عنب بلدي – حلب
يقوم نضال (40 عامًا) يوميًا بإيصال أخيه كمال، البالغ من العمر 16 عامًا، إلى مدرسته في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب، وعند الانصراف ينتظره من أجل إعادته إلى المنزل، وذلك خوفًا عليه من اختطافه وأخذه، ليتم تجنيده لمصلحة إحدى الميليشيات التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ضمن ما يسمى بـ”الشبيبة الثورية”.
مكوّنات مجتمعية في المدينة، ومنظمات حقوقية سورية وأممية، تتهم “قسد” بإنشاء معسكرات للتدريب خاصة بالأطفال المجندين في مناطق بعيدة عن مناطق سكنهم الأصلي، ومنع الأطفال من التواصل مع عائلاتهم، عن طريق الاختطاف والتجنيد، ما دفع الأهالي إلى الخوف على مصير أطفالهم.
خطف أمام الناس
قال نضال، الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، “هناك أشخاص يعملون في (مجلس الشبيبة الثورية) التابع لحزب (الاتحاد الديمقراطي)، ومهمتهم فقط البحث عن اليافعين من أجل الحديث معهم لينضموا لمصلحة (الشبيبة)، ويُقدم لهم راتب شهري، وهو يعتبر نوعًا من الإغراء لهؤلاء اليافعين من سن 14 عامًا وحتى 18 عامًا”.
وفي حالة رفض الأطفال الانضمام، تتم عملية الخطف، وفق ما قاله نضال لعنب بلدي، الذي يعمل في محل لبيع الأجهزة الكهربائية، وأحيانًا تكون عملية الخطف في ساعات النهار، “لكن لا أحد يتجرأ ويتحدث عما يحصل، حتى إن بعض الناس يشاهدون ما يحصل، ولكنهم لا يتحدثون خوفًا من الاعتقال”.
في نيسان 2021، قدّم الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي تقريره السنوي حول “الأطفال والنزاع المسلح” عن عام 2020، وجاء فيه أن سوريا حلّت ثالث أسوأ بلد بالعالم في تجنيد واستخدام الأطفال بعد الكونغو والصومال، حيث جُنّد 837 طفلًا في سوريا عام 2020 فقط، وحلّت “قسد” في المرتبة الثانية من حيث تجنيد واستخدام الأطفال، بعد أن تصدّرت “هيئة تحرير الشام” بقية أطراف النزاع بهذا الانتهاك.
كما تحققت الأمم المتحدة من 119 حالة تجنيد واستخدام للأطفال تحت مظلة “قسد”.
رواتب ولقاءات
تحدث حالات تجنيد اليافعين لمصلحة “مجلس الشبيبة” بشكل مستمر، ويتلقى العاملون في هذا المجال مكافآت مالية على قيامهم بإقناع اليافعين بالانضمام، وحتى إنهم يمنحون رصيدًا ماليًا مفتوحًا يشمل المصاريف، خلال قيامهم بالبحث عن المنضمين طوعًا بعد الحديث والنقاش معهم، وتتم هذه اللقاءات في الشوارع والأزقة وضمن المقاهي، بحسب ما قاله نضال.
“الأشخاص الذين يعملون على تجنيد الأولاد معروفون في منطقتي الأشرفية والشيخ مقصود، وعند رؤية الأهل ابنهم وهو برفقة هؤلاء الأشخاص، يتولد لديهم خوف من أنهم قاموا بغسل عقل ابنهم، وبالتالي يمكن أن يكون قد اقتنع بالانضمام، وحتى في حال رفض الأهل وكان الولد موافقًا، يتم أخذه رغمًا عن أهله، وقد حدث ذلك عدة مرات”، وفق ما قاله نضال.
وثّق تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في 2021، ما لا يقل عن 537 حالة تجنيد لأطفال على يد “قسد” منذ تأسيسها في 2014 حتى تاريخ صدور التقرير، وأُطلق سراح بعض منهم وأُعيد تجنيد آخرين، وهكذا في حلقة مستمرة.
وذكر التقرير، أن تطويع الأطفال للانضمام إلى صفوف قوات “قسد” ينطوي على محاولات إقناع وتشجيع، وتقديم مغريات، وغالبًا ما تشترك المدارس التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في دعم عمليات تجنيد الأطفال، وبالتوازي مع أسلوب التطويع يتم التجنيد عبر خطف الأطفال سواء خلال وجودهم في المدارس أو الشوارع أو الأحياء.
مطلع كانون الثاني الماضي، فقدت أمينة (30 عامًا) في حي الشيخ مقصود أخاها آلان، البالغ من العمر 15 عامًا، من أمام مدرسة “حليمة السعدية” في حي الشيخ مقصود.
وبحسب ما قالته أمينة لعنب بلدي، “اختطف آلان بعد رفضه الانضمام إلى (مجلس الشبيبة)”، ومنذ ذلك الحين وحتى إعداد هذا التقرير لا يزال مصير آلان غير معروف بالنسبة لعائلته.
وأثر التجنيد على مستوى الطفل يكون أشد من أثر الاختطاف على عائلته، فإذا كان التجنيد إجباريًا عبر الخطف أو غيره من الطرق، يكون الطفل غير قادر على اتخاذ القرارات، والتجربة ستكون صادمة وصعبة جدًا بفقدانه إرادة تحديد مصيره، لأن العمل العسكري له طريقة محددة، والمهمات الموكلة إليه قد لا تكون متناسبة مع عمره، وهذا يزيد الأثر النفسي عليه، وسيخلّف العديد من المشكلات النفسية التي ستصحبه في بقية مراحل حياته.
جريمة حرب
لا يوجد أي حالة من الرقابة القانونية والحقوقية على قضية اختطاف الأطفال وتجنيدهم من قبل “قسد”، لأن جميع المؤسسات المعنية في المنطقة تتبع إلى “الإدارة الذاتية”.
وتسيطر “الإدارة الذاتية” على أجزاء من محافظة حلب منذ سبع سنوات، وأبرز هذه الأجزاء حيّا الشيخ مقصود والأشرفية.
والإعلان عن حالة خطف عادة ما يكون من قبل أهالي الأطفال المخطوفين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وبحسب محامٍ مقيم في منطقة الأشرفية، فإن “اختطاف القصّر أو اليافعين وزجهم في صفوف (الإدارة الذاتية) هو جرم بحد ذاته قد يرقى إلى جريمة حرب”.
وأقر المشرع السوري حماية حرية التنقل كتصرف إرادي للفرد، يبدي بموجبه صراحة نيته التحرك والتجول وفق مشيئته لممارسة أعماله وحقوقه وحرياته الأخرى، فلا يمكن للشخص أن يتنازل عنها، نظرًا إلى ارتباطها الوثيق بالجانب المعنوي من شخصيته الإنسانية.
وبموجب المادة رقم “481” من قانون العقوبات السوري، يعاقَب كل من خطف أو أبعد قاصرًا لم يكمل الـ18 عامًا من عمره، ولو برضاه، بقصد نزعه عن سلطة من له عليه الولاية أو الحراسة، بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاثة أعوام وغرامة 100 ليرة سورية.
“مثل هذه الجرائم المتكررة في مناطق (قسد) لا يوجد أي سلطة فعلية تعاقب عليها، رغم أنها تتعارض مع (العقد الاجتماعي) الذي صاغته (الإدارة الذاتية)”، وفق ما قاله المحامي لعنب بلدي.
وأوصى المحامي، الذي تتحفظ عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية، بإغلاق “مجالس الشبيبة” فورًا، لأنها “لا تحترم المبادئ التي تنادي بها (الإدارة الذاتية) ولا أي ميثاق من المواثيق الدولية والقانون الإنساني الدولي”.
ويستفيد الأطفال في النزاع المسلح من الحماية العامة المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني على غرار المدنيين أو المقاتلين.
وتعتبر كل عمليات التجنيد، بما في ذلك القسري، لمن تقل أعمارهم عن الـ15، من الأمور التي يحظرها قانون المعاهدات الدولي في البروتوكولين الدوليين لعام 1977، الملحقين باتفاقية “جنيف” لعام 1949 واتفاقية “حقوق الطفل”، ويعتبرها القانون جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة.
وجاء في تقرير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، في تموز 2020، أن “قسد” قطعت وعودًا بإنهاء هذه الممارسة، وعلى الرغم من التعهد والأنباء التي تفيد بتنفيذ جوانب رئيسة من الخطة، لا تزال هناك اتهامات بقيام “قسد” بتجنيد فتية وفتيات لا تتجاوز أعمارهم 11 عامًا.
وتتهم المنظمات الحقوقية جميع أطراف النزاع في سوريا بخطف الأطفال لاستخدامهم من أجل التجنيد، إلا أن الخصوصية في مناطق سيطرة “قسد” تأتي من التزام أنشأته “قسد” نفسها بتوقيعها اتفاقية مع الأمم المتحدة لحماية الأطفال ضمن مناطق نفوذها، وفق ما قاله مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، في حديث إلى عنب بلدي.
ولا مبرر لوجود هذا الانتهاك، لأن “قسد” تملك ما لا يقل عن 30 ألف مقاتل في العمليات العسكرية، وفق ما قاله الأحمد، وبالتالي خطف الأطفال لن يُحدث أي فرق في هذه المواجهات، كون أعمارهم غير مناسبة لخوض نزاع مسلح.
وبمقابل ذلك، “بشكل دوري، تصرّح مكاتب حماية الطفل أن هناك عمليات تسريح للأطفال من التجنيد، إلا أن الجريمة الأساسية وهي خطف وتجنيد الأطفال لم تتوقف إلى الآن، وبالتالي يجب على (قسد) أو (الإدارة الذاتية) إيقاف جميع أشكال تجنيد الأطفال والكشف عن مصير المختفين منهم، خصوصًا أن القائمين على التجنيد هم تحت سلطة (الإدارة الذاتية)”، وفق ما أوصى به الحقوقي الأحمد.
وعادة ما تكون عملية التجنيد متوقفة على احتياجات جهة التجنيد، ورغم إنشاء “الإدارة الذاتية” عام 2020 مكتبًا خاصًا يتعلق بتجنيد الأطفال في صفوف التشكيلات العسكرية التابعة لها، فإن عمليات التجنيد هذه لا تزال تحوم حول مصير الأطفال وأمنهم.