“رقية شرعية” يديرها مشعوذون وتشرعنها سلطات الأمر الواقع بإدلب 

  • 2022/03/06
  • 10:01 ص

الرقية الشرعية (صورة تعبيرية)

عنب بلدي – لجين مراد

“النصيحة الأولى التي تلقيتها عند التعبير عن شعوري بالألم الشديد في رأسي (راجعي شيخ)”، بهذه الكلمات بدأت كناز (25 عامًا) قصتها بالتعرض للاستغلال في مراكز يدّعي العاملون بها أنها دور لـ”الرقى الشرعية”.

في مجتمع غابت عنه منهجية التعليم لسنوات، وسيطر الفقر والحاجة على معظم أبنائه، وتركت الحرب شروخًا كبيرة داخله، وجدت المعتقدات الخاطئة وأصحابها فرصة للتغلغل بين أبنائه، واستغلالهم ماديًا وفكريًا.

تنتشر في مدينة إدلب وريفها شمال غربي سوريا، مراكز يدّعي العاملون بها أنها لمعالجة الأشخاص المصابين بـ”مس الجن”، بقراءة آيات من القرآن والسنة النبوية، بينما يجرون داخل هذه الدور ممارسات أشبه بالشعوذة، مثل “طمش” عيون المريض، وصبّ الماء أو تعريضه للضرب بحجة “إخراج الجني”.

“شعوذة” باسم الدين

“طمش عيني، وضع قدمي بالماء ووجهني لأضع الهاتف على أذني، بينما كان يردد بهمس ما ادعى أنها آيات من القرآن”، تصف كناز، التي تحفظت على ذكر اسمها الكامل لأسباب اجتماعية، الممارسات التي تعرضت لها خلال زيارتها لإحدى دور “الرقية الشرعية”.

وتابعت كناز بنبرة ساخرة، “خلال جلسة (الرقية)، قال الراقي بعد أن نزع العصابة عن عيني، (في المرة الأولى حرقنا الجني بالماء، وهذه المرة دخل الجني الإسلام وذهب إلى السعودية)”.

وبحسب ما رصدته عنب بلدي، لم تكن كناز الوحيدة التي تعرضت لمثل هذه الممارسات، إذ ضجت إحدى الدور بصراخ المريض خلال جلسة علاجه جرّاء تعرّضه للضرب، بينما زعم “الراقي” أن “الجني” هو من يتألم الآن.

أحد العاملين في هذا المجال ويدعى “أبو حمزة” (45 عامًا)، قال لعنب بلدي، إن “الرقية ” تنقذ الأهالي في ظل انتشار “السحرة” الذين ينشرون سحرهم عن طريق الطعام والشراب وداخل البيوت.

“الجني يمكن أن يمس الإنسان بعد سكب الماء الساخن في البالوعة (تجويف لتصريف المياه الآسنة)، لأنه تعرض للأذى، أو لأنه عشق الإنسان، وهذا ما يتطلب وجود مثل هذه الدور للحفاظ على سلامة الأهالي”، يبرر “أبو حمزة” وجود هذه الدور في المنقطة.

وبالحديث عن الممارسات داخل هذه الدور قال “أبو حمزة”، إن كل ما يجري داخل الدور تحكمه “الشريعة”، مثل دهن “الممسوس” بالزيت والنفخ في ماء شربه، وغيرها من الممارسات التي ادعى أنها خالية من الاعتقادات الخاطئة والشعوذة.

الرقية الشرعية: تلاوة آيات من القرآن على المريض، دون الخوض بأي ممارسات أخرى، طلبًا للشفاء.

الشيخ مصطفى الحامض

من معتقد خاطئ إلى عُرف

انتشر تصديق هذه المعتقدات الخاطئة في المجتمع، وتحولت من معتقد خاطئ ينكره البعض ويؤمن به آخرون، إلى عرف في المجتمع.

“كرر معظم الأشخاص حولي نصيحة الذهاب إلى إحدى (دور الرقية) حتى آمنت بأنها الحل الوحيد لمشكلتي”، تشتكي كناز من أن كلام المجتمع جرّها وراء الشعوذة.

وتشكّل ثقافة المجتمع تأثيرًا كبيرًا على حياة الفرد، إذ إن تحوّل المعتقدات الخاطئة إلى فكر شائع في المجتمع، يمكن أن يجبر الفرد على اتباعها، وفق ما قاله الباحث والاختصاصي بعلم الاجتماع صفوان قسام، لعنب بلدي.

وأضاف قسام، أن تكرار الفكرة يسهم بتوجه أبناء المجتمع، موضحًا أن الفرد حين يُقابل بدعوات من العديد من الأشخاص حوله، يمكن أن يتجه نحوها (الفكرة) حتى إن تعارضت مع أفكاره.

ممارسات تلبي حاجة الناس

يعاني أهالي إدلب من نقص كبير في مقومات الحياة الأساسية، في ظل تدهور الوضع المعيشي، وضعف المستوى التعليمي، واستمرار أثر النزاع على حياتهم، ما يجعلهم في حالة خوف وعدم استقرار بشكل شبه يومي.

ويعزّز خوف أبناء المجتمع من الأشياء التي يعتبرونها خارج نطاق إدراكهم وقدرتهم على الاستيعاب، مثل أمور السحر والجن والشعوذة.

“لم يكن الألم معاناتي الوحيدة، إذ تحوّل حديث (الراقي) عن (مس الجن) إلى خوف دائم من حقيقة الأمر”، توضح كناز سبب تكرار زيارتها لـ”الراقي”.

بينما يدّعي “أبو حمزة”، أن “دور الرقية الشرعية باب لراحة الناس”، موضحًا سبب توجه العشرات يوميًا لهذه الدور.

وقال الباحث والاختصاصي بعلم الاجتماع صفوان قسام، إن ممارسي هذه الشعوذات يعتمدون على حاجة الناس الدائمة إلى الشعور بالأمان والطمأنينة.

وأوضح قسام، أن هؤلاء الأشخاص يستفيدون من شعورين، “الخوف والطمأنينة”، خوف الإنسان من “الماورائيات” مثل الجن، وشعوره بالطمأنينة جرّاء إيمانه بأن ممارسة “الراقي” استطاعت تسخير الخوف لمصلحته.

كما اعتبر الباحث الاجتماعي محمد السلوم، الذي استشارته عنب بلدي في المسألة، أن عجز الناس عن حل مشكلاتهم سببه الوضع المعيشي والجهل، ما يدفعهم للبحث عن حلٍّ مرضٍ بما بتناسب مع قدراتهم المادية والثقافية.

“لا تقتصر حاجة الناس إلى الروحانيات على معتقداتهم وإيمانهم، إذ يشكّل وضعهم الاجتماعي دورًا أساسيًا باللجوء للشعوذة”، قال السلوم.

الطب غائب

لم تجد كناز من يوجهها لزيارة الطبيب وإجراء الفحوصات للاطمئنان على صحتها، لكنها وجدت الكثير من الآراء التي اعتبرت هذه الدور، العلاج الأفضل لكل عرَض شعرت به.

“كان الألم لا يُحتمل، وكنت بحاجة إلى حل سريع ومُجدٍ، والنصيحة الأولى التي تلقيتها عند التعبير عن شعوري بالألم الشديد في رأسي (راجعي شيخ)”، توضح كناز سبب توجهها لـ”الراقي” قبل زيارة الطبيب.

“وجدت أن جلسات العلاج غير مُجدية، بل كان التوتر الذي شعرت به خلال الجلسات أحد عوامل زيادة الألم، حينها قررت زيارة الطبيب”، لتدرك أنها مصابة بمرض “الشقيقة”، أحد أشكال الصداع النصفي، تابعت كناز.

وأضافت، “شعرت براحة نفسية حين أخبرني الطبيب بتشخيص حالتي، إذ إنه حمل عن عاتقي ثقل الخرافات، وتمنيت لو أن شخصًا واحدًا أرشدني للمكان الصحيح منذ البداية”، في إشارة إلى عيادة الطبيب الذي شخّص مرضها.

بدوره، قال الباحث الاجتماعي محمد السلوم، إن عجز الناس عن الوصول إلى الدواء المناسب، وصعوبة مراجعة العيادات الطبية بسبب ضعف قدرتهم المادية، هو واحد من أبرز عوامل انتشار المعتقدات الخاطئة والشعوذة.

“عند معرفتنا بحاجة شخص إلى دواء معيّن، كنا نضطر لتقديمه إليه عن طريق أحد المشايخ”، قال الباحث والاختصاصي بعلم الاجتماع صفوان قسام، موضحًا أن لرجال الدين أحيانًا سلطة على المرضى أكبر من سلطة الأطباء.

المعتقدات الخاطئة والصحة النفسية

يجهل المجتمع، أحيانًا، أهمية الصحة النفسية ودورها في حل العديد من مشكلاتهم اليومية، لأسباب مرتبطة بالمعتقدات الدينية أو الجهل أو الخوف من نظرة الآخر.

“لا تقتصر المعتقدات الخاطئة حول الطب النفسي على فئة واحدة من المجتمع، إذ إنها تتأثر بالمعتقدات الدينية وثقافة المجتمع بأكمله”، قال الطبيب النفسي المقيم في تركيا جلال نوفل، لافتًا إلى النظرة السلبية لمعظم أبناء المجتمع السوري تجاه الطب النفسي.

وأوضح نوفل، في حديث إلى عنب بلدي، أن تراجع المستوى التعليمي والتماسك الاجتماعي والفهم العقلاني في المجتمع السوري، إلى جانب تراجع كمّ ونوع مؤسسات الصحة في البلاد، دفع الناس للتوجه إلى مواردهم المحلية المألوفة (رجال دين، خزعبلات، جهات تدّعي الاختصاص بالعلاج النفسي)، والتي تؤدي إلى مفاهيم وأساليب خاطئة.

ولا تتعارض “الرقية الشرعية” مع العلاج النفسي، بل إن واحدة من أبعاد الصحة النفسية، الاستفادة من الممارسات غير الضارة المنتشرة بين عوام الناس، وفق نوفل.

وأضاف نوفل أن “الرقية الشرعية” حين يدخل بها أي ممارسات غير قراءة القرآن، تصبح غير مُجدية، ومن الممكن أن تتحول إلى أذى جسدي أو نفسي.

واعتبر الباحث والاختصاصي بعلم الاجتماع صفوان قسام، أن الجهل بالأمراض والاضطرابات النفسية يدفع الناس للجوء إلى من يسمون أنفسهم بـ”المشايخ”، ليخدعوا الناس بممارسات تتعارض مع الدين.

وأكّد الطبيب موفق عموري، العامل في مدينة إدلب، أن العديد من مرضاه أخبروه عن تعرّضهم للاستغلال من قبل أشخاص بصفة “شيخ”، لكنهم يمارسون الشعوذة، وفق تعبيره.

وأضاف في حديث إلى عنب بلدي، أن ثقافة المجتمع تعتبر أعراض الأمراض النفسية “مس جن”، أو سحرًا، أو “صيبة عين”.

كما ترتبط مراجعة الطبيب النفسي بـ”الجنون”، ما يدفع العديد من الأشخاص لتجنب زيارته، وفق عموري.

وأشار عموري إلى أن بعض “الشيوخ” يوجهون المرضى لعيادات الطب النفسي، لكنها نسبة قليلة مقارنة بالعشرات الذين يستغلون ذلك لممارسة السحر والشعوذة.

الاضطرابات النفسية: مزيج من الأفكار والتصورات والعواطف والسلوكيات الشاذة والعلاقات غير الطبيعية مع الآخرين.

تشمل الاضطرابات النفسية: الاكتئاب، الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، الفصام والاختلالات العقلية الأخرى، الخرف، العجز الذهني، اضطرابات النمو، بما في ذلك التوحد.

وتعتبر إتاحة الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية القادرة على توفير وسائل العلاج والدعم الاجتماعي من أبرز طرق التغلب على الاضطرابات النفسية.

منظمة الصحة العالمية

“سرقة باسم الدين”

رغم إيمان الأشخاص الذين تحدثت إليهم عنب بلدي بأهمية وجود هذه الدور، أقرّ معظمهم أن العشرات من العاملين بهذه الدور استغلوا عملهم للسرقة باسم الدين.

وبحسب ما رصدته عنب بلدي، تتفاوت طلبات هؤلاء الأشخاص، إذ يطلب بعضهم نقودًا مقبل خدماتهم، بينما يطلب آخرون هدايا تختلف قيمتها من شخص لآخر.

“في زيارتي الأولى أخذت تمرًا وفواكه بحسب توصية الجيران، وفي المرة الثانية نصحتني إحداهن بوضع النقود تحت الوسادة”، قالت كناز، مؤكدة أنها تعرضت للسرقة دون أن تعي ذلك.

واعتبر “أبو حمزة” الأجر الذي يتلقاه، ويبلغ 25 ليرة تركية، حقه الطبيعي، مبررًا ذلك بأنه وكثيرين غيره، متفرغون بشكل كامل لمساعدة الناس من خلال الرقية.

بغطاء “الإنقاذ” و”الهيئة”

يطغى على مدينة إدلب وريفها طابع ديني، جرّاء سيطرة “هيئة تحرير الشام” على المنطقة باسم “الشريعة الإسلامية”، ليفرض عناصرها أفكارًا يصفها البعض بـ”المتشددة”، باعتبارهم حرّاس “الفضيلة”.

وتدعم حكومة “الإنقاذ”، شريكة “الهيئة”، الأفكار والممارسات المتشددة، إذ تعتبر وزارة الأوقاف التابعة لـ”الهيئة” المسؤول الأول عن “دور الرقية”، بحسب ما رصدته عنب بلدي.

وقال “أبو حمزة”، إن هناك أجرًا محددًا من قبل الأوقاف، للعاملين بهذه الدور، مضيفًا أن جميع العاملين بمجال “الرقية” يخضعون لاختبارات من قبل الوزارة.

وتواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ” للحصول على توضيح، إلا أنها لم تتلقَّ ردًا منها.

بين الشريعة والقانون

الدكتور محمد حبش، مؤسس ومستشار مركز “الدراسات الإسلامية”، ومؤسس رابطة “كتّاب التنوير”، قال لعنب بلدي، إن أي ممارسات تدّعي التعامل مع الجن، مخالفة شرعية ولا أصل لها في الدين.

وأضاف أن كل ما يقال حول التعامل مع الجن وطردهم بالتمائم والممارسات الخاطئة، هو لون من الجهل، ولا يمكن اعتباره بابًا من العلم، أو مهنة مشروعة.

بالمقابل، يجرّم القانون السوري من يتعاطى بقصد الربح، مناجاة الأرواح، والتنويم المغناطيسي، والتنجيم، وقراءة الكف، وقراءة ورق اللعب، وكل ما له علاقة بعلم الغيب، بغرامة مالية.

كما يعاقب من يكرر ارتكاب هذا الجرم بالحبس، ويمكن إبعاده في حال كان أجنبيًا، وفق المادة “754” من قانون العقوبات السوري.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع