عنب بلدي – حسام المحمود
تعيش محافظة إدلب، في الشمال السوري، واقعًا اقتصاديًا معقدًا، فرضه تضافر عوامل سياسية واقتصادية ترسم للمحافظة الخارجة عن سيطرة النظام السوري وجهًا مختلفًا عن بقية المناطق السورية.
ارتهان أسعار السلع والمنتجات بسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة التركية، التي فقدت بعض قيمتها المالية خلال الأشهر الأخيرة، وتضخم وغلاء الأسعار، والبطالة، وانخفاض مستوى الأجور، تلك بعض المشكلات التي يواجهها الواقع المالي في إدلب، وتلقي بظلالها على مختلف جوانب حياة الأهالي.
وبالنظر إلى منطقة تواجه تحديات وعقبات، أبرزها الكثافة البشرية الكبيرة ضمن المنطقة التي حوّلها القصف و”تسويات النظام” إلى خزان بشري كبير، تسعى المنطقة لتأمين استقلالية اقتصادية، عبر فتح بوابات إنعاش اقتصادي، ترتبط بتطوير الصناعة والتجارة، إلا أن المنطقة تشهد شبه غياب لقطاع البنوك والمصارف، ما يثير تساؤلات حول هذا الغياب وأثره على أي خطة لتحسين الاقتصاد.
وتوجد تجربة يتيمة اتخذتها “هيئة تحرير الشام” لتنظيم سوق الصرافة في إدلب، حيث حولت “الهيئة”، في حزيران من عام 2018، شركة “الوسيط” للحوالات المالية، إلى بنك مالي باسم بنك “الشام”، ليحل بموقعه محل “البنك الصناعي” سابقًا.
البنك ضرورة في إدلب؟
الدكتور في الاقتصاد والباحث فراس شعبو، أكّد في حديث إلى عنب بلدي، أن الوضع في إدلب يفتقر لكثير من الشروط التي يتطلبها افتتاح بنك أو مصرف في المحافظة.
وأوضح شعبو أن افتتاح بنك يتطلب وجود جهة ناظمة، تنظم عمله، وعمليات تحديد أسعار الفائدة، والاحتياطي القانوني، والإيداع القانوني، إلى جانب آليات الإقراض، ويعني ذلك الحاجة إلى سلطة نقدية مشرفة على عمل البنوك.
وفي غياب هذه السلطة لا يمكن القول إن هذا “بنك”، في حال افتتاح منشأة تحت هذا الاسم، بل هو ربما مكتب صرافة، باعتبار أن البيئة في إدلب تفتقر لأدنى مقومات الأمان التي يمكن عبرها إقناع رؤوس المال بضخ أموالهم في السوق، أو إقناع السلطات بحماية الأموال.
وقال الباحث الاقتصادي إن “رأس المال جبان”، ويبحث عن الاستقرار، فلن يأتي بنفسه وأمواله إلى “بؤرة غير مستقرة أو آمنة”، يطغى عليها قصف قوات النظام والروس، وحالة انفلات أمني داخلي واضحة للعلن.
وتواصل قوات النظام السوري استهدافها المتكرر لمناطق مدنية وحيوية في إدلب، إذ قُتل، في 27 من شباط الماضي، شخصان وأُصيب اثنان آخران بقذائف مدفعية استهدفت سوق بلدة آفس، شرقي إدلب، وفق ما وثقته فرق “الدفاع المدني السوري”.
كما يواصل النظام عبر مسؤوليه، الحديث عن “استعادة إدلب”، وآخر تلك التصريحات كان على لسان وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في لقاء مع قناة “RT” الروسية، في 20 من شباط الماضي.
ولا تقتصر الهجمات على الاستهدافات التي يشنها النظام مدعومًا بالروس، ما يعكر صفو الأمان اليومي والاجتماعي في المنطقة، بل توجد أيضًا عمليات قتل، وعثور على جثث مجهولة الهوية، مع اتساع رقعة التفجيرات التي أودت بحياة مدنيين ومسلحين، وعناصر من الجيش التركي أيضًا.
وفي 20 من شباط الماضي، شهدت المنطقة مقتل طفلين خنقًا بعد ساعات من اختطافهما، في مخيم “الوفاء” بأطمة، شمالي إدلب.
الباحث الاقتصادي يستبعد افتتاح “بنك فعلي” في إدلب، في ظل غياب وجود جهة يمكن أن تحميه، وغياب الخدمات، موضحًا في الوقت نفسه، أن من الممكن إقامة مدن صناعية ومعارض تجارية، وهو أمر مقبول لتنشيط الحركة الاقتصادية، أما البنوك فالموضوع بعيد، أمام غياب “سلطة حقيقية” لفض النزاعات.
عنب بلدي تواصلت مع حكومة “الإنقاذ”، واستفسرت حول صلة “الحكومة” ببنك “الشام”، وما إذا كانت هناك طلبات مقدمة أو قدمت في وقت سابق لافتتاح مصرف أو بنك في المنطقة، وآلية الترخيص، وما تحتاجه المنطقة لإقامة بنوك فبها، لكنها حصلت على رد مقتضب ومتأخر، لم يجب عن كل الأسئلة، على لسان مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد والموارد التابعة لحكومة “الإنقاذ”، حمدو الجاسم، الذي أوضح أنه لا وجود في إدلب لبنك بمعنى الكلمة.
وقال الجاسم إن الموجود اليوم عبارة عن شركات حوالات وصرافة تشرف عليها “المؤسسة العامة للنقد”. وأوضح أن باب التراخيص مفتوح ضمن الشروط المحددة مسبقًا والتي تتجلى بتحديد طريقة التعاون التي سيتعامل بها والمشاريع وسياستها التي ستقوم بتمويلها، وآلية منح القروض ومبدأها، على أن تكون مطابقة للشريعة الإسلامية بطريقة التعامل فيه والتداولات أيضًا. |
الحاجة منخفضة
ورغم بروز ملامح تحسن اقتصادي، عبر التجارة وافتتاح المصانع، فإن الوضع المالي ضعيف، وفق شعبو، الذي لفت إلى تحكّم مكاتب وشركات الصرافة بالوضع المالي في الشمال دون رداع.
كما يشكّك الباحث الاقتصادي بثقة الناس ورغبتهم فعلًا بوضع أموالهم في بنك موجود اليوم ضمن إدلب، متسائلًا عن قدرة البنك على منح القروض، وضمانات تسديدها، أمام غياب أنظمة وقوانين وتشريعات تحكم عمل قطاع من هذا النوع، ما يجعل الأمر بعيدًا في المدى المنظور.
الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر، أوضح لعنب بلدي، أن البنوك عادة ما تكون وطنية محلية أو فروعًا لبنوك أجنبية، لكن البنوك الأجنبية لا ترغب بافتتاح فروع لها في إدلب بالوقت الراهن، لعدم وجود شرعية دولية لحكومة “الإنقاذ”.
وفي غياب الشرعية لا يمكن تحويل الأموال المصرفية بحرية تامة، إضافة إلى أن الوضع الاقتصادي والأمني غير مستقر، وبالنسبة للبنوك المحلية الوطنية، فالمستثمرون لا يرغبون بالاستثمار في القطاع المالي لذات الأسباب.
وفيما يتعلق بحاجة المنطقة إلى البنوك، فأي اقتصاد صغير أو كبير بحاجة إلى خدمات مالية، ولكن الحاجة لخدمات التمويل الصغير والمتناهي الصغر، تعد الأكثر أهمية بالنسبة للمنطقة مقارنة بالخدمات المالية التقليدية.
أما واقع المنطقة ونشاطها المالي والاقتصادي، فالوضع الأمني المتردي يؤثر بشكل مباشر على فرص تطور النشاط الاقتصادي والمالي، وفق السيد عمر.
وتعد حاجة إدلب إلى خدمات التمويل الصغير ملحة جدًا، برأي الباحث الاقتصادي، فلا يمكن البدء بأي أنشطة للتعافي المبكر دون دعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وهذا الدعم يقدم من خلال مؤسسات التمويل الصغير، لذلك فالحاجة لمؤسسات التمويل التقليدية المتمثلة بالبنوك التجارية تعد منخفضة.
وتتجه “هيئة تحرير الشام” لتنفيذ محاولات في سبيل تنظيم الحركة المالية، وعمليات الصرافة ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات، فشكّلت ما يعرف باسم “المؤسسة العامة لإدارة النقد” في محافظة إدلب، شمال غربي سوريا، في 11 من أيار 2017، وذلك بعد إعلان الهيئة عن تأسيس “المؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك”.
والغرض من المؤسسة إدارة حركة النقد ضمن “المناطق المحررة”، في سبيل متابعة عمل شركات الصرافة والحوالات المالية، ومنح تراخيص لجميع شركات الصرافة والحوالات المالية في تلك المناطق.
محاولات
أنشأت “هيئة تحرير الشام” بنك “الشام”، عام 2018، إثر تحويل شركة “الوسيط” للحوالات المالية، التي كانت تديرها، إلى بنك مالي، ويعمل البنك على استقبال الحوالات المالية الخاصة بشركة “وتد” للمحروقات، التي “تنفي (هيئة تحرير الشام) صلتها بها”، وذلك عبر شراء الكازيات وإيداع المبالغ المالية المكونة من سعر المحروقات في حساب “وتد” لدى البنك، إلى جانب شراء العملة الأجنبية (الدولار الأمريكي)، دون بيع هذه العملة فيما بعد.
ورغم وجود 11 فرعًا لمؤسسة البريد والشحن التركية (PTT)، التي تُعد بمنزلة بنك تركي بالشمال السوري، موزعة على ريف حلب الواقع تحت سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة”، فإنه لا يوجد أي فرع للمؤسسة في مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ”.
وتوفر مراكز البريد التركي في ريف حلب، إمكانية فتح حسابات شخصية بنكية، تتيح للمواطن إيداع أمواله فيها أو سحب المبالغ المودعة في أي وقت.
ومن خلالها يمكن تسليم معاشات الموظفين، إذ مُنح الموظفون في تلك المناطق، من معلمين وشرطة وموظفي مجالس وأطباء وخطباء، بطاقات مصرفية لسحب رواتبهم، بالإضافة إلى خدمات الحوالات النقدية والشحن الخارجي.
عنب بلدي استطلعت آراء مجموعة من المواطنين المقيمين في إدلب، فانقسمت آراؤهم حول جدوى وجود بنك في إدلب من عدمها، فبعضهم اعتبر الحديث عن بنك في إدلب رفاهية، أمام احتياجات خدمية ومعيشية أكثر إلحاحًا بالنسبة للأهالي، بينما اعتبر البعض الآخر وجود البنك حاجة ضرورية، في ظل ارتفاع الكثافة السكانية في المنطقة.
ولفت بعض المواطنين إلى الحالة الاقتصادية الصعبة التي تدفع الأهالي للتفكير بقوت يومهم لا بإيداع وجمع الأموال.
وحول حالة الثقة ببنك في إدلب، أكد بعض الأهالي عدم رغبتهم بالإيداع في البنك مستقبلًا في حال كان متاحًا، بينما أشار آخرون إلى إمكانية التعامل معه في حال كان مرخصًا ويمتلك أصولًا مالية في الخارج.
عنب بلدي تواصلت مع حكومة “الإنقاذ”، للوقوف على تفاصيل عمل بنك “الشام” في مناطق سيطرتها، وعوائق إقامة بنوك ومصارف أخرى، وآلية ترخيص البنوك، والعلاقة بين الواقع المالي والتجاري في المنطقة، لكنها لم تتلقَّ إجابة حتى ساعة إعداد هذه المادة.