كان مصعب محمولًا على ناقلة خشبية للجرحى بجانب الساتر الترابي الحدودي مع الأردن من جهة معبر “تل شهاب” السوري، بانتظار دوره للدخول إلى الأردن لتلقي العلاج إثر إصابته بشظايا صاروخ سقط في أثناء معركة “قادسية الجنوب” بالقنيطرة في 10 من أيلول 2016، وعند سؤاله عن سبب قبوله الدخول إلى المستشفيات الإسرائيلية عبر الحدود مع سوريا، قاله إنه “يفضّل العيش في جحيم معتقلات النظام السوري وشبيحته على أن يكون في جنة بالأردن”
وأضاف مصعب الذي تحفظت عنب بلدي على اسمه الكامل لأسباب أمنية، والذي ينحدر من محافظة القنيطرة، أنه بقي نحو ست ساعات ينزف بالقرب من الشريط الحدودي مع الأردن، ينتظر موافقة المخابرات الأردنية للدخول، إلا أن محاولات إقناع الطرف الأردني باءت بالفشل.
وبمساعدة بعض فرق الإخلاء والتواصل مع المسؤول عن ملف الجرحى في محافظة القنيطرة، جرى تحويله إلى معبر “المعلقة” الواقع أقصى جنوب القنيطرة، والذي يصل محافظة القنيطرة بالجولان السوري المحتل.
وبحسب مراسل عنب بلدي في محافظة القنيطرة، فإن هذا المعبر هو الذي كان يسمح بإدخال الجرحى إلى الأراضي الإسرائيلية بين الحين والآخر.
دخل مصعب إلى المنطقة المنزوعة السلاح في إسرائيل مع عشرات الجرحى، وكخطوة ثانية جرى توزيعهم على عدة مستشفيات إسرائيلية.
فُرز مصعب، في 10 من أيلول 2016، إلى مستشفى “نهاريا” في منطقة الجليل، ومع وصوله إلى قسم الإسعاف جرى تحويله مباشرة إلى غرفة العمليات، وأجريت العمليات اللازمة لوقف النزيف وإخراج الشظايا، بقي بعدها 15 يومًا في المستشفى حتى أُعيد مع جرحى آخرين إلى سوريا مجددًا في 25 من الشهر ذاته.
كان الجرحى السوريون يُعاملون معاملة المرضى المقيمين في إسرائيل بحسب مصعب، إذ قُدمت له جميع الخدمات الطبية المُتاحة، ولم يشكُ من عدم الاهتمام، وكان يتم وضع الجرحى السوريين، غالبًا، ضمن قاعة كبيرة تتسع لعشرات الأسرّة وسط حراسة من الجيش الإسرائيلي.
وبعد الانتهاء من العلاج، عاد مصعب إلى سوريا مع الجرحى الآخرين عبر سيارات إسعاف عسكرية إسرائيلية، بعد إبلاغ مسؤول الجرحى في الجانب السوري ليتجهز لاستقبالهم.
هل دفع الأردن بالجرحى السوريين لحدود إسرائيل؟
في 8 من كانون الأول 2014، أغلقت السلطات الأردنية ثلاث “دور شفاء” (مستوصفات) سورية داخل الأراضي الأردنية، وكانت مهمة هذه المستوصفات معالجة الجرحى القادمين من سوريا والاهتمام بهم بعد خضوعهم للعلاج.
واعتقلت الأجهزة الأمنية الأردنية الطواقم الطبية السورية والجرحى في تلك الدور، ورُحّلوا إلى الداخل السوري دون سؤالهم أو التدقيق في أوضاعهم الصحية، بحجة أن المنظمات المانحة أوقفت الدعم عن هذه المراكز، إضافة إلى كون الجرحى هم من المصابين خلال المعارك في سوريا، ولا يملكون تأمينات صحية في الأردن أو أوراقًا رسمية للإقامة فيها، بحسب ما أفاد به مصدر مطلع على عمل هذه المستوصفات من أبناء محافظة القنيطرة.
وعن مدى قرب هذه الفرضية من الواقع، قال معن طلاع، مدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات”، إنه وبالرغم من تفهّم الدوافع النفسية التي تقف وراء فرضية كهذه، والتي تنطلق من “التغاضي عن الألم السوري المستمر”، فإنها تهدف باتجاه “ضغط أخلاقي” على بعض الدول.
فالأردن مثلًا، وعلى الرغم من اتباعه استراتيجية “التحصين الذاتي” أمام الأخطار الأمنية المتشكلة من المشهد السوري، استقبل اللاجئين السوريين منذ لحظات اللجوء الأولى وحتى هذه اللحظة، وشملت خطط وسياسات الاستقبال التطبيب والتعليم والإغاثة، بالمساعدة مع منظمات المجتمع الدولي.
ولربما تعززت هذه الفرضية جراء التحولات التي شهدها الموقف الأردني، لا سيما بعد التشكل الصلب لتنظيم “الدولة الإسلامية”، والتدخل الروسي، وهو ما جعل السيناريوهات المتعلقة بالملف السوري مفتوحة.
وتشكّل هذه التراكمات دافعًا للأردن باتجاه اعتماد سياسات الحذر والترقب خشية “السيولة الأمنية” لداخل بنيته المجتمعية، فهو من جهة يرتبط بعلاقات ثابتة مع الدول الخليجية والولايات المتحدة، ولكن لا يمكن له تجاهل الفاعل الروسي الذي صار موجودًا في حدوده الشمالية، الأمر الذي يتطلّب منه سياسات مرنة ودبلوماسية.
التجمد والاستعصاء المزمن للملف السوري، عطّل معه دوافع الانفراج الاقتصادي الأردني الذي يرتبط بطبيعة الحال بالجغرافيا السورية، إذ قال طلاع، إنه ومهما تعاظمت التفسيرات المدللة على تحولات الموقف الأردني، فإنه يبقى أكثر إنسانية من “إسرائيل” ولا يستقيم وضعهما في مجال المقارنة.
استغلال القضايا الإنسانية “تشابه بين النظام وإسرائيل”
بعد بدء قوات النظام والطيران الروسي بقصف منازل المدنيين، وتصاعد وتيرة المواجهات العسكرية التي أسفرت عن سيطرة فصائل المعارضة على مساحات واسعة من سوريا، أسفرت عن استهداف النظام وروسيا منازل المدنيين والأحياء السكنية، اضطر كثير من أهالي القنيطرة ودرعا وريف دمشق إلى التمركز في مخيمات على الشريط الحدودي مع الجولان المحتل، وبناء المخيمات التي انتشرت على طول الشريط الحدودي بدءًا من مخيم “العشة” و”الكرامة قرب بلدة الرفيد جنوب القنيطرة، ومخيم “الأمل” و”بريقة” بريف القنيطرة الأوسط، وعدد آخر من المخيمات بلغ عدد سكانها خمسة آلاف عائلة.
وخلال الأحداث المتعاقبة على مدار السنوات الماضية، حاول بعض الناشطين تسليط الضوء على قاطني هذه المخيمات، وعلى أوضاعهم المعيشية ومعاناتهم اليومية وسوء الخدمات المتردية التي عانى منها نازحو المنطقة، إذ كانت إسرائيل تراقب عن كثب أوضاعهم المعيشية، واقتصر الدعم على فتات بعض المنظمات الأمنية التي كانت تعمل في الجنوب السوري، بحسب أحد العاملين السابقين في النشاط الإغاثي، تتحفظ عنب بلدي على اسمه لأسباب أمنية.
وفي منتصف عام 2018، عند اشتداد المعارك في درعا، وازدياد أعداد النازحين واكتظاظ المخيمات، خرجت العديد من المظاهرات على الشريط الحدودي لمطالبة إسرائيل بحماية المنطقة وإدخال النازحين الفارين من النظام وقصفه واعتقاله، لكن دون رد فعل يذكر من الطرف المقابل.
واعتبر طلاع أن المساعدات الإسرائيلية تحمل مؤشرات، إذا ما رُبطت مع استراتيجيتها حيال الملف السوري.
وإلى جانب غاياتها الأمنية والسياسية، وصف طلاع الادعاءات الإنسانية لإسرائيل بأنها “زيف مطلق وسياسة مفضوحة”، فبعد أن اطمأنت على حدودها التي تسيطر عليها المعارضة السورية آنذاك، حاولت استغلال الصورة وتسويقها، لا سيما بعد الانفتاح الذي شهدته بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل.
وفي هذا الأمر جذر استراتيجي يرمي لتشكيل صورة مغايرة عنها بحسب الباحث معن طلاع، إذ استغلت اسرائيل صور “الإجرام والإرهاب” الذي مارسه النظام على الشعب السوري طوال عقد كامل.
كما ابتز النظام المجتمع السوري والمجتمع الدولي بملفات إنسانية كملف المعتقلين وملفات معيشية والحصار والمختفين قسرًا، إذ تهدف تل أبيب إلى “الانسياب السلس” لذهنية السوري.
وهنا مرة أخرى فرضت أوجه الشبه نفسها بين النظام وإسرائيل، بحسب طلاع.
شارك في إعداد هذه المادة مراسلا عنب بلدي في درعا والقنيطرة
–