التهجير.. سلاح روسي غاشم
إبراهيم العلوش
مشاهد المهجّرين الأوكرانيين أعادت للسوريين مشاهد تهجيرهم من بيوتهم، ومن مدنهم، فلحظة سقوط صاروخ أو قنبلة فوق حي سكني، هي لحظة تعود بالسكان إلى العصور الهمجية، وحينها تجد نفسك خارج العالم متروكًا، ومستهدفًا، أنت وأطفالك، وكل تاريخ حياتك الذي بنيته.
إذا كانت الدول الغربية قد استعملت العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، فإن روسيا تستعمل سلاح تهجير الأوكرانيين إلى أوروبا، ومن المتوقع أن يصل عدد المهجّرين إلى أكثر من سبعة ملايين خلال الأشهر المقبلة، وهذا ما سيجعل الاتحاد الأوروبي تحت الضغط الحقيقي للتخلي عن دعم أوكرانيا.
يهدد القصف الروسي المتواصل منذ 24 من شباط الماضي بتهجير المزيد من العائلات الأوكرانية، بعد أن نجح بتهجير حوالي مليون أوكراني خلال أسبوع واحد من بداية الحرب، ويهدد القصف حياة 7.5 مليون طفل حسب إحصاءات الأمم المتحدة، فالأطفال وجدوا أنفسهم وسط الحرب والانفجارات وذعر أهاليهم، فهدايا القيادة الروسية للأوكرانيين قنابل وصواريخ تتساقط بكثافة على امتداد مساحة أوكرانيا البالغة 600 ألف كيلومتر مربع، والكلام العاطفي الذي ساقه بوتين عن الأخوّة الروسية- الأوكرانية لم يجلب للأطفال الألعاب النارية الاحتفالية، ولا هدايا “البون بون”، بل يجلب لهم كل يوم المزيد من الموت، والذعر، والتهجير الذي يستلزم السفر في قطارات مكتظة تستغرق أحيانًا 24 ساعة للوصول إلى حدود الأمان على أبواب أوروبا، وبعضهم قطع مسافات طويلة مشيًا على الإقدام، وفي الغابات، في مشاهد تعيد السوريين إلى مخازن ذكرياتهم عما فعل النظام الروسي بهم مع إيران وخادمهما نظام الأسد.
الحرب الروسية الواسعة النطاق التي تشنها ضد أوكرانيا مشهد ليس غريبًا علينا نحن العرب، فهو إعادة لمشهد احتلال صدام حسين للكويت، وهو تطوير للممارسات الروسية في سوريا منذ العام 2015، فالطائرات الروسية تدربت على قصف المدنيين والبنى التحتية طوال ست سنوات، واستعانت بالميليشيات الطائفية الإيرانية كقوى برّية تسهم في سَوق جحافل المهجّرين باتجاه الحدود التركية، وبالتالي جزئيًا باتجاه الدول الأوروبية التي تتعالى فيها الأصوات يومًا بعد يوم ضد استقبال اللاجئين على أراضيها.
النظريات السياسية التي ينتهجها النظام الروسي القائمة على احتقار المدنيين، والتكتيكات العسكرية تجبر المدنيين على ترك بيوتهم عبر طرق عشوائية، وأحيانًا بطرق آمنة كما فعل الروس في مفاوضاتهم الأربعاء الماضي، حيث سمحوا للأوكرانيين بترك مدنهم عبر طرقات محددة، بينما تستعد الآلة العسكرية الروسية لمحو تلك المدن من الخارطة بحجج واهية لا تختلف كثيرًا عن الحجج التي ساقتها روسيا في سوريا لتبرير الهمجية العسكرية التي هجّرت نصف السكان من بيوتهم حتى الآن!
روسيا التي تجد معظم المجتمع الدولي يقف متحدًا ضد احتلالها لأوكرانيا، وتخضع لعقوبات اقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة، لم تجد نفس رد الفعل الدولي سابقًا على أفعالها المشابهة في سوريا، فالعالم سكت عن همجيتها هناك، ولكن وصول هذه الأفعال إلى حدود أوروبا هيّج المارد الغربي، الذي هيّأ كل قدراته الاقتصادية، والدبلوماسية، والإعلامية، ضد الدكتاتور الروسي الذي يتوهم بقدرته على إعادة إمبراطورية الاتحاد السوفييتي التي انهارت قبل ثلاثة عقود.
الإمبراطورية السوفييتية السابقة تذرعت بالشيوعية للحفاظ على مكتسبات روسيا القيصرية المتمثلة باستعمار الدول المحيطة بها، كما يقول الباحث حسن منيمنة في موقع “الحرة نيوز”. واليوم، تحاول روسيا، وريثة تلك الإمبراطورية، استرجاع نظريات استعمارية مستهلكة من القرن الـ19 لإعادة الاستيلاء على أوكرانيا والدول السوفييتية السابقة عبر حجج المحبة والوطن الواحد.
وكان نظام الأسد قد سبق بوتين بحجج المحبة للشعب اللبناني، و”سوا ربينا”، و”شعب واحد في دولتين”، عندما مهّد الأسد الأب لاجتياح لبنان واحتلالها لمدة 30 عامًا انتهت بطرد جيش الأسد عام 2005 بعد أن رسّخ الجريمة، و”التعفيش”، وعمّق الاختلافات الطائفية، ونشر تجارة المخدرات التي تمتد اليوم إلى سوريا.
العالم اليوم متحد لمعاقبة روسيا على انتهاكاتها في أوكرانيا، ولعل هذا الاتحاد والتصميم يجعل القضية السورية غير مهملة، والضحايا الذين هُجّروا أو سقطوا على أيدي القوات الروسية غير منسيين، فروسيا التي تقف اليوم في قفص الاتهام، وتشرع المحاكم الدولية بالتدقيق على سلوكياتها ضد الإنسانية، غير قادرة على محاربة العالم على كل الجبهات ومنها الجبهة السورية، فالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية، أخرجت روسيا من القرن الـ21، كما يقول يوسف بزي في مقاله الأخير بموقع “المدن”.
رغم العقوبات الشديدة فإن الروس يحاولون التهام أوكرانيا عبر قصف المدن وتهجير السكان، مستعيدين تجربتهم في التهام الجسد السوري التي لا يزالون ينفذونها دون أي رادع قانوني أو أخلاقي. فالتهجير الذي أداره الروس في سوريا بيّن لهم أنه سلاح فتّاك، وسيجبر أوروبا على التخلي عن أوكرانيا بسبب موجات الهجرة الأوكرانية الكبيرة، وهذا ما سيحقق الطموح الروسي ببناء نظام جديد في أوكرانيا شبيه بنظام الأسد، ويستجيب لكل نزوات بوتين المتفاقمة!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :