عنب بلدي – حسام المحمود
“يلا تنام، يلا تنام، لأدبحلك طير الحمام”، وبين الإغراء بذبح الطير في بلد ما، وإهدائه للطفل حيًا في بلد آخر، تتمحور أغنيات الأطفال في دول بلاد الشام، مع وجودها في بلدان المشرق العربي أيضًا، ولكن بكلمات مختلفة، تتفق على اختلافها بقصر الجملة، وازدحامها بالوعود في سبيل تنويم الطفل.
ويسمى هذا النوع من الغناء بـ”التهويدة”، وتعني الأغنية الهادئة التي تغنيها الأم للطفل، وتقوم على التكرار، وتبسيط الإيقاع والكلام، بما يستميل خيال الطفل.
“التهويدة”، نوع موسيقي يقدّم بأصوات الأمهات لأطفالهن قبل النوم، بما يبعث على السكينة والاستسلام لسلطان النوم لأكثر من اعتبار، لا تبدأ بارتباط الطفل بصوت أمه، ولا تنتهي بالحالة الموسيقية الهادئة وغير الفائرة التي تقدّمها تلك الأم.
وافتتح العراق تاريخيًا عالم “التهويدة”، بمجموعة “تهويدات” أنتجتها الحضارة السومرية، خاطبت خلالها المرأة السومرية النوم وتوسلت إليه ليزور جفني طفلها، وفق ما ذكره الباحث الأمريكي المتخصص في التاريخ السومري واللغة السومرية صموئيل نوح كريمر، في كتاب “التاريخ يبدأ في سومر”.
وفي إحدى تلك “التهويدات”، التي يعود تاريخها لنحو خمسة آلاف عام، تخاطب المرأة السومرية النوم، وتملي عليه “ضع يدك على عينيه المكحلتين، وبالنسبة للسانه الذي لا ينقطع من التصويت، فأمسك به ولا تدعه يوقظ العينين”.
وتركت “التهويدة السومرية” رواسب لغوية باقية في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، عبر تحوير بعض المصطلحات والمحافظة عليها، مع بعض الانزياح اللغوي الذي يفقد الكلمة معناها الأصيل، فترد في إحدى تلك “التهويدات” التي كُتبت لـ”شولجي”، وهو ابن لأحد النبلاء السومريين، عبارة “أوسا نانو”، أي “تعال يا نوم”، وتتكرر كلمة “نانو” التي تحولت باللهجة الخليجية مع الزمن إلى “ناني”، وفي ليبيا وتونس إلى “نني”.
رقيقة في الشام ومصر
تتفق “التهويدة” في بلاد الشام ومصر أيضًا على المعنى، إلى جانب تقارب المصطلحات بسبب تشابه اللهجات نوعًا ما، وفي لبنان، غنّت الفنانة اللبنانية، فيروز، “التهويدة” لابنتها ريما، من كلمات وألحان الأخوين رحباني.
وتقول الأغنية “يلا تنام، يلا تنام، لأدبحلا طير الحمام، روح يا حمام لا تصدّق، بضحك عا ريما تتنام”.
وفي الأغنية نفسها الكثير من المعاني اللطيفة والرقيقة التي تصف شعر الطفل وجماله، وتتمنى له الأشياء اللطيفة، والتي يربطها “الأخوان رحباني” بالصلاة والصوم والعافية المستمرة.
وقدّم الفنان اللبناني مارسيل خليفة، في وقت سابق، أغنية باسم “قمر المراية” سارت على خطى “التهويدة”، دون أن تترسخ بالمفهوم الشعبي كأغنية من الأم لطفلها، وإن كانت تحمل تلك المعاني.
وتتكرر الأغنية ذاتها في سوريا أيضًا، وفلسطين، مع إضافة تقدّمها “التهويدة” الفلسطينية على النص، فتغري الطفل بمنحه طير الحمام، لا ذبحه مثلًا، لكنها تتفق مع “نسخة فيروز” بوصف الطفل وكيل المشاعر، فتقول “التهويدة” في فلسطين، “شعره نازل على جبينه، روحي وعمري بهدي له”.
وتكرر الأمهات في مصر نفس مطلع “تهويدة” بلاد الشام، مع فارق في اللهجة، وحجم ما يعتبرنه “مكافأة”، فبدلًا من الإغراء بذبح طائر (وهي خدعة تعترف الأمهات بها بعد جملة واحدة من التهويدة)، تحكي المرأة المصرية عن “جوزين حمام”، أي أربعة طيور.
حزينة في العراق
“يمة هب الهوى واندكت الباب، ترا حسبالي يا يمة خشّة أحباب، يمة أتاري الهوى والباب كذاب”.
هذا مقطع مما تغنيه المطربة العراقية الراحلة وحيدة خليل، ضمن “تهويدة”، أو كما يسميها العراقيون “ليلوّة”، تبعث بالكلمات ومعانيها على الأسى والشكوى ممن يدرك لمن لا يدرك، في حالة نجوى موسيقية لا يمكن تأكيد القول إن ما يراد بها تنويم الطفل، مقدار ما فيها من رغبة بالبوح وبث الشكوى.
وفي “التهويدة” نفسها، تبدأ المطربة العراقية بالافتتاحية المألوفة لدى العراقيين، والتي تشكّل عاملًا مشتركًا بين أكثر من “تهويدة” أعاد توزيعها فنانون عراقيون، من بينهم الفنان رحيم الحاج، الذي قدّمها بمقطوعة موسيقية على العود دون أن يغسل عنها شيئًا من حزنها.
“دللول يا ابني دللول، يمة عدوك عليل وساكن الجول”، وهناك ترجو “التهويدة” للطفل إبعاده عن الأذى، عبر تمني المرض لعدوه وسكناه في مكان بعيد أجرد.
ترتبط “التهويدة العراقية” إلى حد بعيد بالمنتج الغنائي والموسيقي العراقي الذي يغلب عليه الطابع الحزين والبكائي، ليس بالكلمات والموسيقا فحسب، بل وبطبيعة الأصوات المطواعة للأغنيات التي تندب قلة الحظ وتعثره، وعدم تصالح الواقع مع ما يتمناه المرء، في عملية تشبه إلى حد بعيد حالة الرثاء، فيرثي المغني نفسه، أو الآخرين، أو الحب، أو البلاد وواقعها.
وتعتبر العلاقة العراقية بالحزن علاقة تاريخية تتصل بمعاناة الشعب ومأساته المتواصلة منذ مقتل الحسين، كما يرى الشاعر السوري الراحل نزار قباني، الذي قال ضمن قصيدته التي رثى خلالها زوجته بلقيس الراوي، “عندنا كل الجنائز تبتدي في كربلاء، وتنتهي في كربلاء”.
كما ينسجم الشاعر العراقي مظفر النواب مع حالة الحزن الطاغية على المنتج الثقافي والإبداعي في بلاده، ويتجلى ذلك بوضوح في مطلع إحدى قصائده التي يقول فيها “الحزن جميل جدًا، والليل عديم الطعم بدون هموم”.
وكأن المرأة العراقية تشارك تلك الجمالية (بمفهوم النواب)، مع طفلها في الليل، فتغني له حزين الأغنيات، وهو ما أكده الموسيقي العراقي نصير شمة، في مقابلة أجرها عام 2012، اعتبر خلالها أن الحزن بالنسبة للعراقيين حالة متراكمة.
وبحسب بحث صادر عن جامعة “البصرة” عام 2020، فإن للموسيقا دور إيجابي في تنمية المدركات الحسية لدى الطفل، ما يجعل الدماغ يشعر بالاسترخاء والتركيز، باعتبار أن الطفل إنسان مزاجي لا يفهم ما يحيط به، ما يجعله قلقًا، فتأخذ الأغنية دور المشجع للتغلب على حالة القلق والتوتر لديه.
تأثير “التهويدة”
حول الأثر الذي تتركه “التهويدة” في الطفل، باعتبارهًا تكوينًا غنائيًا خالصًا مصممًا أصلًا للأطفال بصورته الأولى، تشير دراسة بريطانية إلى جدارة “التهويدات” التي تغنيها الأمهات للأطفال، بالتخفيف من وطأة ألم الطفل أو قلقه.
وبحسب الدراسة التي عاينت مجموعة أطفال دون سن الثالثة، قبل خضوعهم لعمليات زراعة قلب، جرى رصد معدل ضربات القلب، ومدى الإحساس بالألم بعد الاستماع إلى “تهويدات معروفة”، ليتضح أن من استمعوا إلى الأغنيات انخفض لديهم معدل الألم مقارنة بضربات القلب.
البروفسور في جامعة “روهامتون” وأحد معدي الدراسة ديفيد هارجريفز، يؤكد أن “التهويدات” لا تهدئ الأطفال فقط، بل تؤثر عليهم من الناحية الفسيولوجية أيضًا، مضيفًا أن مما لا شك به أن العلاج بالموسيقا مستقبلًا، سيكون أرخص بكثير من الأدوية للتخفيف من الألم.
النقائض في “التهويدات” العربية
الشاعر السوري ظافر صالح الصدقة، يرى أن “التهويدة” كغيرها من الأهازيج، ترتبط بتضاريس المنطقة وتاريخها وواقعها، وأن هذه العوامل وغيرها خلقت الاختلافات في الكلمات ومدلولاتها، مع تشابه “التهويدات” في إطارها العام إلى حد كبير.
عنب بلدي سألت الشاعر الصدقة عن معنى “التهويدة”، ورأى أنها تجسد لحظة حميمية بين الأم وطفلها، وأن علاقة الأم بطفلها تحكمها قواسم مشتركة في كل أرجاء العالم، كالحنان والرجاء بغد مشرق إلى التطرق للواقع المعاش بعبارات بسيطة.
وبالنظر إلى الفوارق بين “التهويدة العراقية”، و”التهويدة السورية”، يظهر بوضوح أن الحروب والمآسي والاقتتالات الداخلية تركت أثرًا عميقًا على “التهويدة العراقية”، بينما يغلب على “التهويدة” أو “الهدهدة السورية” عاطفة الحنان والحب، وإن كانت كل “التهويدات” في الوطن العربي، وربما في دول الغرب أيضًا، ترتبط بترغيب الطفل بالنوم، وربط نومه بالجائزة والمكافأة.