لماذا توصد فرنسا باب قضائها في وجه العدالة لآلام السوريين
عنب بلدي – صالح ملص
أظهرت محاكمات “الولاية القضائية العالمية” الأوروبية المرتبطة بالنزاع المسلح غير الدولي في سوريا، الحاجة إلى توسيع جهود المساءلة ضد مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، من أفراد السلطة بدمشق، كونها الرهان الدائم، الذي لا يسقط بالتقادم، على أن ثمة عدالة ستتحقق، ولو بحجم بسيط بالمقارنة مع الانتهاكات المتراكمة والصادمة في أغلب الأحيان.
تُمارس الدول ولايتها القضائية على هذه الجرائم على أساس مبدأ الجنسية (للجاني أو الضحية)، أو على مبدأ “الولاية القضائية العالمية خارج الحدود الإقليمية”، وهذا المبدأ يمكّن من محاكمة الجاني بغض النظر عن جنسيته أو جنسية ضحاياه، بشروط معيّنة مثل الوجود أو الإقامة في دولة المقاضاة.
ومنذ 2011، تدفّق لاجئون سوريون بشكل متزايد إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، كان من بينهم أولئك الذين أسهموا بخلق آلام غيرهم بالاعتقال والتعذيب، أدى ذلك إلى جلب هذه الجرائم إلى داخل نطاق القضاء في أوروبا.
إلا أن إجراءات التقاضي في فرنسا، المرتبطة بالجرائم المرتكبة في سوريا، كانت شديدة التعقيد، الأمر الذي عرقل رفع عدة دعاوى ضد أفراد يُشتبه بارتكابهم جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية.
التضييق في التفسير
قرار محكمة “النقض” الفرنسية الصادر في تشرين الثاني 2021، ضيّق اختصاص المحاكم الفرنسية بالجرائم المرتكبة في سوريا، إذ قررت “النقض” أن المحاكم المحلية غير مختصة بما يرتبط بمحاكمة عنصر سابق في المخابرات السورية، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية.
بحسب كتيب مرتبط بآلية ممارسة “الولاية القضائية العالمية” في فرنسا، صادر عن “المركز السوري للعدالة والمساءلة” عام 2019، فإن تطبيق هذه الولاية في البلاد يخضع لشرطين أساسيين، في حال لم يكن الجاني أو الضحية يحملان الجنسية الفرنسية، الأول هو أن يكون المشتبه به موجودًا أو مقيمًا على الأراضي الفرنسية.
أما الشرط الثاني، فيجب أن يكون تكييف الجريمة محل القضية، ضمن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، فضلًا عن التزام فرنسا بملاحقة مرتكبي هذه الجرائم، بموجب اتفاقية دولية، وهي نظام روما الأساسي المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية.
علّلت محكمة “النقض” قرارها بعدم الاختصاص، بأن سوريا لم تعرّف جريمة الحرب أو الجريمة ضد الإنسانية في تشريعاتها، كما يستثني النظام القانوني الفرنسي من اختصاصه الجرائم الدولية التي تُرتكب في أو من قبل مواطني جميع الدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، من بينها سوريا.
أثار هذا القرار مخاوف حقوقيين سوريين من هدم مستقبل آلاف التحقيقات الجارية في فرنسا المرتبطة بسوريا، واُعتبر أن هذا القرار قد يجعل من فرنسا “ملاذًا آمنًا” لمرتكبي الانتهاكات في سوريا.
تسهيل المحاسبة
في شباط الماضي، أعلنت السلطات الفرنسية الشروع في إجراء تغييرات تشريعية، لمنح اختصاص قضائي خارج أراضيها لمحاكم البلاد، في قضايا الجرائم الدولية الأساسية، ما قد يمهّد الطريق لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع في سوريا.
كما اعتمد البرلمان الفرنسي مشروع قانون يجيز التعاون القضائي الدولي بين فرنسا وآلية الأمم المتحدة الدولية المحايدة والمستقلة المكلفة بسوريا، وسيعرض مشروع القانون على مجلس الشيوخ بعد موافقة البرلمان.
إلا أن مشروع القانون “لا يشكّل بحد ذاته إقرارًا أو توسيعًا لاختصاص القضاء الفرنسي للنظر في الجرائم الجسيمة المرتكبة في سوريا”، وفق ما يراه المحامي ومدير المكتب القانوني في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، طارق حوكان، في حديث إلى عنب بلدي.
وذلك بسبب أن هذا الاختصاص “موجود ومنصوص عليه في القانون الجنائي الفرنسي، وكذلك شروط تفعيل هذا الاختصاص، وأهم هذه الشروط وجود المشتبه به على الأراضي الفرنسية لبدء التحقيق، على خلاف القانون الألماني، مثلًا، الذي لا يشترط هذا الشرط لفتح التحقيق”.
والنقطة المهمة في مشروع هذا القانون، بحسب ما قاله المحامي حوكان، هو توسيع التعاون وتبادل المعلومات والأدلة مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة في الاتجاهين مع فرنسا، “بحيث يسمح للمحاكم والهيئات القضائية الفرنسية نقل المعلومات والأدلة التي تتوفر لديها للآلية الدولية، وهو الأمر الذي لم يكن متاحًا إلا بالاتجاه المعاكس”.
يعني ذلك، أن من حق الآلية الدولية تزويد القضاء الفرنسي بما لديها من معلومات وأدلة تتعلق بجريمة تدخل نطاق اختصاص فرنسا.
وبهذا المعنى، يمكن وصف مشروع القانون بأنه “تسهيل إجراءات المحاسبة عن الجرائم المرتكبة في سوريا”، بحسب وجهة نظر المحامي حوكان، وفي نفس الوقت “ليس الإجراء التشريعي المنشود”.
“ما نتطلع إليه هو تعديل القانون الجنائي الفرنسي، بحيث يسمح ببدء التحقيق حتى في غياب المشتبه به استنادًا إلى الولاية القضائية العالمية”، وفق ما أوصى به حوكان، والأهم من ذلك “تصحيح الآثار القانونية الناجمة عن قرار محكمة النقض في دعوى عبد الحميد شعبان لجهة عدم الاختصاص”.
قراران متناقضان
جاء قرار محكمة “النقض” الفرنسية بشأن قضية المتهم عبد الحميد شعبان (32 عامًا) الذي فتح المدعي العام في باريس في شباط 2019، تحقيقًا قضائيًا ضده بتهم ارتكاب أعمال تعذيب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ضمن الفترة الممتدة بين آذار 2011 وآب 2013.
نتيجة التحقيق كانت اتهام شعبان رسميًا بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، وإيداعه الحبس الاحتياطي.
طلب محامي الدفاع عن شعبان الإفراج عن موكله، بحجة عدم توفر الأدلة، فضلًا عن عدم اختصاص المحاكم الفرنسية بإجراء المحاكمة، لأن القانون السوري لا ينص على الجرائم المنسوبة للمتهم.
ردّت غرفة التحقيق في محكمة استئناف باريس الطعن بعدم الاختصاص الذي قدّمه محامي الدفاع، ما يؤكد أن القضاء الفرنسي مختص بمحاكمة شعبان وجميع الحالات المشابهة لجريمته، ورغم عدم الإشارة الصريحة إلى الجرائم ضد الإنسانية في القانون السوري، فإنه يجرّم الجرائم التي تكوّن العناصر الأساسية للجرائم ضد الإنسانية، مثل القتل والتعذيب والأعمال البربرية والحرمان من الحرية الشخصية دون مبرر قانوني، ضمن المادة رقم “534” و”326″ و”555″، من قانون العقوبات السوري.
إلا أن محكمة “النقض”، ذات الدرجة الأعلى، ترى ضرورة ذكر الجرائم الدولية الأساسية صراحة في نص تشريعي في قانون العقوبات السوري.
على خلفية هذا القرار، أرسلت 11 منظمة حقوقية دولية رسالة وُجهت للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تطالبه فيها بـ”ألا تكون فرنسا أرض إفلات الجلادين السوريين من العقاب”، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا.
40 تحقيقًا
“ينظر القضاء الفرنسي الآن في أكثر من 40 ملفًا يتعلق بمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة في سوريا”، وفق ما قاله المحامي طارق حوكان، بعضها يستند إلى “الولاية القضائية العالمية”، عندما تتحقق شروط تفعيل هذه الولاية، خصوصًا شرط وجود المشتبه به في فرنسا.
ومن أبرز هذه الملفات، قضية مجدي نعمة (المعروف بإسلام علوش)، وهو الناطق السابق باسم فصيل “جيش الإسلام”، المتهم بدوره كفصيل مسلح بـ”ارتكاب جرائم دولية ممنهجة” ضد المدنيين الذين عاشوا تحت حكمه، من عام 2013 حتى عام 2018، بحسب “المركز السوري للإعلام وحرية والتعبير”، الذي قدم، في 26 من حزيران عام 2019، بالإضافة إلى عائلات ضحايا تلك التُهم، شكوى ضد “الجيش” على الجرائم التي ارتكبها الفصيل في غوطة دمشق الشرقية.
والقسم الآخر من الملفات التي ينظر بها القضاء الفرنسي تستند إلى “الولاية القضائية الممتدة”، وفق المحامي حوكان.
و”الولاية القضائية الممتدة” مفادها أن تقع الجريمة خارج الإقليم الفرنسي، ولكن أحد أطراف الدعوى (الضحية أو الجاني) يحمل الجنسية الفرنسية، كما هي الحال في قضية المواطنين الفرنسيين من أصول سورية، مازن وباتريك عبد القادر الدباغ، اللذين اعتقلا من قبل إدارة “المخابرات الجوية” في سوريا عام 2013، واختفيا حينها قبل أن تعلم العائلة مقتلهما تحت التعذيب.
قضية “عائلة الدباغ“ كما درجت تسميتها، صدرت خلال سياق التحقيقات فيها مذكرة اعتقال دولية لثلاثة مسؤولين في أجهزة المخابرات لدى النظام السوري، أبرزهم رئيس “مكتب الأمن الوطني”، علي مملوك، بتهمة التواطؤ في جرائم حرب.
كما تدخل ضمن “الولاية القضائية الممتدة”، دعوى قصف قوات النظام السوري المركز الإعلامي في بابا عمرو بمحافظة حمص، وسط سوريا، ومقتل المصور الفرنسي ريمي أوشليك، في 22 من شباط 2012، بسبب ذلك الهجوم العسكري، الذي قُتلت خلاله أيضًا الصحفية الأمريكية لدى “صنداي تايمز” ماري كولفين.
وهناك ملفات ينظر فيها القضاء الفرنسي استنادًا إلى “الولاية القضائية الممتدة”، لكون المشتبه به أو أحد المشتبه بهم يحمل الجنسية الفرنسية، كما هي الحال في دعوى شركة “لافارج” للأسمنت، ودعوى رجل الأعمال الفرنسي من أصول سورية صلاح حبيب، الذي اعتقلته السلطات الفرنسية، في 27 من كانون الأول 2021، بتهمة تزويد النظام السوري بمواد لتصنيع أسلحة كيماوية من خلال شركة للشحن يملكها معاقَبة أمريكيًا منذ عام 2016.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :