى مناطق سيطرته، كما يمنع إخراج بعض المواد من مناطق سيطرته إلى ريف حلب، مؤكدًا عدم وجود أي تنسيق بين “المؤقتة” و”الإنقاذ” على الإطلاق في أي مجال.
لكن، وبشكل غير مباشر، عندما تضع “المؤقتة”، على سبيل المثال، رسوم الاستيراد والتصدير، تطّلع “الإنقاذ” عليها وتأخذها مثالًا لتضع رسومها بشكل يتناسب معها حتى لا يكون الفارق كبيرًا.
وأرجع المصري غياب التنسيق إلى عدم وجود “شيء مشترك يجمعهما (الحكومتان) يفرض التنسيق”، بحسب تعبيره، دون ذكر تفاصيل إضافية حول أسباب غياب التنسيق بين الحكومتين.
ولمناقشة مسألة التنسيق وأثرها على الأهالي في المنطقة، تواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ” لكنها لم تحصل على رد حتى ساعة إعداد هذا الملف.
في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني، اعتبر 57% من المشاركين البالغ عددهم 166 شخصًا، أن سلطات الأمر الواقع هي المستفيدة من تحقيق انقسام مؤسساتي بين منطقتي إدلب وريف حلب، بينما يرى 43% من المشاركين أن دولًا مؤثرة في الملف السوري هي المستفيدة من هذا الانقسام.
المستفيدون أفراد أو كيانات
يثير غياب التنسيق هذا التساؤلات حول أسبابه ومصالح الحكومتين في تعزيز الانقسام المؤسساتي بمختلف القطاعات بينهما، الذي ينعكس على المواطنين المقيمين في المنطقة.
الباحث في الاقتصاد والدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، أكّد لعنب بلدي وجود أطراف لها أهداف في تكريس وتثبيت واقع عدم الاتفاق بين الحكومتين على ما هو عليه بما يخدم مصالحها.
إذ تترافق دومًا فترات الأزمات والاستقرار مع وجود بعض المستفيدين منها، سواء من الأفراد أو الكيانات أو “الميليشيات” المسيطرة على المنطقة.
وحول المعابر الموجودة بين مناطق سيطرة “الإنقاذ” و”المؤقتة”، أوضح شعبو أن هذه المعابر تدرّ أموالًا بقيمة ملايين الدولارات يوميًا، وبهذا يحصل من يديرها على أموال طائلة جراء وجودها، مشيرًا إلى أن استمرارها قد يكون مفيدًا لأشخاص أو كيانات بعينها فقط، وليس للمجتمع أو لاقتصاد المنطقتين.
“مكاتب لتيسير الأعمال”
ويرى شعبو أن سبب غياب التنسيق بين حكومتي “الإنقاذ” و”المؤقتة” يعود إلى صراع “أيديولوجي” أكثر من كونه صراعًا اقتصاديًا ناتجًا عن عدم تقبل أحدهم للآخر لكنه يملك انعكاسات اقتصادية.
وأضاف شعبو أن كلتا الحكومتين لا تملك مؤسسات فاعلة بالأصل في مختلف القطاعات، معتبرًا أنهما ليستا سوى “مكاتب لتيسير الأعمال” مهمتها تنفيذية، في ظل غياب أي سلطة تخطيطية لكل منهما.
وتغلب على العلاقة بين الحكومتين “الشخصنة” و”المصالح الفردية” بعيدًا عن مصالح المواطنين والقطاع العام، بحسب شعبو، لافتًا إلى أن من الممكن أن يعود سبب الصراع بين الطرفين إلى صراع أطراف دولية مُتحكمة بكل طرف.
الكيانات خلقت الانقسامات
تتعدد الجهات والكيانات السياسية والعسكرية التي تمسك بزمام الأمور في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري بشمال غربي سوريا، بما يجعلها سلطات أمر واقع تفصلها “الحدود” الفاصلة بينها، ولم تنخرط في تفاهمات تنظم آلية العمل والحركة بين منطقتين جارتين، هما إدلب وريف حلب.
حكومتان و”جيش” و”هيئة”، ورايات عسكرية مختلفة الشعارات والألوان والأيديولوجيا والتبعية، ومجالس محلية، يشكّل هذا الخليط واقع الشمال الذي يعاني رغم “زحمة المسؤولين”، واقعًا اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا غير مستقر.
وفي 2 من تشرين الثاني 2017، شُكّلت حكومة “الإنقاذ”، لتبسط بعد عام ونصف من تأسيسها نفوذها الإداري وسيطرتها على مفاصل الحياة في محافظة إدلب وريف حماة الشمالي، وجزء من ريف حلب الغربي، إثر اتفاق بين “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، نص على جعل المنطقة كاملة تابعة لـ”الإنقاذ”.
“الحكومة” المكوّنة من 11 حقيبة وزارية، نشأت في ظل تعقيدات وتجاذبات داخلية، وحضور دولي لإدلب في خطابات سياسية دولية يشي تضاربها بعدم استقرار المنطقة، إلى جانب سيطرة “تحرير الشام” عليها بشكل غير مباشر.
وأمام الحاجة إلى هيئة مدنية تدير المنطقة، شُكّلت “الحكومة” بيد عسكرية من قبل قائد “هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، لبسط سلطة “الهيئة” على المنطقة بشكل مقنّع.
وسلّمت “الإدارة المدنية للخدمات” التابعة لـ”الهيئة” مؤسساتها الخدمية لـ”الإنقاذ” من مياه وكهرباء ومواصلات وغيرها.
وبدأت “الإنقاذ” منذ تأسيسها بفرض سيطرتها، فوجهت، في 12 من كانون الأول 2017، إنذارًا لـ”الحكومة السورية المؤقتة” يقضي بإمهالها 72 ساعة لإغلاق مكاتبها في محافظة إدلب شمالي سوريا والخروج من المنطقة.
واستجابت الأخيرة بنقل نشاطاتها، وآخرها، في 22 من كانون الأول من العام نفسه، عندما نقلت مقر جامعة “حلب الحرة” من مدينة إدلب إلى ريف حلب الغربي، على خلفية تعيين “الإنقاذ” رئيسًا جديدًا للجامعة.
وفي ظل اتهامات لـ”الإنقاذ” بتبعيتها لـ”هيئة تحرير الشام”، اعتمدت بشكل مفاجئ وبعيدًا عن التوقعات، وبموجب قرار صادر عن “الهيئة التأسيسية”، علمًا جديدًا لإدلب، من أربعة ألوان، يمزج بين علم الثورة السورية والراية الإسلامية، ما قوبل بردود فعل غاضبة اعتبرت تلك الخطوة محاولة لطمس معالم الثورة وعلمها، بينما اعتبرتها شخصيات من داخل “الهيئة” تراجعًا عن المبادئ الإسلامية.
وفي ذكرى تأسيسها الرابعة، في 28 من كانون الثاني 2020، ذكرت “تحرير الشام”، في إصدار مصوّر، أن عددًا من “النخب” في شمال غربي سوريا بادروا لتشكيل حكومة مدنية “ترتب أوراق الشمال المحرر، وتقدم ما تستطيع للمدنيين”، تمخضت عنها حكومة “الإنقاذ” التي دخلت دورتها الخامسة.
وجاء في الإصدار أن “تحرير الشام” تدعم بشكل كامل حكومة “الإنقاذ”، لما تقدمه من خدمات مدنية.
وقبل ظهور “الإنقاذ”، كانت إدلب ضمن سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة”، التي شُكّلت بعد نحو عامين من اندلاع الثورة السورية، وتحديدًا في آذار من عام 2013، بدعم من “الائتلاف الوطني المعارض” بشكل رئيس، إلى جانب معارضين آخرين.
وبدأت أولى تشكيلات “الحكومة” برئاسة غسان هيتو، واقتصر دعمها آنذاك على “المنتدى السوري للأعمال” ورئيسه مصطفى الصباغ، الأمين العام الأسبق لـ”الائتلاف”.
وتغيرت تلك المعطيات في أيلول من العام ذاته، حين تغيرت تشكيلتها وترأسها أحمد طعمة حتى أيار 2016، ثم ترأسها جواد أبو حطب، في الفترة الممتدة بين أيار 2016 وآذار 2019.
ويتولى عبد الرحمن مصطفى رئاسة “الحكومة السورية المؤقتة”، منذ حزيران 2019 وحتى تاريخ إعداد هذا الملف.
ولـ”الحكومة المؤقتة” جناح عسكري يتمثل بـ “الجيش الوطني” الذي أُعلن تشكيله في تشرين الأول 2019، بمدينة شانلي أورفة جنوبي تركيا، من قبل مجموعة قادة عسكريين في المعارضة السورية، بقيادة وزير الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”، ورئيس هيئة الأركان حينها، سليم إدريس.
ويضم هذا “الجيش” المدعوم من تركيا كلًا من “الجيش الوطني” الذي شُكّل في كانون الأول 2017، من ثلاثة فيالق يضم كل منها مجموعة فرق وألوية، إلى جانب “الجبهة الوطنية للتحرير”، وهي تجمع 11 فصيلًا من “الجيش الحر” بمحافظة إدلب، في أيار 2018.
وأمام واقع تتعدد به وتتنوع الإدارات المدنية والعسكرية، ينعكس هذا التنوع على المناخ الاجتماعي، فيخلق أنماطًا مختلفة للحياة، قد تتنافر ضمن رقعة جغرافية واحدة حوّلتها التقسيمات إلى منطقتين.
حدود داخلية ونقاط عبور تجارية
كيف يرتبط “المحرر” مع جيرانه
تربط بين مناطق سيطرة فصائل المعارضة ومناطق سيطرة النظام معابر داخلية مختلفة، كما تربط بين مناطق سيطرة المعارضة نفسها معابر داخلية أيضًا.
معابر بين “الإنقاذ” و”المؤقتة”
يربط بين المنطقتين معبران داخليان، هما معبر “دارة عزة- الغزاوية” والمعروف أيضًا بـ”طريق دارة عزة”، الذي يصل مدينة دارة عزة في ريف حلب الغربي بمنطقة عفرين في ريف حلب الشرقي.
وتقع قرية الغزاوية شمالي دارة عزة، وفيها المعبر الفاصل، ويقع شمالي دارة عزة بمنطقة دير سمعان الأثرية، وهي منطقة أيضًا مرتفعة تشرف على طريق عفرين وعلى ريف حلب الغربي.
المعبر الثاني هو “دير بلوط- أطمة” الذي يصل ريف إدلب الشمالي بريفي حلب الشمالي والغربي.
ويقع المعبر على الطريق الواصل بين قرية دير بلوط ومنطقة أطمة شمالي إدلب التابعة لـ”الإنقاذ”، وتشرف على المعبرين قوات تتبع لـ”تحرير الشام” و”جهاز الأمن العام” العامل في إدلب، الذي ينفي صلته بها.
وتعد هذه المعابر الداخلية على درجة عالية من الأهمية فيما يخص السماح بدخول البضائع التجارية وخروجها، وفيما يتعلق بحركة المدنيين وغيرها من الإجراءات الأخرى.
وأحكمت “تحرير الشام” سيطرتها على المعابر الواصلة مع مناطق “الجيش الوطني” في أثناء العمل العسكري الذي بدأته ضد “حركة نور الدين الزنكي”، مطلع عام 2019، وتمكّنت فيه من السيطرة على كامل الريف الغربي لحلب.
وتكرر إغلاق “تحرير الشام” المعابر مع مناطق سيطرة “الجيش الوطني” لعدة أسباب، أبرزها التخوف من مرور خلايا تتبع لتنظيم “الدولة” إلى المناطق التي تسيطر عليها، ووصول تسريبات “بتدفق دفعات من عناصر التنظيم متوجهة إلى إدلب من مناطق (قسد) ومنها حتى تصل إلى إدلب”، وأسباب أخرى كإجراءات تنظيمية لضبط حركة العبور وتأمين الطريق، وتفشي فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، بحسب “الهيئة”.
معابر بين “المؤقتة” والنظام
يعتبر معبر “أبو الزندين” الواقع شرقي مدينة الباب بريف حلب الشرقي، معبرًا تجاريًا وإنسانيًا يفصل مناطق سيطرة “المؤقتة” عن مناطق النظام السوري.
ويربط معبر “أبو الزندين” بين مدينة الباب وشرقي مدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام، ويقع بالقرب من قرية الشماوية، التي تخضع لسيطرة النظام.
ويعتبر من مناطق التماس بين “الجيش الوطني” والجهات المسيطرة على شرق الفرات المتمثلة بالنظام و”قسد”، ويشهد مناوشات عسكرية واشتباكات بين الحين والآخر، ما يتسبّب بتوتر الأوضاع الأمنية في المنطقة.
“أبو الزندين” هو المعبر الأول الذي افتتح بين مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، الخاضعة للإدارة التركية ومناطق النظام، وأُجريت من خلاله عدة عمليات لتبادل الأسرى بين “الجيش الوطني” وقوات النظام، برعاية تركية- روسية وبإشراف الأمم المتحدة و”الصليب الأحمر الدولي”.
معابر بين “المؤقتة” و”قسد”
وترتبط مناطق سيطرة “قسد” التي تشكّل الجناح العسكري لـ”الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا مع مناطق سيطرة “الجيش الوطني” بعدة معابر هي: معبر “الحمران”، وهو معبر تجاري يقع بالقرب من مدينة جرابلس، ويصل ريف حلب الشمالي بمدينة منبج في الريف الشرقي، ويُستخدم المعبر لنقل البضائع فقط، ويديره فصيل “الجبهة الشامية” التابع لـ”الجيش الوطني”.
وكذلك معبر “عون الدادات”، وهو معبر تجاري يقع في ريف مدينة جرابلس الجنوبي، يفصل بين مناطق سيطرة “المؤقتة” ومناطق سيطرة “قسد”، بالإضافة إلى معبر “الحلونجي” الإنساني ويبعد عن معبر “عون الدادات” نحو سبعة كيلومترات، ويقع بريف جرابلس الجنوبي.
وتخضع هذه المعابر لسيطرة “الجيش الوطني” سواء مع النظام أو مع “قسد”، وهي مغلقة أمام الحركة التجارية والمدنيين، ويُتهم “الجيش الوطني” بتمرير وتهريب بعض المواد والأشخاص من خلالها مقابل الحصول على مبالغ، لكنه ينفي ذلك.
بين “الإنقاذ” والنظام
ترتبط مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” التي تشمل محافظة إدلب وجزءًا من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية وسهل الغاب، شمال غربي حماة، بمناطق سيطرة النظام السوري من خلال معبر “ميزناز- معارة النعسان” بين بلدة معارة النعسان بريف إدلب الشرقي.
وتقع بلدة معارة النعسان تحت سيطرة “تحرير الشام” عسكريًا، في حين تسيطر قوات النظام على بلدة ميزناز غربي حلب.
المعبر مغلق لكنه يُستخدم لإدخال المساعدات الإغاثية من الأمم المتحدة، تحت مسمى “المساعدات عبر الخطوط”، القادمة من مستودعاتها في مناطق سيطرة النظام.
ويربط المعبر الثاني وهو معبر “ترنبة- سراقب” في ريف إدلب الشرقي مناطق سيطرتهما أيضًا، وتعتبر ترنبة آخر نقاط سيطرة قوات النظام، والنيرب أولى مناطق سيطرة المعارضة شرقي إدلب، وتقعان بالقرب الطريق الدولي حلب- اللاذقية (M4).
وهذان المعبران مغلقان، وتُتهم “تحرير الشام” وفصائل منضوية تحتها بعمليات تهريب مدنيين تحت مسمى “خط عسكري”، إلا أنها تنفي ذلك.
إذا أُهملت السياسة.. مَن المستفيد؟
دائمًا يترافق الحديث عن فتح المعابر الداخلية، التي تربط بين مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية في الشمال ومناطق نفوذ النظام، مع غضب واستياء شعبي ورفض لهذه الخطوة، لأن فتح المعابر بحسب ما يراه البعض يعني التعامل مع النظام سياسيًا، وتنشيط اقتصاده، إلا أن للأمر جانبًا قد يفيد الشمال السوري اقتصاديًا.
أشار الباحث في الاقتصاد والدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، في حديثه لعنب بلدي، إلى وجود عمليات دخول للبضائع لكن بشكل غير شرعي وغير رسمي بين جميع المعابر الداخلية رغم نفي الجهات الرسمية، والمستفيد هو من يدير هذه المعابر لأنها تدرّ أرقامًا “خيالية”، وفتح هذه المعابر سيصب في مصلحته أيضًا.
وكانت “تحرير الشام” حاولت في عام 2020 فتح معبر “ميزناز” لعبور القوافل التجارية بينها وبين النظام لكنها لم تنجح، بعد أن واجهت غضبًا شعبيًا واحتجاجات ومظاهرات شهدتها المنطقة القريبة من المعبر.
كما تتراشق فصائل “الجيش الوطني” التهم فيما بينها بفتح المعابر لتمرير سيارات وشاحنات تحمل مواد غذائية ومحروقات إلى مناطق سيطرة النظام و”قسد”، يقابلها نفي الفصائل القيام بأي عملية فتح أو تمرير لمواد من تلك المعابر.
أوضح الدكتور شعبو أن فتح المعابر بين المعارضة والنظام له فوائده، فكل منطقة تمتلك بعض القدرات والميزات التنافسية والصناعية والإنتاجية والزراعية أو حتى على صعيد المحروقات.
ووجود معابر والتبادل التجاري من خلالها يخفف حدة الاختناق الاقتصادي الحاصل، بحسب شعبو الذي رجّح فرض إتاوات أو ضرائب وجمركة كما يشاع على عمليات النقل، وبالتالي ستكون مصدر دخل لكلا الطرفين.
تبادل موارد وانتعاش اقتصادي
فتح المعابر وتبادل المنتجات بين هذه المناطق يسهم في إنعاش الحالة الاقتصادية، بحسب شعبو، الذي أوضح أن عرف التجارة يقضي بأن تأمين أسواق للتبادل التجاري وأسواق للحصول على الموارد الأولية يسهم في انتعاش اقتصادي.
فمناطق سيطرة “قسد” تتميز نوعًا ما بتوفر القمح والمحروقات، ومناطق سيطرة المعارضة تتوفر فيها المنتجات والسلع الغذائية والمهنية واليدوية ومختلف البضائع المستوردة، ومناطق سيطرة النظام قد تتوفر فيها بعض المنتجات الصناعية والإنتاجية.
الباحث شعبو أوضح أن الانتعاش الاقتصادي ينعكس على تنمية المشاريع الصغيرة وتحسين دخل المواطنين وإيجاد فرص عمل، وبالتالي تخفيف حدة الواقع الاقتصادي “المزري”، ويسهم نوعًا ما في الحد من ارتفاع الأسعار المبالغ فيه بهذه المناطق، نتيجة عدم توفر المواد بشكل أساسي
وجود معابر هو حالة صحية وطبيعية لتنشيط الحالة الاقتصادية لجميع الأطراف، بحسب شعبو، وما يعيشه المواطن السوري بحاجة إلى تهدئة، حتى الأمم المتحدة مؤخرًا تحدثت عن إعادة مناقشة العقوبات على سوريا، بسبب الوضع الاقتصادي الذي يعيشه المواطنون في الداخل السوري.
ويعاني السكان في مختلف المناطق السورية تردي الأحوال المعيشية، وسوء الأوضاع الاقتصادية، وارتفاعًا في الأسعار مع غياب القدرة على ضبطها في ظل انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وتدني مستوى الدخل والأجور.
انتعاش للنظام وتوريد قطع أجنبي
الجوانب الإيجابية لفتح المعابر بين النظام والمعارضة، لا تنفي وجود جوانب سلبية، لخّصها شعبو من خلال استفادة النظام من هذه الموارد، كونه يتعرض لضغوط اقتصادية كبيرة، وفتح أي معبر يصب في مصلحته.
الدكتور شعبو يرى أن فتح المعابر يسهم في تعزيز قدرة النظام على تمويل عملياته من القطع الأجنبي، إذ يستطيع استخدام الدولار الموجود في مناطق المعارضة، وسيتعامل بالليرة في مناطق سيطرته.
وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، أوضح لعنب بلدي في حديث سابق أن فتح المعابر مع النظام سيتيح له سحب الدولار من مناطق الشمال بكل الوسائل والطرق لكن عن طريق أشخاص محددين، إذ يوجد تجار تابعون له يمكن أن يشتروا الدولار بأي سعر، ما سيؤدي إلى استنزاف الدولار.
وسيعمل النظام على إدخال الدولار المجمّد إلى الشمال، وهو أوراق نقدية طُبعت بشكل رسمي لكن أرقامها التسلسلية عُطّلت وجُمّدت أرصدتها في المصارف الواقعة بمناطق الحروب أو بسبب السرقات، وتُعرض هذه الأوراق بأسعار تتراوح بين نصف وثلثي قيمتها الحقيقية، ولا يمكن تمييزها إلا من قبل المؤسسات المالية الرسمية، بحسب المصري.
ما الخطر من فتح المعابر مع النظام؟
خطورة فتح المعابر مع مناطق سيطرة النظام تكمن في إدخال المخدرات إلى الشمال السوري، إذ أجرى النظام عمليات تهريب المخدرات إلى دول لديها إمكانيات هائلة بكشف التهريب، لذلك بحسب المصري، لن يتوانى النظام عن إدخالها إلى مناطق الشمال في ظل الإمكانات المحدودة بكشف المخدرات المخبّأة بطرق كثيرة.
ومنذ عام 2011، صارت سوريا سوقًا رئيسة أو بلد عبور ومشتبهًا به للأنشطة المتعلقة بتجارة المخدرات حول العالم، من خلال الطرق البرية أو البحرية أو حتى الجوية.
كما تعتبر سوريا دولة مخدرات، لاحتوائها على نوعين أساسيين من المخدرات، هما “الحشيش” و”الكبتاجون”، وتلك الأنشطة تشمل إنتاج وتوزيع وتصدير المواد المخدرة، كما يستخدم النظام المعابر الحدودية التي يسيطر عليها وسيلة لتمرير صفقات تهريب “الحبوب المخدرة” إلى دول أخرى عن طريقه.
الوزير المصري أشار إلى أن فتح المعابر سيعطي النظام فرصة تصدير البضائع الفائضة عن حاجته إلى مناطق الشمال، كالألبسة التي توجد معامل في الشمال لصناعتها، وبعض الخضار والفواكه التي يعاني المزارعون من صعوبة تصريفها، كما سيستفيد النظام أيضًا من الرسوم على السيارات، إذ يتقاضى رسمًا من جميع السيارات التي تدخل إلى مناطقه يصل إلى 8000 دولار بالنسبة إلى السيارات المحملة بالزيت، ورسمًا على السيارات الداخلة إلى الشمال.
تراشق اتهامات.. “تطبيع وخيانة”
تعرضت الفصائل في مناطق سيطرة المعارضة لانتقادات من إمكانية فتح المعابر سواء مع مناطق سيطرة النظام أو “قسد”، واتُهمت “تحرير الشام” بـ”الخيانة والتطبيع”.
وجاءت هذه الاتهامات بسبب افتتاحها معابر تربطها مع النظام أمام شاحنات المساعدات الإغاثية والإنسانية التي رُفع عليها شعار برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وحمايتها قافلة المساعدات، وتخصيصها مركبات عسكرية وعددًا كبيرًا من العناصر لإيصالها إلى المستودعات المخصصة لها في إدلب.
كما تُتهم فصائل منضوية تحت راية “الجيش الوطني” بإدخال وإخراج المواد والمنتجات من وإلى مناطق النظام، واتهامات بتهريب عناصر متعاونين أو تابعين للنظام مقابل مبالغ من خلال معبر “أبو الزندين”، إلا أن الفصائل تنفي هذه التهم.
في حين يرى ناشطون في الشمال السوري أن فتح معابر مع مناطق سيطرة النظام سيشكّل متنفسًا اقتصاديًا له، كما سيؤدي إلى انتشار تجارة المخدرات في مناطق سيطرة المعارضة واختراقها أمنيًا.
وبرزت هذه المخاوف من خلال وسم أطلقه الناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي في آذار 2021، كما اعتبر بعضهم أن فتح المعابر “خيانة لدماء الشهداء”.